مناضل حتى الرمق الأخير
محمد الكحط – ستوكهولم-
غادرنا بهدوء الرفيق عزت الحاج عثمان صالح (أبو ستار) أو (أبو علي)، أحد الرفاق الكوادر من المناضلين القلائل الذين تمتعوا بالحس الثوري والأمني، هذا الرفيق الذي تدهشك بساطته رغم عطائه الكبير وصموده وتحمله لأصعب المهام وحمله لأخطر الأسرار، سنوات طويلة عاشها في ظروف ٍ صعبة للغاية كان بينه وبين الموت خيط شعره، لكنه كان يقضا بحس ثوري ملفت.
ولد الرفيق أبو ستار في كركوك سنة 1938م، في مدينة التآخي العراقية التي تجمع كافة ألوان الطيف العراقي، حيث أنهى فيها دراسته الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، ومن ثم أنهى الدورة التربوية ليصبح معلما في قرى كردستان التي تعاني آنذاك من الأمية، وأول تعيين له في بامرني سنة 1959م.
عاش وسط عائلة الحاج عثمان الذي كان يدير مطعما للكباب وكان يشجع أبناءه على العمل وترك الدراسة، وكان ولده عزت من الذين أجبرهم على ترك المدرسة والعمل معه، كانت العائلة مؤلفة من أحد عشر فرداً ومع ذلك كانت الحالة المادية ميسورة، ترك الوالد مهنة أدارة المطعم بعد عودته من الحج سنة 1952م، وليتبرع بالمحل إلى أقدم عامل لديه. ليتحول إلى مهنة أخرى وهي بيع الأقمشة، حينها عاد الفقيد إلى مقاعد الدراسة ليواجه صعوبات جديدة لكنه اجتازها بمهارة، في هذه البيئة البسيطة الطيبة ترعرع الرفيق الفقيد أبو ستار، وليتعرف على أفكار الحزب الشيوعي في المرحلة المتوسطة عن طريق الرفيق فتح الله عزت وأخيه محمد عزت المعروفين لدى الجميع ولدى التحقيقات الجنائية كونهما شيوعيين، حيث كانا يعتقلان كلما زار الملك فيصل الثاني المدينة أو حتى عند عبوره من كركوك لزيارة السليمانية مثلاً، ثم يطلق سراحهما بعد رجوع الملك إلى بغداد، كما يتعرض بيتهما للتفتيش بين فترة وأخرى، وأصبح صديقا مرتبطاً بالحزب منذ سنة 1953م، ولصغر سنه لم يرشح للحزب حينها حتى أصبح عمره 18 عاماً، لكنه كان خلالها نشطا وكسب العديد من الأصدقاء والمتبرعين، والغريب في الأمر عندما أخبره الرفيق فتح الله بقبول ترشيحه وعليه ملأ بطاقة الترشيح للحزب، تردد وطلب مهلة للتفكير ليسأل نفسه، (هل باستطاعتي أن أكون شيوعياً وأواصل الطريق مع حزبي)، وطلب إمهاله للرد إلى الغد ليفكر جيداً، يتذكر الرفيق الفقيدأبو ستار تلك اللحظات ومكانها حيث كان اللقاء في مقبرة كركوك الكبرى، (وهذا الرفيق أنشق عن الحزب ثم أستشهد تحت التعذيب في أقبية نظام البعث العفلقي)، ووسط استغراب وذهول الرفيق الذي أحمر وجهه من الرد أتخذ قراره بأن طلب من الرفيق ملء الاستمارة فوراً، وهكذا بدأت الخطوات الأولى من المسيرة التي امتدت الى حين وفاته.
بعد أشهر من ترشيحه نال شرف العضوية منتصف عام 1956، ليبدأ مشواره ككادر حزبي في كركوك، قبل العمل في الحزب نشط في العمل الطلابي وتحمل العديد من المهام وبعد دمج اتحاد طلبة كردستان مع اتحاد الطلبة العام، قاد اتحاد الطلبة العام عندما كان في الإعدادية.
في يوم 13 تموز 1958 كان مع والده عائدا من بغداد إلى كركوك، وفي اليوم التالي كان في طريقه ليفتح المحل وإذا به يسمع من المذياع خطابات وكلمات حماسية عن ثورة الضباط الأحرار الذين أطاحوا بالحكم الملكي العميل، فرجع مسرعا إلى البيت ليرمي المفاتيح للوالد بشكل لاشعوري صائحا “صارت ثورة وسقط النظام الملكي، أفتحوا الراديو” ثم خرج راكضاً إلى وسط المدينة وإذا بمظاهرة صغيرة تنطلق من بين المحال التجارية خلف شارع الأطلس، لكن المظاهرة بقيت محدودة.
ومن ثم دخل الدورة التربوية في ثانوية كركوك وتخرج معلماً عام 1959م، حيث عين بعدها في الموصل وأول تعيين له في قرية بامرني التابعة آنذاك لسرسنك، تلك القرية التي تميزت بشدة صراعها الطبقي بين الفلاحين من جهة وعائلة النقشبندي من جهة أخرى، هذه التجربة أكسبته الكثير من الخبرة في العمل بين الفلاحين.
كانت المشاوير طويلة وظروف العمل السياسي صعبة، تنقل الفقيد خلالها للعمل بين عدة مدن مواصلا نشاطه الحزبي، وعندما حصل انقلاب 1963م، كان مديراً لمدرسة ابتدائية في احدى قرى الناصرية، التابعة لناحية العكيكة ضمن قضاء سوق الشيوخ، كان رفاق الحزب في حالة إنذار إلا أن الرفاق المسؤولين أصروا عليه للسفر إلى أهله عبر بغداد بسبب عطلة نصف السنة، فسافر إلى بغداد حيث التقى عائلته في منطقة باب الشيخ، في يوم الانقلاب الأسود بدأت المقاومة في المنطقة حال شيوع خبر الانقلاب، تقدمت دبابات الانقلابيين باتجاه وزارة الدفاع، فساوره القلق، وكان همه العودة إلى الناصرية ليكون بين رفاقه، وحال رفع حظر التجوال سافر إلى هناك ليعرف أن العديد من رفاقه قد شتتوا بين معتقل وهارب.
بقي الرفيق ابو ستار يقود الخط الطلابي والعمالية وعضو في اللجنة المحلية في السليمانية حتى 1965، بعدها أنتقل إلى بغداد ليحترف العمل الحزبي بطلب من الرفاق وعمل في عدة أماكن حزبية، والبيوت السرية للحزب منها مع الرفاق عزيز محمد وزكي خيري وبهاء الدين نوري، كما عمل في منطقة بغداد السرية التي كانت تجتمع ليلا وتتألف من الرفاق أبو فاروق، بهاء الدين نوري، عادل حبه، حسين سلطان، وأبو ستار، وعمل في “لجنة التنظيم والرقابة المركزية” من العام 1969-1971، اي قبل وبعد المؤتمر الثاني للحزب.
عاد للعمل في لجنة منطقة بغداد ومكتبها حتى انعقاد المؤتمر الوطني الثالث للحزب، بعدها تحول للعمل في المقر العام والعمل في “لجنة التنظيم المركزية” حتى اختفائه الأخير في شباط 1978م، ليتحول إلى العمل السري، فبعد إعدام عدد من الرفاق عام 1978، كان الحزب في وضع حرج يتطلب التحول إلى العمل السري وحماية كادره وقيادته، فشخص الحزب مجموعة رفاق ذوي إمكانيات تنظيمية بعد انسحاب رفاق اللجنة المركزية خارج العراق، فتشكلت لجنة الداخل القيادية من عدة رفاق، واتخذت العديد من التدابير وحتى ذلك الوقت كان مقر الحزب العام مفتوحاً
أستمر الرفيق الفقيد أبوستار في العمل السري المعقد في الداخل حتى عام 1991م وهو الخط الوحيد الذي أستمر بسرية، كان التنظيم على شكل خيطي غطى العراق كله رغم قلة عدد الرفاق العاملين، وكان يتواصل مع قيادة الحزب.
بعد الانتفاضة سنة 1991م، وعمل في الإقليم كعضو لجنة إقليم في المقر العام في شقلاوة من الصباح حتى المساء، حيث أنتخب إلى لجنة الرقابة المركزية وأصبح سكرتير تلك اللجنة.
وصل الفقيد عام 1994م إلى السويد. وفي المؤتمر الأول للحزب الشيوعي الكردستاني، لم يرشح نفسه، مما دعى العديد من الرفاق لأن يستغربوا ذلك، طالبين منه الترشيح ومعرفة سبب امتناعه، فجاءهم جوابه، (أنني مستعد أن أمزق جواز سفري أمام المؤتمر ولا أعود للسويد، لكنكم عليكم أن تعلموا بأنني لم أرى أطفالي وعائلتي منذ أربعة عشر عاماً ونصف العام، حينها انطلقت عاصفة من التصفيق تحية له على موقفه الإنساني الرائع.
هذه اللقطات البسيطة لمسيرة طويلة لا تمثل إلا جزءاً يسيرا من المهام والصعوبات الجمة التي عاشها الرفيق أبو ستار، هذا الإنسان الشيوعي الطيب المعطاء، لم يثنيه عن ذلك قدم العمر أو المرض أو المشاكل العديدة الأخرى التي نواجهها كل يوم. نقول له وداعاً أيها المقاتلالعنيد، نم قرير العين فعطائك لا ينسى، ولن ينساك رفاقك وأحبابك، الى المجد رفيقنا الغالي أبو ستار.