استشارية التنمية والابحاث
النرويج
تتناول هذه المداخلة قضيتين تتعلق الاولى بقرار المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية “المحاصصة السياسية” في توزيع المناصب الحكومية؛ وهي بنظري من اخطر أشكال وممارسات الفساد السياسي والفساد المُشرعَن “كلبتوكراسي” التي، كما اثبتت الوقائع والبيانات المتوفرة، استنزف موارد الدولة على حساب التنمية المستدامة، اما الثانية فتتعلق بقضية حديثة عن الفساد المريع في وزارة الكهرباء تخص عقد شركة سيمنز لتأهيل محطة كهرباء بيجي؛ وهي بنظري قضية مهمة من الجوانب القضائية في تحديد المسؤولية القانونية في تاثيرات الفساد الكارثية على حقوق المواطن الاساسية.
بعث لي في الآونة الاخيرة بعض الاخوات والاخوة من داخل الوطن مجموعة من الوثائق التي تشير الى حصول تطورات مهمة تتعلق بموضوع الفساد المستشري في كافة المرافق؛ وبعد التأكد من صحة تلك الوثائق، اضافة الى ثقتي العالية بمصداقية الاشخاص (دون ذكر اسمائهم في الوقت الحاضر) الذين بعثوا بها، وما متوفر في قاعدة المعلومات الواسعة التي احتفظ بها، وجدت من الضروري جدا والملائم ايضا كتابة هذه المساهمة بشأن ما ورد في تلك الوثائق وتبعاتها، خاصة وان المنهاج الوزاري للحكومة الحالية اعتبر “مكافحة الفساد من ضمن اولويات الحكومة” وافرد لذلك بند خاص “خامسا: مكافحة الفساد والاصلاح الاداري”.
المحكمة الاتحادية العليا تقر بعدم دستورية “المحاصصة السياسية”
سبق لمجلس النواب ان اصدر “القرار التشريعي” رقم 44 لسنة 2008 الذي صادق عليه مجلس الرئاسة في حينه وقد نشر ذلك القرار في جريدة الوقائع العراقية الرسمية بعددها 4102 في 24/12/2008.
نصت الفقرة (6) من ذلك القرار على “تنفيذ المتفق عليه من مطالب القوائم والكتل السياسية وفق استحقاقها في اجهزة الدولة لمناصب وكلاء الوزارات ورؤساء الهيئات والمؤسسات والدرجات الخاصة وعلى مجلس النواب الاسراع في المصادقة على الدرجات الخاصة.”
اقام د. شهاب احمد عبد الله على النعيمي (ووكيلاه المحاميان شوكت سامي السامرائي ومقداد سامي الجبوري) دعوى على رئيس مجلس النواب/اضافة لوظيفته امام المحكمة الاتحادية العليا وطلب الحكم بعدم دستورية الفقرة (6) اعلاه.
عُقدت جلسة المرافعة في 14/10/2019 واصدرت المحكمة “قرار الحكم بالاتفاق باتا وملزما للسلطات كافة” بعدم دستورية الفقرة المذكورة وذلك في الجلسة المنعقدة بتاريخ 28/12/2019. وقد سرد كتاب المحكمة الاتحادية العليا (عدد:89/اتحادية/2019) الحيثيات والحجج القانونية والدستورية التي ادت الى هذا الحكم الذي صدر باجماع كافة اعضاء المحكمة ورئيسها.
بودي تسجيل الملاحظات التالية على هذا القرار:
- ان هذا القرار مهم للغاية واعتقد بانها المرة الاولى التي تؤكد فيها المحكمة الموقرة بعدم دستورية ممارسات القوائم والكتل السياسية، حيث ورد في القرار ما يلي “ان السير في خلاف ما نص الدستور عليه قد خلق ما يدعى بـ(المحاصصة السياسية) في توزيع المناصب التي ورد ذكرها وما نجم عن ذلك من سلبيات اثرت في مسارات الدولة وفي غير الصالح العام اضافة الى مخالفتها لمبدأ المساواة بين العراقيين امام القانون،….، ومبدا تكافؤ الفرص” التي ضمنها الدستور؛
- ان الفجوة الزمنية بين “شرعنة” المحاصصة السياسية في 2008 والاقرار القضائي بعدم دستوريتها طويلة نسبيا وتجاوزت العقد من الزمن مما خلق واقع “المصالح العميقة” الذي ستعمل الكتل السياسية على الدفاع عنه بكل الوسائل غير المشروعة وغير الدستورية؛ وهذا يتطلب من الجميع الحذر من التجاوزات المحتملة ومحاولات الالتفاف لإفراغ هذا القرار من جوهره ومحتواه؛
- كل الاحترام والدعم والتقدير للمحكمة الاتحادية العليا الموقرة التي اثبتت من جديد دعمها لحق المواطنين في الطعن بالقرارات والقوانين التي تتعارض مع مصلحة المواطنين التي ضمنها الدستور، رغم عيوبه الكثيرة، فقد سبق وان حكمت المحكمة الموقرة بقبول الطعن بالعديد من المواد الاساسية الواردة بقانون شركة النفط الوطنية؛
- يستحق الاخ د. شهاب احمد عبد الله على النعيمي ووكيلاه المحترمان (الذي لم اتشرف بعد بمعرفة اي منهم) كل التهنئة بنجاح الدعوى وكل الشكر والتقدير على هذه المساهمة الوطنية التي سيسجلها التاريخ علامة فارقة ومضيئة في مسيرة حياتهم ونهجهم الوطني؛
- يجب ان يشكل نجاح هذا الطعن والطعن الذي سبقه بقانون شركة النفط الوطنية حافزا للجميع في مراجعة القوانين والقرارات التشريعية وغيرها من المشكوك في تعارضها مع الدستور الى بحث امكانية الطعن بها امام المحمة الاتحادية العليا.
الفساد المريع في وزارة الكهرباء
تم تشكيل لجنة في وزارة الكهرباء مكونة من ستة رؤساء مهندسين لغرض تحديد “الكلفة التخمينية لمشروعي بيجي الغازية 1 و 2 ” وبموجب ثلاثة اوامر وزارية كان اخرها بتاريخ 26/2/2020. قامت اللجنة “بزيارة الموقعين والكشف عنهما كشفا تفصيليا والاطلاع على واقع المشروعين بالتفصيل” وقدمت تقريرها، المكون من ثلاث صفحات (عدا جدولين تفصيليين كمرفقات) وموقعا من كافة الاعضاء بتاريخ 7/5/2020، الى وكيل الوزارة لشؤون الانتاج.
خلص التقرير الى ان تكون الكلفة التخمينية لكل محطة على اساس (مفتاح جاهز) وتعمل على اربع انواع من الوقود كما يلي:
مشروع محطة كهرباء بيجي الغازية (1) تكون بحدود (414669500) يورو؛
مشروع محطة كهرباء بيجي الغازية (2) تكون بحدود (418153326) يورو؛
وبذلك تكون الكلفة التخمينية الكلية للمشروعين بحدود (832822826) يورو.
يستدل مما اوضحته النائبة عالية نصيف ان وزارة الكهرباء طلبت موافقة مجلس الوزراء على نفس العقد بقيمة 1.3 مليار يورو مع ائتلاف شركة سيمنز وشركة اوراسكوم وذلك بدلالة قول النائبة “وهذا الفارق في المبلغ جعل مستشار مجلس الوزراء يطالب بعدم ابرام العقد”، وعليه لم يوقع العقد.
لم تحدد النائبة اسم المستشار ولا الى وقت الرفض ولم توفر الاوليات الخاصة بذلك مثل الكتب والمراسلات بين وزارة الكهرباء ومجلس الوزراء حول هذا المشروع المكلف. ربما تحتفظ النائبة بتلك الادلة لتقديمها امام المحكمة التي ستنظر بالدعوى القضائية التي اقامها وزير الكهرباء السابق لؤي الخطيب عليها، كما اوضحت النائبة. وقد طالبت النائبة، حسب ما وصلني يوم 14 ايار الحالي، “رئاسة الوزراء والقضاء وهيئة النزاهة باصدار توجيهات فورية بمنع سفر الجهات العليا في وزارة الكهرباء المتورطة بفضيحة فساد في عقد محطة بيجي”
كتب زيد الطالقاني، من مركز الرافدين للحوار في بغداد، في تغريدة بتاريخ 11 ايار الحالي ان “هذه صفقة فساد والان الملف امام هيئة النزاهة والقضاء#-سرعة-الاجراء-لطفاً”؛ وقد ذكر اسم وزير الكهرباء لؤي الخطيب ومبلغ العقد مليار و300 مليون يورو.
لقد شدد رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي خلال زيارته الاخيرة الى وزارة الكهرباء، يوم الاحد 17 ايار الحالي، على “ضرورة محاربة الفساد، خصوصا في ما يتعلق بالعقود الاستثمارية ذات الربحية العالية، وما شهدته المرحلة السابقة من ظاهرة اثراء المسؤولين نتيجة استغلال وظيفتهم الحكومية، وهو امر مرفوض ولابد ان ينتهي”.
ومن الجدير بالذكر انني تناولت ونشرت وبينت ان بعض الممارسات التي اعتاد الوزير السابق لؤي الخطيب على القيام بها منذ الايام الاولى لإستيزاره غير مشروعة وقد ترقى لان تكون مشجعة للفساد وتتعارض مع مبادئ “العدالة الطبيعة” المرتبطة بتناقض المصلحة وادعاءاته التي تتطلب التحقيق من قبل الهيئات الرسمية المعنية بالدراسات العليا في كل من العراق وبريطانيا. وقد ساهمت متابعاتي تلك، ومتابعة بعض المخلصين من المعنيين، في ايقاف بعض الممارسات الخاطئة لوزير الكهرباء، وتحتل قضية فساد عقد شركة سيمنز- اوراسكوم موقع الاهتمام القانوني القضائي.
بما ان وزير الكهرباء السابق لؤي الخطيب قد اقام دعوى قضائية على النائبة عالية نصيف من جهة وان ملف هذه القضية امام هيئة النزاهة والقضاء بطلب من النائبة ذاتها من جهة اخرى فانه من الضروري جدا البدء بهذه الاجراءات القانونية باسرع وقت ليصدر القضاء حكمه في ضوء الادلة المادية الثبوتية التي يبدوا انها كثيرة ومتوفرة ومبالغها هائلة، حتى في حالة عدم توقيع العقد؛ تشير الشواهد القانونية والقرارات القضائية على المستوى الدولي ان الشروع بالقتل جريمة يعاقب عليها القانون حتى في حالة عدم تحقق القتل، والشروع في السرقة جريمة يعاقب عليها القانون حتى في حالة عدم حصول السرقة، والشروع في توقيع عقد فساد ،كما في هذه الحالة، يجب ان يشكل جريمة يعاقب عليها القانون حتى في حالة عدم توقيع العقد الفاسد. وهذا يقع كذلك ضمن المبادئ والاسس المتعلقة بالإجراءات الاحترازية والعقابية التي تضمنتها الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد والاستراتيجية الوطنية (في العراق) لمكافحة الفساد وقواعد عمل ومهام الهيئات والجهات الوطنية (مثل هيئة النزاهة، لجنة النزاهة النيابية؛ المجلس الاعلى لمكافحة الفساد) والمنهاج الوزاري للحكومة الحالية.
مع كل الود والتقدير
اخوكم
احمد موسى جياد
النرويج
19 ايار 2020