_ “ايها الرفاق …اترجاكم ان تواصلوا المسير، ولا تتبضعوا الماء والمشروبات الباردة، دعونا لساعات نحس بالجوعِ والعطش كحال اهلنا المحاصرين في قمة الجبل”.
كانت الحشود الغاضبة والحزينة قد وصلت بمسيرتها لأحدى محطات تعبئة الوقود في مدينة بيلفيلد الالمانية، كثرة الصراخ والبكاء جعل الكثيرين من المتظاهرين عطشى، واستغل البعض التسلل لشرب الماء او شراء السكائر، الا ان احد المُنظمات عن التظاهرة وبكلماتٍ بسيطة جعل الجميع يتراجع بخجل الا انا، فقد خرجتُ بسرعة البرق من بين الحشود بعد مشاهدتي لمحطة التعبئة حتى اصِلها غير معنيٍ بالكلام الذي سمعته. حاولَ شابٌ وفتاة من المنظمين منعي برفق، وقبل بدئهم بالتنبيه والتعليمات اخبرتهم متلعثماً: أنا سنجاري.
_عفوا اخي تفضل…افسحوا له المجال انه على عجل.
لم انتظر كثيرا في المحطة، اذ قمت بشراء ثلاثة بطاقات تعبئة رصيد الهاتف وخرجت. ما ان رايتُ هيئتي من الزجاج العاكسة للمحطة من عيونٍ متعبة وشعرٍ غير مصطف حتى علمت سبب اعطاء اغلب المتبضعين وسائقي السيارات دورهم لي عند خزينة الدفع. اُتطلعُ لأرقام الهواتف الجديدة التي وصلتني في الساعتين الاخيرتين، في كل ساعة اضيف ارقام جديدة لأشخاصٍ مجهولين او معلومين، اقارب، معارف، جيران، قتلى، سواق تاكسي، اي رقمٍ يُبعث لي لتقصي ومعرفة طريقة امنة لوصول اختي و اخي واولاد اعمامي الى بر الامان.
بعدما ان صنف الاتحاد الاوربي حزب العمال الكوردستاني كمنظمة ارهابية في بداية الالفية الجديدة، حول كوادرها في اوربا والعالم نشاطهم السياسي وتأثيرهم الى حراك مجتمعي في منظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان تحت جنح جميع الاحزاب اليسار الاوربي، وقد طوروا ادائهم وادواتهم وتنظيمهم العالي في عمل التظاهرات المؤيدة لنشاطهم ولحقوق الكورد عموماُ، خصوصاً بعد الملاحم التي سجلها قوات الـ ي ب ك الجناح العسكري للحزب في سوريا وانقاذهم للعوائل الـُعزل من الجوع والحصار الذي فرضه داعش لهم في جبل سنجار منذ اسبوع، الجماهير التي وصل عددها الى ما يقارب 6500 شخصاً، اغلبهم لا يعرفون اين تقع مدينتي سنجار ولا شيئاً عن جغرافيتها، لكنهم يصرخون و بنشاطٍ منقطع النظير وهمة شخصٍ واحد: ” الشهيد لا يموت…سنجار لا تموت…تحيا ال ي ب ك ” ، وبفعلٍ لا ارادي،وما ان تنطق الجموع بلغتي الام ” شنكـــال” حتى تنساب الدموع الساخنة من عيني، الدموع والحزن وخيبات الامل انهكت جسدي هذا الاسبوع. استلمُ رقم هاتفٍ جديد بعثه لي (زيدان) صديق الطفولة والذي يقطن في هولندا والذي ودعته مساء يوم امس بعد انتهاء مظاهرات بروكسل امام مبنى الاتحاد الاوربي في بلجيكا المطالبة بأنقاذ الايزيديين المحاصرين في جبل سنجار. يحمل زيدان نفس همومي واوجاعي في البحث عن ناجين جدد من اصدقاء واقارب وجيران، الرقم المرسل وكما مكتوب في الرسالة لعلي قاسم حجي “ابو حسين ” المكنى في القرية بـ”علي غزالة”!
كان قد القي القبض على اختي وزوجها وابنها الرضيع في الساعات الاولى لدخول داعش لمدينة سنجار، بعدما ان تعطلت بهم السيارة في طريق الصعود الى جبل سنجار محاولين الاختباء هناك كحال معظم الاهالي بعد الهروب الغريب والمريب لجميع قطعات و تشكيلات البيشمركه المسؤولة عن حراسة القضاء وضواحيه في ساعات الفجر الاولى.
اقتيدَ الثلاثة مع الكثير من العوائل الايزيدية الى “مفرق سنجار” لأجل تسفيرهم الى مدينة تلعفر المهجورة التي جعلتها الحاجة بأن تكون سجناً مؤقتاً وكبيراً لهذه الملة المظلومة، صدفةٌ مجنونة جعلت احد القادة العشوائيين لهذا التنظيم الارهابي_ وما اكثرهم_ أن يأمر بتحرك السيارات المملوءة بالغنائم الى تلعفر، واخلاء سبيل البقية وعودتهم لبيوتهم لحين التفرغ لهم، لكن عائلة اختي تقرر ان لا تعود الى المنزل، بل تسلك طريقاً ترابياً لقريةٍ صغيرةٍ بأطرف سنجار تدعى (باشوك) يسكنها عوائل كوردية مسلمة، وصلوا الى القرية كـ” دخلاء “على اهلها مع خائفين اخرين من موتٍ محتم. يضع احد وجهاء القرية روحه على كفه، ويشاور عقله وضميره، يستنجدُ بحِكم كل اسلافه لعله يصيب في قراره هذا، كلمةٌ بسيطة تـُنطق وتخرج من تحت اللسان ثقيلة الحمل كالجبال تجعله في مطاف الخالدين في هذه البقعة المضرجة بالدم، يقولها السيد ( جهاد حسين) في حضرة الايزيديين المرعوبين والخائفين : ايها الجيران واصدقاء الطفولة، سيكون حالكم من حالي، وسيكون مصيركم من مصير هذه القرية، الى ان يجد القدر فرجاً لنا ولكم. سنحاول اما ان نوهمَ (داعش) قدر المستطاع الى ان نفر بجلودنا من هذا الكرب، او نموت معاً مظلومين كحال اخوتنا الذين يـُقتلون الان بدمٍ بارد. اسبوعٌ كامل يغربل الرجل عوائل قريته هنا وهناك، يُسفر من يستطيع الاعتماد عليه الى مدينة الموصل من مَن يمتلكون هوية الاحوال الشخصية التي تثبت انه (مسلم الديانة)، ليجد طريقاً من هناك الى مدن كوردستان حيث الامان، لكنه يعلم علم اليقين بأن نجاة كـُرفانه* الايزيديين عبر المرور من هذه الطرق ضربٌ من المستحيل ومجازفة لا يحمد عقباها، لذا يتانى عسى ان يفرج القدر ممراً الى الجبل وتنجو هذه العوائل من مخالب الموت. تقرر العوائل الايزيدية بعد يأسٍ الانطلاق صباحاً نحو نقطة اقرب بأتجاه الجبل شاكرين كريفهم الوفي وحاملين جميلـهُ ديناً فوق اعناقهم المتعبة، مخبأ جديد ينقذهم من هذا الجنون وهذا النزق المتعطش لدماء الايزيديين والشيعة واي مختلفٍ عن هذا الفكر المريض.
وقع الاختيار على قرية (همدان )، اقرب النقاط الى وديان الجبل، اذ لا يفصلها عنه سوى الشارع الرئيسي المؤدي من سنجار الى تلعفر والموصل، لكنه اكثر طرق المنطقة حيوية وحركة. قرية (همدان) هجرها اهلها خلال هذه الايام الخمسة من عمر داعش في المنطقة، فقد قـُتل من قـُتل، وهربَ من هربَ، واختبأ من يحاول البحث عن فرصة اخرى للحياة. بنظارته السوداء التي تحجب بؤسَ عينيه وتخفي ملامح حزنه العميق يجلس “ابو حسين” في احد بيوتاتها ويضرب الاخماس بالاسداس، لقد فقدَ خلال هذه الايام اكثر من عشرين فرداً من افراد عائلته، واصبحوا في لحظة طائشة من هذا الزمن في عداد المفقودين. كان قد اوصى ابنه هاتفياُ على ان يحملَ بعض المؤن واكبر عدداٍ من افراد اسرته الكبيرة ويرحل بالتراكتور بعد ربط العربة بمؤخرتها نحو الطريق غير المعبد للجبل، ليلحقه هو ومن تبقى من العائلة فيما بعد، الا ان داعش كانت اسرع، والقت القبض عليهم جميعاً مع ممتلكاتهم، ولا اخبار جديدة عنهم رغم توسل ” ابو حسين” ورجاءه المستمر واتصالاته المكثفة منذ ايام من معظم معارفه من عرب الجيران العارفين بتحركات عناصر داعش_والذي يشكل هم واولادهم نواته في المنطقة_ الا انه دون جدوى، ولا حيلة بات يمتلكه هذا الكهل الاشقر الطويل، صاحب الضحكة المجلجلة والنكتة الحاضرة التي اصبحت للاسف فعلاً من الماضي. يدخلُ عليه في تلك الاثناء جيشٌ من الهاربين المُتربين والمنهكين من المشي والتعب، يعرف ملامح اغلبهم جيداً، بـصلة الدم او رعشة الخوف او الملامح الحزينة للصبية والبنات، انهم جيرانه التواقين للحياة ومن بينهم اختي( بياز).
خرجتُ من صخب التظاهرات جانباً لأتصالَ بـأبو حسين الذي وصلني رقمه للتو، وعلمت من زيدان في حديثٍ سريع بمأساة الرجل. اعلم يقيناً بأن بقاء الناس في داخل البيوت والمخابى في سنجار لن يدوم بعدما ان يتفرغ هذا التنظيم الارهابي من سرقة ونقل الاشياء المهمة، كذلك القتل العشوائي والاعدامات الميدانية السريعة كانت شاهداً حياً على استحالة التفاهم او التفاوض مع هذا الغول المتوحش، ولا حلول سوى انقاذ ما يمكن انقاذه بالهروب الى الجبل، والذي ينقصه كل شي، رغم اغاثات الطيران العراقي الفقيرة والخجولة جداً مقارنة مع هول الكارثة.
_ ” شيخي العزيز “*…هل سننجو؟!
كانت الصدمة الموجعة مع اولى الكلمات التي اسمعها من اتصالي بأبو حسين، فقصصه الكثيرة المعروفة في ذاكرتي الطفولية لا تشبه هذا الصوت القادم من اعماق الموت، صورة ابو حسين التي احملها في مخيلتي تتحدث عن قفشاته وضحكاته و بسالته وهزيمته للموت اكثر من مرة، اخرها في السنة الاخيرة للحرب العراقية الايرانية عندما اصيب بعينه، لكنه لم ييأس وهزم الموت شر هزيمة. فهمت من اتصاله ان بات بلا خيار واضح، فزوجته واولاده وبناته واحفاده والبعض من اطفالِ اخيه في قبضة (داعش)، ولم يتبقى معه الا بعض الاحداث الصغار من عائلته يبكون عليه ويزيدونه لوعة. بعد اتصالات مكثفة منا ومن محبين كثر مع المتواجدين في قرية (همدان) شحذنا الهمم لأقناعهم واقناع ابو حسين بأن يجازف ويقود هذه الجموع الخائفة الى بر الامان بأتجاه قمم جبل سنجار الذي ما زال عصياُ على ( داعش) بعد اغلاق طريقيه المبلطين من الشمال والجنوب من قبل الهاربين من بطشهم. جبل سنجار من جهته الشرقية عاقرٌ وفقير المورد والماء، تخربشُ تربته سيول الامطار بين موسمٍ واخر، وتحفر طريقاً جديداُ لها لتمر بشوق الى وديان وسهول المنطقة، وليس هناك افضل من ابو حسين يعرف هضاب و وديان الجبل الذي نشى وكبر فيه. يتفق الجميع على الانطلاق مع غروب الشمس، وكـقوانين الحرب في الصراع من اجل البقاء اخبر ابو حسين الجميع بأن الذي سيتعب ويقف خائراً في الطريق سيسببُ في قتلِ كل القطيع، لذا لابد ان يعبر الجميع بطريقة سلسة ومريحة، واي عبء ثقيل سيطرحُ من جهد المجموعة وتنهار قبل بلوغ الهدف. حينها اعلنت بعض النساء المسنات بقائهم مختبئات في هذه البيوت لعدم قدرتهن على هذا المهام،وعلى امل انقاذ بقية اطفالهن واحفادهن، بعد انتهاءٍ هذا الحديث قامت بعض الشابات وبحذر شديد بتحضير اكبر عددٍ من اقراص (خبز الصاج) للرحلة الاخيرة، وحمل كل شخص بالغ كمية من الماء يسبقهم حمارٌ يحمل ما تيسرَ من اكل وشرب ومرآة عاكسة عند الحاجة كأشارة للاهالي الموجودين وبكثرة على قمة الجبل.
اكثر من مئة شخص يشكلون طابوراً طويلاً كـحية سوداء تسير بمهل ودراية وحكمة من عواقب الاصطدام بأحد. النساء يغلقن افواه الرضع عند البكاء والرجال يأمرون الاطفال بالشجاعة والسرعة وابو حسين يقود الجمع الى الاخاديد العميقة في الهضاب التي ستوصلهم لا محال الى بداية الجبل. بين حواف تلك الصخور الكبيرة يسطع بين الفينة والاخرى نور القمر الباكي على جثث الشبان المقيدين والمغدورين ورائحة الجثث تزيد ظلام وادي “قني” وتملئهُ انيناً وذهولاً ووحشة، يترنح الطابور من شدة البكاء المكبوت حيناً ويتوقف ويتقاطع ويلتف حول نفسه احيانٍ اخرى من وجع مناظر الاحباب الميتين عطشاً و جوعاً بين تخوم الجبل. مع لهيب اشراقة شمس آب تصل العوائل المنهكة بالقرب من قمم مزار (جيل ميران)* وبكاءٌ وعويلٌ وضحكات ونحيبٌ والاف التساولات في انتظارهم، يتلهف الاهالي لمقابلة ابو حسين لمعرفة شيئاُ عن مصير عائلته واطفاله، يشير بذراعه الطويلة الى من معه من نساء واطفالٍ وشباب : هؤلاء عائلتي…كلكم عائلتي…انتم عائلتي الكبيرة…ويبكي ويبكي دونما انقطاع.
*استطاع ابو حسين واقاربه من استرجاع 33 فرداً من عائلتهم بواسطة مهربي وتجار البشر وبمبالغ طائلة.
*13 شخصاُ من العائلة في عداد المفقودين .
*تشتت العائلة بعد احداث داعش بين العراق والمانيا واستراليا وكندا.
* بتاريخ 19.05.2020 ودع الحياة ” ابو حسين”،علي قاسم حجي الملقب بعلي غزالة.
*الشيخ/ احدى الطبقات الدينية الثلاثة لدى الايزيدية( الشيخ،البير،المريد).
*الكريف/ من الروابط المهمة بين الايزيدي ونظيره من الديانات الاخرى، وهي عملية ختان طفل لأحد الطرفين ووضع قطرات من دم المختون على منديل او دشداشة الطرف الاخر،لترتبط العائلتين بميثاق شرف واخوة وجيرة حسنة.