من الغرابة أن ما كتب على المثقف بشكل عام، يفوق كثيرا ما كتب عن السياسي، علما أن الأخير قيمه ومنطقه، ومفاهيمه مبنية على المنهجية المذكورة. ولربما وصف الانتهازي بالانتهازية يخلق إحساسا بالسذاجة، لذلك لم يتطرق إليها العديد من الكتاب والمفكرين، كإشكالية مقارنة بين المثقف الملتزم والسياسي المثقف؛ ونادرا ما قدمت دراسات جدية حول انتهازية السياسي بشكل عام؛ إلى درجة أن مكيافيلي أدرجها كعلم يجب أن يدرسها كل سياسي ناجح، وفعلا قرأ معظم قادة التاريخ كتابه (الأمير) بعكس ما يتناولون فيه هيكلية المثقف، أو بين الملتزم والباحث عن وظيفة، والكل يدرك أن حنكة السياسي تظهر بمدى إنتهازيته للفرص، ولربما خبراته دونها ستكون مطعونة فيها، وفي الواقع جلها تسمى في الوجه الأخر بالمصالح، أما المصلحة الوطنية، أو الشخصية، والأخيرة هي قمة الانتهازية الفاسدة، في الوقت التي تعد الأولى انتهازية بنيت عليها الأمم وتقدمت الشعوب، وهذه من سمات السياسي الناجح، فحتى أولئك الذين خلفوا بصماتهم على صفحات التاريخ، انتهزوا الفرص بكل ما تمكنوا منه، لكنها كانت للمصلحة الوطنية، ولولا تلك المواقف لما حالفهم الحظ ونجحوا في بلوغ أهدافهم، ولما تدرجت معهم كنوع من الذكاء، بعكس ما يوصفون به المثقف، وخاصة الباحث عن مصلحة شخصية فيعرضونها كناقصة وشماتة.
علماً أن المواقف المتعددة للمثقف النزيه والملتزم، والتي قد لا يكون لها حدود؛ إلا مصلحة المجتمع والشعب، تتعارض عن المثقف البسيط الذي يفضل مصلحة عائلته على مفاهيمه، ومواقف الأول درجت على مر العصور التي نهضت فيها أوروبا ضمن خانة التنوير، وللتنوير درجات، بعكس مواقف السياسي المتنقل إما لمصلحة ذاتية أو لمنظمة ما له منها غاية. وفي الواقع غياب الحنكة في الانتهازية، كثيرا ما يكلف المثقف السياسي صفته كسياسي، لذلك وفي هذه الأجواء لا تدرج الانتهازية وغياب الأخلاق كسلبية. وبالمناسبة المثقف الملتزم بالقضية الوطنية والقومية، بعكس المثقف السياسي أو المزيف، لا يقف عند أحد الأطراف لمصلحة ذاتية، ففي مفهومه الكل يخطأ، لا أحد معصوم، ملتزم في كل مواقفه بالأبعاد النسبية.
هذه الإشكالية بدأت تتجلى اليوم ثانية على الساحة الحزبية الكردية، فبعد الأسابيع الأولى من المفوضات بين (الأنكسي والـ ب ي د) ظهرت بوادر مسيرة التلاعب الحزبي بينهما، رغم أنهما يدركان تماما أن الإرادة الدولية تفرض عليهم أتفاقا عاجلا أم آجلا، فلماذا ذر الرماد في العيون، ولماذا الشد والمط في المفاوضات، ولماذا المماطلة في الاتفاقيات، والمطلوب وضع خاتمة مناسبة لها، ومثلما أمليت عليكم وبأسرع ما يمكن، فمن الأولى ألا تخدعوا ذاتكم قبل الشارع الكردي، ولا تراوغوا البعض والمجتمع، فمعظم المراقبين السياسيين الكرد وغيرهم يعلمون أن ما يتم من الإملاءات عليكم هي إرادة دولية لتقرير مصير ليس فقط المنطقة الكردية بل سوريا عامة، ولهذا فنقطة البداية على الأغلب حددت من المنطقة الكردية ومن ضمن الحراك الكردي، وبالتالي يجب أن يتم الاتفاق بينكم وبأسرع ما يمكن، تريحون بها ذاتكم والشعب الكردي، فلا تسجلوا الأمجاد الوطنية على حساب البعض ولا تبيعوا الوطنيات، في الوقت الذي تفرض عليكم الظروف عدم الاستئثار بالقسيمة، كالتنقيب عن مخلفات الأحزاب التي لم يبق منهم سوى الرماد، تلتقطونهم لتكملة العدد تحت حجة إشراك كل الأطراف الحزبية في حواراتكم.
فرغم التقارب الذي حصل بين خمس وعشرين حزبا كرديا محسوبين على الإدارة الذاتية، خطوة إيجابية نثمنها، لكن علينا أولا أن نلاحظ؛ كيف ظهرت كل هذه الأحزاب خلال أقل من عقد من الزمن وفي خضم الصراعات الجارية في منطقتنا الكردية، وما ألت إليه مصير الشعب من حيث الدمار الاقتصادي والهجرة والتهجير وتربص الأعداء بنا، والتي كانت تتطلب التقارب وليس ولادة كل هذه الأحزاب، كالفطور بعد يوم ربيعي ماطر! التي لم تتمكن المربعات الأمنية في عزتها أنتاج مثل هذا العدد.
فمن كان وراء هذا الكم بدون النوعية؟ والغريب بينهم شريحة سياسية ثقافية واعية، ونحن على قناعة أن جلهم لم يكونوا مقتنعين بإيجابية تشكيلهم لتلك الأحزاب، وكانوا على دراية أنها لن تقدم خطوة ناجحة لواقع الشعب، وعلى الأغلب جلهم ينتمون إلى الشريحة السياسية الثقافية الانتهازية. وإلا فلماذا شكلوا تلك الأحزاب، ولماذا الآن تمت الوحدة وليست البارحة، قبل عقد جلسات التفاوض؟ وما هي القوة التي بإمكانها أن توحد 25 حزبا كرديا في يوم واحد؟ ولماذا هذه الحدث الجلل بعد مطالبة الشارع الكردي بتوسيع التمثيل الحزبي في المفاوضات الجارية بين الأنكسي وال ب ي د؟
بلا شك من الجميل توسيع أرضية المشاركين قدر الإمكان، ولكن هنا يغيب البعد الوطني، وتطفوا إشكالية اقتناص الفرص، وعليه يقدمون على إشراك أحزاب لا تمثيل لها على الساحة، ولا تتعدى عدد أعضاؤها شخص السكرتير ونائبه، بل بعضهم كان قد تم التبرئة منه قبل سنتين أيام احتلال تركيا لعفرين، وبالمقابل يتم حتى الآن عزل حزبين رئيسيين كـ (التقدمي والوحدة) تحت حجة أن كل منهم يمثل طرف من أطراف المتفاوضين.
ولتظهر القليل من الشفافية وتطفى الرغبة الوطنية على (الأنكسي والـ ب ي د) يجب تجاوز هذه الخدع الحزبية، والتمييز بين انتهازية الفرص المؤاتة؛ حيث المصالح الشخصية والحزبية، أو الوطنية والقومية، وبين ما يفرض عليهم اليوم والتي تجلب عطف أغلبية الشارع الكردي، أو التفاوض بأكبر قدر من خداع البعض، وهم ينفضحون تحت منطق الانتهازية الحزبية، وبالتالي تظهر ضحالتهم في سياسة انتهاز الفرص الدولية.
ولحرصنا على نجاح المفاوضات، لا بد من تذكير الأخوة على أن الشارع الكردي يسأل، أين هي أحزاب التحالف، وكما ذكرنا، وفي مقدمتهم التقدمي والوحدة؟ ولماذا يبحث الطرفين عن الأحزاب التي لا وجود لها على الساحة، ال ب ي د يفرض عليهم الوحدة، والأخر يضمهم بانشطاراتهم، وعدميتهم؟ ولماذا تثير أحزاب الأنكسي قضية وجودها وعدمه في الإتلاف كأحد أهم الإشكاليات، والموقف من المعارضة ومن التصريحات التركية. وعليهم تجاوز هذه وغيرها من المطبات التي يخلقونها لمواجهة البعض، أو لترجيح الكفة في مراحل التفاوض، لأن عرابهما يبدون جدية في العمل، حتى ولو أنهم لا يتدخلون في مجريات الأحداث، لكنهم يراقبونهم عن كثب.
لذلك نأمل أن يكون الحوار حول مستقبل المنطقة الكردية، مهيمنا على منطق التفاوض، الطاف عليه الخدع الحزبية حتى الآن، ويتم الاتفاق على نقاط التقاطع في الإدارة والبيشمركة و ي ب ك، فالشارع الكردي ينتظر وبلهفة من أن تثمر جلساتهم على نتائج تقنع الأمريكيين والقوى الأخرى بأن الكرد على مقدرة في إدارة فيدراليتهم المستقبلية، وعلى أن قادم المنطقة الكردية ستتقاطع ومصالح أمريكا. فالشارع الكردي يأمل، وبعد مسيرة سنوات من التخوين والاعتقالات، والتهجير، أن يكون الوعي العام أعلى من المنطق الحزبي ضمن قاعات المفاوضات.
وهنا السؤال يطرح نفسه، لماذا يتم تغييب المثقف الملتزم بمبادئه الوطنية والقومية خاصة في هذه المرحلة الحساسة والتي يتطلب حضوره قبل مجموع الأحزاب المتناثرة، ومن هو الانتهازي الذي يبحث عن المصالح الحزبية، ومن يدعم المواقف الوطنية في زمن الأزمات؟
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية