الجمعة, نوفمبر 29, 2024
Homeمقالاتالتحولات اللازمة لمواجهة فيروس كورونا : نائل الشيخ

التحولات اللازمة لمواجهة فيروس كورونا : نائل الشيخ

ربما يتسبب فيروس كورونا المستجد بتعميق الديكتاتورية في تلك الأجزاء من الشرق الأوسط التي تخضع أصلا إلى سيطرة محكمة من جانب الأنظمة السلطوية لكن يحدث أيضا تغيير طفيف لا في درجة السلطوية بل في طبيعتها يكشف التدقيق عن كثب في الطرائق التي تصنع وتطرح بها السياسات عن حدوث تحولات مهمة في الحوكمة في المنطقة في مايتعلق بالجهات التي تصنع السياسات والطرق التي تقدم بها وكيفية تطبيقها هذه التغييرات هي في معظم الأحيان تطورية لاثورية بحيث تستند إلى أنماط كانت واضحة قبل تفشي الجائحة ولهذا السبب من جملة أسباب أخرى تتنوع أساليب التعاطي ولن يتضح قبل انقضاء هذه الأزمة ما إذا كانت التحولات الراهنة تمثل مجرد ومضات عابرة أو أنها بوادر تحولات فعلية .

من هذه التحولات صعود جاذبية الخبرة التقنية ففي بلدان كثيرة يودي أفرقاء جدد في أجهزة الدولة على مايبدو دورا أكبر في تطبيق السياسات وحتى تحفيزها كما يبدو أن المؤسسات الدينية والنقابات الطبية والحكومات المحلية تأخذ مبادرات بنفسها في بعض البلدان إنما ليس في كل البلدان بدلا من أن تكتفي بالاستجابة للتوجيهات الصادرة عن السلطات الأعلى هذا ليس خبرا مستجدا في بعض البلدان لكنه يبرز أحيانا تحت ضوء جديد ففي شمال أفريقيا معاملة التكنوقراط باحترام وتقدير هي ممارسة راسخة في بعض المناطق ونتيجة التغييرات السياسية الأخيرة في السعودية باتت السلطات مسكونة بهاجس الصعود في التصنيفات الدولية الكمية بطريقة أدت إلى حدوث تحسينات في أداء الحكومة .

لكن التكنوقراط تقدموا إلى مجالات كانوا أقل بروزا فيها سابقا يشار في هذا الصدد إلى أن رئيس الوزراء المصري وهو مهندس بارع في الكلام ووزير الصحة هما الوجهان الأكثر بروزا في عرض المعلومات والسياسات الحكومية لايزال الرئيس يرأس البلاد لكنه يترك التفاصيل للآخرين وفي السعودية يعقد المتحدث باسم وزارة الصحة مؤتمرات صحافية يومية بشأن فيروس كورونا ويتحول إلى شخصية عامة شأنه في ذلك شأن وزير الصحة وفي بلدان عدة ظهرت فرق خاصة جديدة من التكنوقراط مايدفع إلى طرح السؤال حول ما إذا كنا أمام طريقة جديدة للقيام بالأمور أم أنها مجرد وسيلة لتحويل الانتباه حدث تحول ثان في مايتعلق بالأشخاص الذين يبدو في العلن أنهم هم من يتولون زمام الأمور عموما وبصرف النظر عما يحصل خلف الكواليس ينكفئ الحكام السلطويون في معظم الأحيان ويفسحون في المجال أمام الخبراء التقنيين والمسؤولين الذين لم يكونوا يطلون على الجمهور من قبل كي يتقدموا إلى الواجهة في شرح السياسات والإدلاء بالمعلومات ربما يندرج ذلك في إطار نزعة عالمية حيث يسعى القادة المنتخبون ديمقراطيا إلى إظهار أنهم ممسكون بزمام الأمور حتى لو كانوا يفعلون ذلك بالارتكاز على الخبرات التقنية ويبدو السلطويون بدورهم أكثر ميلا إلى ترك الآخرين يعلنون الأنباء السيئة والتعليمات غير المرحب بها .

لكنها ليست نزعة معممة فاثنان من ملوك المنطقة هما العاهل المغربي الملك محمد السادس والعاهل السعودي الملك سلمان يبرزان في العلن مع الإشارة إلى أن الأول يحكم البلاد على نحو واضح ولايكتفي فقط بالجلوس إلى سدة العرش ربما يندرج ذلك في إطار مجهود يرمي إلى تسليط الضوء على الرموز الوطنية الموحدة (على سبيل المثال تقدم الأزهر في مصر إلى الواجهة) في بلدان كثيرة عندما يطل الرئيس أو الملك يكون الهدف من الإطلالة إعلان أخبار سارة أو طمأنة الناس أو حض المسؤولين على العمل الوقوف في واجهة عمليات الاستجابة يضع القادة أمام فرص ومخاطر على السواء فتسلم زمام الأمور علنا في المدى القصير قد يساهم في تدعيم الشرعية بما يؤدي إلى تعزيز صورة المنقذ ولكنه يثير في المدى الطويل خطر المساءلة إذا تسببت الأزمة بتداعيات وخيمة جدا في أي من هذه البلدان فقد يجد الحكام الذين يضعون أنفسهم في صلب مواجهة الأزمة صعوبة في إبعاد اللوم عنهم أكبر من تلك التي كانوا ليواجهوها لو ظلوا في الخلفية .

التحول الثالث هو انحسار الانقسام والممارسات القائمة على البحث عن أكباش محرقة وتراجع نظريات المؤامرة ربما يحمل ذلك أنباء سارة في منطقة حيث عملت الأنظمة أحيانا على زرع الانقسام في صفوف شعوبها أو ألقت باللائمة على الآخرين أو بحثت عن أكباش محرقة لم تختف تلك العادات لكنها تبدو أقل بروزا في المرحلة الراهنة ولعل السبب هو أن إجراءات الصحة العامة تتوقف على الامتثال الذي لاتعيقه اختلافات إثنية أو نزاعات مذهبية أو حدود ربما يبرز اتفاق جماعي أساسي في بعض الأماكن من أجل التركيز على الإجراءات الفورية والصارمة بدلا من الانجرار وراء نظريات المؤامرة واستخدامها للتسبب بمزيد من الفرقة لدى السكان لقد لجأت القيادة السعودية إلى الأشكال التقليدية من الإدارة الشاملة لشؤون الدولة ومن مصادر الشرعية لتوليد امتثال عابر للقطاعات في حين أجازت انتقاد النزعات الأخيرة للقومية وفي مصر أصرت المؤسسات الدينية على امتلاك بعض الاستقلالية الذاتية ولكنها نجحت في تنسيق جهود مكافحة الوباء على مستوى التجمعات العامة في دور العبادة.

يتعلق التحول الرابع بتعزيز آلية ضبط المعلومات بسبب انتشار فيروس كورونا باتت مركزية الدول في جمع المعلومات وتقديمها أكثر بروزا من العادة ربما تساهم التكنولوجيا في تسهيل الحياة اليومية خلال الحجر ولكنها تساعد أيضا الجهات الرسمية في السيطرة على المعلومات وهذا ليس منحى جديدا إذ أن اللافت في دول الشرق الأوسط مقارنة بعدد كبير من المناطق الأخرى هو درجة سيطرة الأفرقاء الرسميين على مختلف النقاشات العامة فهذه الدول لاتضم سوى حفنة ضئيلة من وسائل الإعلام التي تتمتع باستقلالية تامة ومن الخبراء الموثوقين غير الرسميين ومن تجمّعات الاختصاصيين الذين يعبرون عن آرائهم في العلن ثمة استثناءات محدودة ظهرت إلى الواجهة مثل النقابة العامة لأطباء مصر المرخصة قانونا ولاتزال المؤسسات الدينية التي هي في العموم جزء من الدولة تتمتع بالمصداقية في بعض الأوساط نظرا إلى أن بعض تعليماتها (خارج إطار إغلاق المساجد) تقدم إرشادات أخلاقية ولاتفرض الامتثال القسري لكن يجب التشديد على أن المعلومات العامة تخضع إلى الاحتكار ففي هذه المنطقة حيث الثقة بمؤسسات الدولة متدنية في معظم الأحيان وحيث الشبكات الاجتماعية المستندة إلى التفاعل وجها لوجه وإلى مواقع التواصل الاجتماعي هي شبكات غنية في الغالب لطالما تبادل السكان المعلومات من خلال القنوات غير العامة ولن تضيع الأنظمة في معظمها الفرصة التي تقدمها هذه الأزمة لقطع الطريق على المعلومات المغلوطة وجزء كبير منها هو فعلا معلومات مغلوطة لكنها أحيانا محرجة أو غير ملائمة وحسب .

التحول الخامس هو أن فيروس كورونا ساهم في تحريك مشاركين جدد من المجتمع المحلي والمنظمات الأهلية في بعض البلدان ولدت الأزمة فرصا أمام أفرقاء مهمشين أو غير ممكنين مثل البلديات ومجالس المحافظات والمنظمات الشعبية والهيئات التطوعية الخاصة للتقدم وملء الفراغ من خلال تأمين الخدمات وتوزيع الإعانات وتقديم المعلومات وترجمة الإرشادات الوطنية العامة إلى إجراءات محلية محددة في السعودية مثلا تعمل القيادة على تشجيع العمل التطوعي لدى المواطنين والقطاع الخاص على السواء وفي مصر تبدو الحكومات المحلية أكثر نشاطا لكن ذلك يقتصر كما يبدو على بعض المناطق فقط وفي المغرب وتونس والجزائر ومع استتباب الأوضاع تقتطع المنظمات الأهلية حيزا لها لنشر التوعية وتشارك أعباء تأمين الخدمات ودعم الفئات الهشة وفي بلدان أخرى مثل السعودية تتجدد المساحة المتاحة أمام النشاط الخيري إنما تحت إشراف رسمي لاتزال هذه الجهود في بدايتها ولكنها تتيح فرصا أمام المجتمع المدني الذي أُضعف عمدا في بعض البلدان وفي بلدان أخرى ثمة خلط واضح بين المسؤولية الاجتماعية والتدابير البوليسية إذ يواجه الأفراد أو المنظمات الخيرية والأهلية خطر التورط في جهود الرقابة الرسمية .

التحول السادس هو أنه في الوقت الذي تتعامل فيه معظم الدول مع تأثيرات فيروس كورونا على نحو مستقل عن الدول الأخرى على المستوى الدبلوماسي دفعت طبيعة الأزمة بالدول إلى محاكاة سلوكيات الدول الأخرى أو تصوير نفسها بأنها تتجنب الأخطاء التي وقعت فيها دول أخرى يعي السكان تماما الإجراءات المتخذة في بلدان أخرى مايولد ضغوطا شديدة على الحكومات لاختيار البنود المناسبة في القائمة القصيرة لأساليب التصدي للوباء يقود ذلك إلى تلاق لافت حتى في المفردات المستخدمة لوصف السياسات هذه النزعات المتفاوتة لاتؤدي إلى نهاية السلطوية ومن المؤكد أن نتيجتها ليست ديمقراطية فهي تضفي في بلدان كثيرة إنما ليس في جميع البلدان طابعا أكثر تكنوقراطية على الحوكمة وقد تولد فرصا أمام المجتمع المدني أو تؤدي إلى توسع الأنظمة في بعض الأماكن إذا أظهر الأفرقاء الجدد منفعتهم أو تمكنوا من تطوير قواعد ناخبة راسخة ربما يشبه ذلك بعض الشيء ماشهدته مجتمعات أميركا اللاتينية خلال الستينيات والسبعينيات ووصفته بالسلطوية البيروقراطية فقد عرفت تلك البلدان حكما ديكتاتوريا بأشكال متنوعة وبقيادة الجيش (أو الرؤساء أو الملوك في العالم العربي في الزمن الحالي) ويتعامل هذا الحكم بازدراء مع التعبئة الشعبية ولايبالي بالحقوق المدنية والسياسية ولكنه يعتبر أنه يفرض النظام ويسمح لأصحاب الاختصاص والخبرة باتخاذ القرارات .

السؤال المطروح في المدى القصير هو إذا كان باستطاعة هذه التعديلات التكتيكية مساعدة المجتمعات على مواجهة أزمة فيروس كورونا والسؤال في المدى الطويل هو إذا كانت هذه التعديلات التكتيكية سوف تتطور إلى تعديلات استراتيجية لكن المدى الطويل قد يكون قصيرا على نحو غير معتاد وغالب الظن أننا سنشهد صعود التوقعات بأن الدولة سوف تحمي مواطنيها من الأذى وتعمل على تلبية احتياجاتهم الأساسية ومع تخفيف القيود على الحركة والحياة العامة قد يخرج الناس من عزلتهم الجسدية مع أنماط من الثقة أعيد تصورها إلى حد كبير وقد باتوا واعين للمؤسسات التي ساعدتهم وتلك التي لم تفعل .

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular