واقعياً، في عراق ما بعد 2003، صارت البلاد تُدار وفق ما يُعرف بـ “نظام المحاصصة”، يشمل كل مكونات الشعب العراقي، لكن هناك ثلاثة مكونات لها النفوذ الأكبر، هي “السنّة، الشيعة، الكُرد”، كل من هذه تمثل الشارع الذي تنتمي له في المنطقة الجغرافية التي يقطنها أبناء هذا المكون وذاك.
يتوزّع “الشيعة” في الجنوب العراقي، السنّة في الغرب، والكُرد في الشمال، لـ “السنّة” رئاسة البرلمان، لـ “الكُرد” رئاسة الجمهورية، لـ “الشيعة” رئاسة الوزراء أو الحكومة، جميعها تحكم وفق مبدأ مراعاة حقوق المكون، لكن معظمها لم تنجح في تقديم شيء لأبناء مكوناتها على امتداد 17 سنة من الحكم.
مع هذا، كانت تشهد البلاد منذ 2011 موجة احتجاجات متقطّعة، لكن الملفت أن أغلبها في مناطق “الشيعة”، في الجنوب العراقي، وكانت آخرها التي اندلعت في أكتوبر المنصرم، والتي استمرت حتى منتصف آذار، فتوقفت مؤقتاً نتيجة #كورونا، وينتظر منها وفق المعطيات أن تعود بعد الوباء.
هُنا يتبادر إلى الذهن، لماذا الاحتجاجات دائماً ما تخرج وتنطلق في محافظات “شيعة العراق” أي في عمق المحافظات التي تمثّلها أحزاب الإسلام السياسي “الشيعية”؟ وهل هذا بات يؤكد أن هذه الأحزاب فقدت سطوتها في المناطق التي تدعي أنها تمثّلها؟ هذه الأسئلة وغيرها كثيرة، لا بد من إجابة لها.
«لم تنبثق الأحزاب الإسلامية الشيعية من واقع الحال في الجنوب، ولم تعبّر عن تطلعات الناس ومزاجهم، بل هي جزء من واقع الحال في المعادلة التي فرضتها #أميركا بعد عام 2003»، يقول الكاتب والمهتم بالحركات الدينية، “علاء هاشم الموسوي” لموقع “الجزيرة نت”.
«الأحزاب الكردية والسنية أيضا نتاج المعادلة الأميركية»، كما يوضح “الموسوي”، «هي تتحمل أيضاً مسؤولية فشل بناء الدولة طيلة 17 عاماً، ولكن موقف الأحزاب الشيعية من القضايا العامة في #العراق والمنطقة، والمتناغم مع السياسة الإيرانية، (…) هو الذي جعلها تدفع ثمن الفشل وحدها».
قائلاً: «الأحزاب الشيعية لم تستثمر وجودها في السلطة لتقدم شيئاً لأبناء الجنوب، الذين تعتقد هذه الأحزاب أنهم يمثلون العمق الاستراتيجي الشعبي لها، والنتيجة فإن الحجم الحقيقي لها ظهر في الاحتجاجات الأخيرة، التي نجحت إلى حد كبير في هتك “القداسة” التي كانت تحتمي بها هذه الأحزاب».
ما جاء به موقع “الجزيرة نت” في تقريره حمل الكثير من التفاصيل الشاسعة، وكذا العديد من المحلّلين والباحثين، في محاولة لتسليط الضوء منه على هذا الموضوع، وهُنا نحاول أخذ أبرز ما ورد فيه من نقاط مهمة تمثّل “لُب الموضوع”، بحيث لا نبتعد عنه وندخل في تشعّبات أخرى لا تنتهي.
«مثّلت معادلة الحكم في العراق منذ عام 1921 إلى عام 2003، شكلاً من أشكال التهميش التاريخي والسياسي والثقافي، وهذا شكّل قناعة لدى سكان الجنوب والمناطق الكردية، أنهم دائماً أكثرية سكانية تحكمها أقلية فُرزت مذهبياً ومناطقياً، وبذا تشكّل الوعي على رفض السلطة ومعارضتها».
يقول ذلك الأكاديمي “حازم هاشم”، ويُضيف لـ “الجزيرة نت”، أن «تفجير الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 كان له أثر كبير في إعادة صياغة الهوية الشيعية في الجنوب وتشكيلها، هذه الهوية كانت موجودة ولكنها دون ملامح سياسية وكانت دينية فقط، لكنها لاحقاً توفرت لديها خواص متكاملة مثلتها #إيران».
«سياسة الأحزاب التي جاءت بعد 2003 كانت قد ربطت مشروعها بالممارسة الدينية والزيارات والمسير للأضرحة الدينية، وحاولت استعارة خطاب لم ينسجم مع مشروع بلد متعدد الطوائف والقوميات، كما أن شكل النظام أقرب للمدنية لكن واقعا تهيمن عليه أحزاب ذات بنية دكتاتورية فردية تسعى لإدامة الملف الطائفي لتبقى حاضرة».
«خذلان الناس بحروب وتضحيات ودماء وغياب فرص العمل والبطالة وتواطئ رجال دين، ساهمت بتأجيج الغضب ضد الأحزاب الشيعية النافذة، مع وجود مادة للمعارضة في تلك المدن ولديها تجربة طويلة مع نظام #صدام_حسين والعهد الملكي والدولة العثمانية دفعها للانتفاضة ضد هذه الأحزاب».
قائلاً: «هذه الأحزاب لم تخلق قائداً بمواصفات الكاريزما الموجودة مثلاً عند “نصر الله” أو “الخميني” أو التي لدى قيادات شيعية تاريخية، بل أنتجت شخصيات ليست لديها قوة الحضور أو الخطاب ولا تستطيع التعامل مع الكاميرا، ولا مهيجة للجماهير ولا تحمل نموذجا في الشهادة والتضحية».
«والذي حدث، أن الموضوع بدأ بالثورة التكنولوجية، ثم تحول إلى تسقيط الرمزية والقدسية الدينية لدى الأحزاب وتسقيط تاريخها، ساعد ذلك تصرفات الأحزاب بعد أن تحولت إلى ميليشيات عسكرية دون مشروع فكري، ووقوعها بتناقضات حادة مع نّمو جيل عدمي لا يؤمن بالدولة القومية أو الدينية بل يؤمن بدولة الإنسان».
بالتالي، «كل تلك الأسباب التاريخية والنفسية والاجتماعية والثقافية، كان لها الأثر الواضح والكبير في ردة الفعل العنيف التي واجهته الأحزاب الإسلامية، نهاية عام 2019، وهي بمثابة صدمة تاريخية لها، بعد المواجهة الكبيرة بالرفض المطلق والقطيعة التي أعلنها الشباب، والتي عبروا فيها عن ذلك بحرق مقرات هذه الأحزاب بالكامل»، كما يقول “هاشم”.