أصبح الحديث عن محاربة الفساد الاداري والمالي في العراق مادة دسمة “رغم انعدام ثقة المواطن” لمن يرغب ان يفوز في انتخابات برلمانية أو يكون في منصب رئيس وزراء أو حتى ان يكون مسؤول صغير في الدولة لأن حجم مشكلة الفساد وسعته واستعصاء حلها لا يمكن تصديقه, وقد اخفقت كل الحكومات المتعاقبة على الحكم ما بعد 2003 في الحديث عن رموز الفساد علانية, بل ان جميع تلك الحكومات بطواقمها متهمة بالفساد إلا ما ندر. ولأن الأمل معقودا على من يستطيع تقديم الفاسدين الى العدالة واسترجاع المال العام فأن الشعب يترك هامشا من المناورة وزرع ثقة أولية لمن يدعي محاربة الفساد.
ويتحدث الكثير من السياسيين، إن “الفساد المالي والإداري في العراق ليس مسألة ارقام، فما خسره العراق يفوق بأضعاف ما تتحدث عنه هيئة النزاهة والجهات المختصة”، مؤكدًا أن “الموازنات الفلكية ذهبت في جيوب الأحزاب عبر تقسيمها، حيث كل همهم كان، كيف يسرقون أكثر”. أن “الفساد لم يترك بابًا إلا وطرقه في كل القطاعات والمؤسسات والملفات، وخلف لنا كمًا هائلًا من المشاريع الوهمية ومليارات الدولارات كديون خارجية، فضلًا عن تحطيم الاستثمار والبنى التحتية وتدمير كل إمكانات الدولة”.
تجاوزت الواردات المالية للعراق منذ الغزو الأميركي وسقوط النظام السابق، في نيسان/إبريل 2003، 1000 مليار دولار، ذهب نصفها إلى الموازنة الاستثمارية الوهمية، رمز “الفساد الأعظم”، وفق لجنة النزاهة النيابية. خسر العراق، كما تقول اللجنة، أكثر من 350 مليار دولار من خلال تهريب العملة ومزاد البنك المركزي، والعقود والمشاريع الوهمية والمتلكئة منذ العام 2003 حتى اللحظة. وفي تصريح سابق لرئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، قال ان “الفساد أفقد البلاد 450 مليار دولار مع وجود ناتح محلي للموظفين الحكوميين بمقدار 6%، أي بمقدار 20 دقيقة عمل في اليوم”، مؤكدًا أن “موازنات العراق منذ العام 2003 وحتى العام الجاري بلغت 850 مليار دولار”, وقد سلم ميزانية الحكومة فارغة الى خلفه مصطفى الكاظمي.
يواصل الفساد نخر العراق، حيث كشفت إحصائيات برلمانية في فترة سابقة عن وجود أكثر من 6 آلاف مشروع وهمي منذ عام 2003 كلفت العراق ما قيمته 178 مليار دولار. في هذا السياق، قال مسؤول عراقي في مكتب رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، إن المشاريع الوهمية 30 بالمائة منها تمت برعاية الأميركيين، وهناك ضباط وحلقات أميركية مختلفة إبان الاحتلال تتورط معها. وأضاف أن النسبة المتبقية من المشروعات الوهمية، البالغة 70 بالمائة، تمت في زمن الحكومات العراقية المتعاقبة بعد رحيل الأميركيين، وأكثر الفترات التي شهدت مشاريع وهمية كانت في عهد حكومتي نوري المالكي الأولى والثانية، بينها مجمعات سكنية وسياحية وأخرى خدمية قام هو بنفسه بوضع حجر الأساس لها لكنها انتهت إلى المجهول ولم تر النور، رغم أن مبالغها تم صرفها من الموازنة العامة. وفي محصلة جنونية رقمية فأن العراق اهدر ما بعد 2003 الى وقتنا الحاضر أكثر من تريليون و 400 مليارد دولار, وهي مبالغ تبنى فيها مدن وعواصم حضارية وتشيد فيها ابراج وناطحات سحاب وتضمن مستقبل اجيال وتؤسس منها صناديق ضمان للمستقبل.
وفي أول جلسة للبرلمان العراقي من فصله التشريعي الثاني، والتي عقدت في 9 من مارس/آذار للعام 2019، كشف رئيس الحكومة المستقيل عادل عبد المهدي “خارطة للفساد”، شملت 40 ملفا، غالبها في مفاصل ومؤسسات الدولة. وشملت القائمة: “تهريب النفط، ملف العقارات، المنافذ الحدودية، الجمارك، تجارة الذهب وتهريبه، السجون ومراكز الاحتجاز، النقاط الأمنية الرسمية وغير الرسمية، المكاتب الاقتصادية بالمؤسسات والمحافظات والوزارات، تجارة الحبوب والمواشي، الضرائب والتهرب منها، الأتاوات و الكومشن (العمولة)، مزاد العملة والتحويل الخارجي، التقاعد، ملف السجناء، ملف الشهداء، المخدرات، تجارة الآثار، الزراعة والأسمدة والمبيدات، تسجيل السيارات والعقود والأرقام، الإقامة وسمات الدخول”.
وتضمنت أيضا: ” الأيدي العاملة الأجنبية، الكهرباء، توزيع الأدوية، توزيع البطاقة التموينية، الرعاية الاجتماعية، السلف المالية المصرفية، التعيينات، بيع المناصب، العقود الحكومية، تهريب الحديد والخردة وغيرها، الامتحانات وبيع الأسئلة، المناهج التربوية وطباعة الكتب، المشاريع المتوقفة، المشاريع الوهمية، القروض المالية، شبكة الاتصالات والإنترنت والهواتف النقالة، الإعلام والمواقع الإلكترونية، شبكات التواصل الاجتماعي، ملف النازحين، الاتجار بالبشر”.
تُضاف هذه القطاعات الأربعين الرئيسية إلى الكثير من ملفات الفساد المُكتشفة بالأساس سابقا، لكن لم يتم تفعيل الأدوات والمؤسسات القضائية والتنفيذية لمتابعتها. تقدر الحكومة العراقية تلك الملفات بحوالي 13 ألف ملف للفساد، يقدر المتورطين فيها بقرابة مليون مشتبه، بين فاسدين ومتعاونين ومرتشين ومعطلين للقانون العام. تتراوح دائرة المؤسسات والإدارات المتورطة بها من التعليم والقضاء، وتمر بالتهريب والرشاوي، ولا تنتهي بوزارتي النفط والدفاع، اللتان تُعتبران من أكثر وزارات العراق فسادا على الإطلاق. خارطة الفساد هذه تعكس بوضوح استباحة العراق شعبا وأرضا ووطنا ومواردا للعيش. فلا نستغرب عنما تشير الأرقام الدولية بأن موقع العراق هو بالمرتبة 166 من أصل 176 دولة على سلم الدول في مستوى الشفافية في العالم. أي أن العراق من أكثر الدول فسادا في العالم.
ترتبط بدايات جذور ظاهرة الفساد في العراق بمجمل سياسات النظام السابق الاقتصادية والاجتماعية والحروب المدمرة, والتي أدت بمجملها إلى إفقار المواطن وحرمانه من ابسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة, إضافة إلى ما أدت من تفتيت للبنية الأخلاقية والقيمية وضعف الوازع الداخلي, إلا إن سطوة النظام وقمعه حصرت ظاهرة الفساد, وخاصة الإداري والمالي برأس النظام وأطرافه, وحولت بنفس الوقت الفساد إلى ما يشبه الفيروس الخامل تحمله قطاعات اجتماعية واسعة, وجدت في إسقاط النظام والطريقة أو السيناريو التي هوى فيها النظام فرصة مواتية لينشط هذا الفيروس ويتحول من حالة الكمون أو الخمول إلى حالة الفعالية أو النشاط الكامل ليتحول إلى وباء شامل ينشط بطرائق أخطبوطية وبمدى يصعب التحكم والسيطرة عليه أو تحديد سقف له, وقد وفرت الظروف السياسية ما بعد السقوط وطريقة أداء الحكم بيئة صالحة لنشاط فيروس الفساد ليلتف بدوره حول السياسة ويضربها في الصميم ويعيد بعث ظاهرة الفساد السياسي المتمثلة بالاستئثار بالسلطة واستغلال النفوذ السياسي وتكريس قيم الحزب الواحد عند الكثير من الكيانات السياسية, ولعل المثل الصيني ” الماوي ” القائل : ” رب شرارة أحرقت السهل كله ” يلقي مصداقية كبيرة في تفسير الفساد في العراق.
أن إحدى تجليات الخوف من الفساد الإداري والمالي هي تحوله إلى ثقافة سائدة أو ما يسمى ” ثقافة الفساد ” مضفيا على نفسه الشرعية في الشارع وفي المعاملات الرسمية اليومية, ومن ترسخه كنمط سلوكي لإشباع الحاجات المختلفة والاكتفاء الذاتي, وبالتالي يتحول الفساد من كونه عمل منبوذ اجتماعيا وقيميا إلى عمل يلقي الاستحسان ويندمج ضمن المنظومة الايجابية للأخلاق والأعراف, ويعتبر نوعا من الشطارة أو الدهاء الشخصي لصاحبه, وأحد معايير الشخصية الدينامية والمتكيفة القادرة على حل المعضلات بطرائق سحرية.
وعلى هذا الأساس يتحول الفاسد من شخص مجرم يجب أن يساق إلى العدالة إلى شخص قاضي حاجات أو “حلاًل مشاكل “. ففي الوقت الذي كان فيه الفاسد يسير منحنيا بإذلال يخشى أن يعلم به احد جيرانه أو أبناء منطقته,ويذكرني ذلك في نهاية الستينات وبداية السبعينات عندما كانت تعلق صور الفاسدين” السرَاق منهم” في مراكز الشرطة ويكتب أعلاهم بخط عريض ” أحذروا هؤلاء “, اليوم يفتخر الفاسد بمكتسباته وبمهاراته وماله الحرام, ولم يعد الفاسد يخشى المواطن بل انتقل الخوف إلى المواطن وأصبح الجميع يحسب آلف حسابا له, لأنه يمتلك السلطة والمال والقرار السياسي, فهو الكادر الحزبي أو القيادي في حزب ما,وهو المدير العام,وهو الموظف الصغير والوزير أو عضو البرلمان وهو أيضا حامل المفخخات والأحزمة الناسفة, بل نبحث عن الفاسد لتسهيل معاملاتنا مهما كانت صعبة, وهو الذي يأتي لنا بالماء والكهرباء والخدمات المختلفة, ويضمن لنا التعيين في أي موقع وفي أي دائرة نرغب بعد أن يمنحنا الشهادة المزورة ويصدر لنا أمر التعين ,وكل ذلك مقابل هدية بحجمه, وإذا لم نقبل بشروط الفاسد فأنه قادر على أن يفرض عليك حصارا لا تقوى الأمم المتحدة على رفعه, فلا غرابة من أن 80% من مراجعي دوائر الدولة العراقية يدفع رشوة لانجاز معاملته.
وبالتالي يتحول الفساد كسلوك وأداة تفضي إلى بلورة جماعات واسعة من المنتفعين ورعاة المصالح الذاتية التي تعمل على توطيد دعائم نظام ما بعد 2003 ولكن بشروط الفساد حفاظا على أوضاعها ومكانتها من الانهيار, وبهذا يطرح الفساد نفسه كطريقة وبديل عن التنمية الاقتصادية الشاملة وفقا للضوابط القانونية والأخلاقية, وتعزيز فكرة أن الفساد يعجل بقضاء المصالح والحوائج وتبسيط الإجراءات وتسير المعاملات مع الجهاز الحكومي, كما انه يعمل على إعادة توزيع الثروات بشكل مشوه من خلال خلق طبقة من أصحاب المال الصغار المستفيدين من رشاوى الحيتان الكبار, كما يزج الطبقة الوسطى” الطبقة المطلوبة رقم واحد في المشروع الوطني الكبير, فكرا وثقافة ومهنية ” قي آتون الفساد فيحولها من طبقة إنقاذ إلى طبقة متعايشة مع ظروف الفساد ومكملة له,وعلى خلفية ذلك تنشأ قناعات سلوكية واضحة تفضل الاستقرار و ” التنمية ” مع الفساد على اللااستقرار بدونه.
وبهذا يتحول الفساد من ظواهر فردية متناثرة هنا وهناك إلى عمل مافيوي مخطط يدخل سوق العمالة ويقدم خدماته من خلال اختراقه كل القطاعات الإنتاجية والخدمية,ويخضع لمبادئ العرض والطلب والمنافسة الكمية والكيفية ويتحكم بمفاصل تشغيل العمالة, وهذا ما نشهده اليوم من تسهيل معاملات على مختلف المستويات,فهناك تسعيرات محددة لشغل مختلف المناصب من مدرس إلى ضابط , إلى شرطي أمن, إلى مدير دائرة والى مدير عام , وتسعيرات للحصول على مختلف الوثائق والمستندات الشخصية من وثائق دراسية وشهادة جنسية وبطاقة أحوال مدنية وجواز سفر وغيرها, طبعا جنبا إلى جنب مع الفساد الكبير الذي يخترق مختلف العقود والمشاريع والمخصصات والاستثمارات الإنتاجية والخدمية التي تستهدف إحياء البنية التحتية المدمرة.
أن القبول بالفساد كأمر واقع شكًل احد عوامل الضغط على المنظومة القيمية والتربوية لدى أفراد المجتمع العراقي وفي تبديد قناعاته الأخلاقية والوطنية, فقد انتشرت اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع, وبروز التطرف والتعصب في الآراء وشيوع الجريمة كرد فعل لانهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص, كما شاعت قيم فقدان احترام العمل والتقبل النفسي لفكرة التفريط في معايير أداء الواجب الوظيفي وتراجع الاهتمام بالحق العام والشعور بالظلم لدى الغالبية مما يؤدي بدوره إلى الاحتقان الاجتماعي وانتشار الحقد بين شرائح المجتمع وانتشار الفقر,وقد جاء ذلك على خلفية التراكمات التي افرزها النظام السابق متبوعة ومعززة بالإفرازات السلبية التي سببتها الاستقطابات السياسية والتحالفات المشوه والاعتبارات الفئوية والطائفية والقبلية حيث غياب مفهوم المواطنة ومصالح البلاد العليا.
وهكذا لعبت المحاصصة بمختلف مظاهرها سببا في شيوع الفساد الإداري والمالي, ولعبت دور الحاضنة الأمينة له ,فلم يتم اختيار أفراد السلطة ولا الوظائف العامة على أساس النزاهة والعصامية والتكنوقراط وإنما جرى ذلك وفقا لتوافقات سياسية واستحقاقات غير متوازنة ولا معقولة, وعلى هذا الأساس استخدم الفساد كطريقة وجزء من منظومة ” الحوافز الإيجابية ” ,” فالمظلوم ” من النظام السابق يقوم باسترداد ” حقوقه ” بطرق غير قانونية كردة فعل على القمع والإقصاء, ويصبح بدوره ظالما وسارقا للمال العام كاحتلاله منصبا سياسيا أو وظيفيا لا يحمل له أي مؤهل وتحت واجهات ومبررات مختلفة: خطية يستاهل, وصاحب عائلة وأطفال وين يروح, خوش آدمي صائم مصلي,أحسن ما يمد أديه للناس, أو يعتبر نفسه مفصول أو مضطهد سياسيا من النظام السابق فيقوم بتزوير الوثائق والمستندات اللازمة لذلك لكي يسترجع ” حقوقه “. أما المظلوم الحقيقي من النظام السابق فيعاني الأمرين لانتزاع حقوقه, بل الكثير تنازل عن جدوى الادعاء بحقوقه تحت وطأة سوء المعاملة’كاصتدامه بموظف كارها له في الفكر أو بعثي سابق احتمى بطائفته ويشغل منصبا جديدا تكريما” لمظلوميته “. وهكذا وفرت المحاصصة غطاء لسرًاق المال العام وللمفسدين بصورة عامة, والجميع بعمل على قاعدة أضرب(أسرق) وأهرب إلى طائفتك أو قبيلتك أو حزبك أو إلى قوميتك, أو هذا لك وذاك لي, بل وصل الأمر إلى العبث في تفسير النصوص القرآنية التي لا خلاف على تفسيرها,في محاولة لانتزاع “الاعتراف الإلهي” بأهلية الفاسد وفساده,فعلى سبيل المثال لا الحصر مثلا يرون في النص القرآني: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله” لا تشمل العقوبة سرًاق المال العام, وأن السارق له حصة في هذا المال فهو يأخذ من حصته, والسارق يعرف تماما أن السرقة من المال العام يعني السرقة من أكثر من 38 مليون عراقي, وبالتالي يستحق ليس قطع اليد،بل تقطيع الأوصال(حسب بعض المفسرين), أما اللهاث وراء الفتاوى الدينية لتحريم الحلال وتحليل الحرام فلا حدود لها, وعلى قاعدة ” ذبه برأس عالم وأخرج منها سالم ” وما أكثر العلماء في عراق اليوم.
ويتقاطع الفساد الإداري والمالي مع الفساد السياسي ليشكل مقدرة استثنائية في التحكم في الأمن وبعث ” الاستقرار ” وفي انهياره أيضا,وتلجأ العديد من الفصائل السياسية في التعبير عن قوتها وقدرتها على العبث في الاستقرار عبر ممارسة الفساد المقترن بالقوة المسلحة لاختراق مؤسسات المال العام وقتل حراسه, ثم إعادة المال واختفاء المجرمين, وهي شبيه بالمناورات العسكرية لاستعراض القوى” ولتأديب ” الحليف السياسي عند الضرورة, ناهيك عن الإرهاب المعلن بغير أقنعة والمدعم خارجيا والقائم على خلفية عقائدية في العداء للديمقراطية بدون رتوش. أن اقل ما تتركه هذه الأساليب من آثار تربوية ونفسية سلبية هو فقدان الأمل في الاستقرار والخضوع لتفاعلات الأمر الواقع وعدم الثقة بالنظام السياسي باعتباره بديلا عن النظام الديكتاتوري السابق,إلى جانب ما يتركه من حالات إحباط وقنوط تتضح آثارها بصور مختلفة من الاضطرابات النفسية لعل أبرزها مظاهر الاكتئاب والعدوان وإلحاق الأذى بالذات وبالمصلحة العامة.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن في كل تجارب البلدان التي مرت في محنة الفساد بقيت لديها فسحة من الأمل في بعض من قطاعاتها خالية نسبيا من الفساد,نظرا لارتباط هذه القطاعات بأهداف إنسانية كبرى ذات صلة وطيدة بمستقبل مجتمع بالكامل من حيث الأعداد والتربية والتأهيل وغرس روح المواطنة ونشير منها على سبيل المثال إلى قطاع التربية والتعليم باعتباره قطاعا مصدرا لنماذج القيم المتقدمة وإعادة توليد ما هو ايجابي ومشرف في ذهنية الدارسين, إلى جانب كون العاملين فيه من النخب الاجتماعية والتربوية التي يفترض أن تكون نماذج ومعايير يقتدى بها ويسمع رأيها ,خاصة في الأزمات العامة ,إلا انه مع الأسف كان هذا القطاع من الضحايا الأولى للفساد بمختلف مظاهره من تزوير وسرقة أموال الدارسين وإفساد للعملية التربوية والتعليمية, منهجا وطرائفا وكادرا ومؤسسات, بل أن المحاصصات السياسية والحزبية والطائفية والقومية دخلت بكل حمولتها السيئة لهذا القطاع لكي تحي في ذاكرتنا الآثار السيئة للتبعيث,وبهذا حرم هذا القطاع من دوره الحقيقي في محاربة الفساد بتحويله إلى قطاع مُصدر للفساد.
وتبقى محاربة الفساد وتجفيف منابعه إحدى المهمات الصعبة التي تقف عائقا أمام تطور مجتمعنا وديمقراطيته السياسية, وأن المدخل اللازم للقضاء عليه يتجسد في بناء دولة المؤسسات ألحقه القائمة على سلطة القانون لا سلطة الحزب أو الطائفة أو القبيلة والقومية, والعمل على تفعيل النزاهة والمسائلة والعدالة ضمن آليات عمل مفوضية النزاهة المستقلة ويجب أن تقوم بدورها بملاحقة المتورطين بقضايا الفساد وتقديمهم للعدالة باختلاف مناصبهم ووظائفهم ومسؤولياتهم وأنتمائاتهم الحزبية والطائفية والقومية, والجرأة الكاملة والواضحة في مكافحة الإرهاب بشدة باعتباره لونا من ألوان الفساد وخاصة عندما يستخدم للوصول إلى أهداف سياسية, والحفاظ على قطاع التربية والتعليم وتخليصه وتحًيده من الصراعات الطائفية والحزبية والسماح له بأداء دوره الإنساني والوطني في محاربة الفساد على نطاق واسع, فهو صمام الآمان لخلق جيل مؤمن بقيم النزاهة والحق والعدالة,وإعادة توليد القيم الايجابية في أذهان رجال المستقبل.
مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العراقي الحالي و رجل المخابرات العراقية ورئيس جهازها كما يقال عنه, يفترض أنه كان عارفا بكل شاردة وواردة وهو الحارس الأمين للمعلومة الأمنية في حفظ حياة الشعب, وعليه أن يفهم إذا رغب, أن الفساد في العراق وهو نتاج لفساد نظام المحاصصة الدينية السياسية والأثنية, وعليه استغلال الوقت للشروع بالخطوات الفعلية للأصلاح الشامل, بعيدا عن مضيعة الوقت وضغوطات الأحزاب الطائفية والاثنية او الارتهان الى اجندة تفكيك العراق. ومن هنا ومن برنامج الكاظمي عليه البدء بما يلي: إجراء انتخابات مبكرة بعد استكمال القانون الانتخابي، وتفعيل مفوضية الانتخابات وتطبيق كامل لقانون الأحزاب بالتعاون مع الأمم المتحدة. فرض هيبة الدولة من خلال حصر السلاح بيد المؤسسات الحكومية والعسكرية. فتح حوار وطني بهدف الاصغاء لمطالب حركة الاحتجاج السلمي والشروع بحملة شاملة للتقصي والمساءلة بشأن أحداث العنف التي رافقتها وتطبيق العدالة بحق المتورطين بالدم العراقي. إعداد مشروع قانون موازنة استثنائية لمواجهة الأزمة الاقتصادية وتداعيات انهيار النفط، فضلا عن تسخير إمكانات الدولة لمكافحة جائحة كورونا. حماية سيادة العراق وأمنه وإنتاج رؤية وطنية مشتركة للتفاوض بشأن مستقبل وجود القوات الأجنبية ضمن نطاق عمل أمن البلاد واستمرارية مكافحة فلول الإرهاب وخلاياه. إجراء مفاوضات جادة مع قيادات دول التحالف الدولي بما يضمن تحقيق تطلعات الشعب بالسيادة الوطنية الكاملة في ضوء مصالح العراق وعدم المساس بأمنه الداخلي. عدم استخدام أرضي العراق للاعتداء على أي من دول الجوار جيران وعد السماح بتحويلها الى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. تتعاطى الدولة مع مؤسسات رسمية في علاقاتها الخارجية وفي نطاق قواعد الدبلوماسية الدولية وليس مع أشخاص أو جهات غير رسمية. تؤسس الحكومة العراقية مجلسا استشاريا شبابيا تطوعيا مرتبطا بمكتب رئيس الحكومة يمثل المحافظات كافة ويتم التنسيق مع هذا المجلس بشأن الخطوات الحكومية الخاصة بمجال الإصلاح، ويكون له دور في صياغة آليات دائمة لحماية الحق في التظاهر وضمان سلميته. مكافحة الفساد وتفعيل الملفات المعطلة وتطبيق القانون على الفاسدين مهما بلغ نفوذهم. البدء الفوري بتدقيق السجلات المالية للشركات الحزبية والشخصيات وأصحاب رؤوس الأموال المشكوك بحصولها على أموال بطريقة غير مشروعة.
أن البلاد تقف اليوم على مفترق طرق بسبب الازمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصحية التي انهكتها، وان انتشالها يستلزم الإسراع في معالجة ملفات الإصلاح والتغيير التي طرحتها الانتفاضة وشدد عليها المنهاج الحكومي والمذكورة بعض من نقاطه اعلاه وهي مقدمات لازمة لمحاربة الفساد على نطاق واسع واقتلاع جذوره ورموزه السياسية. فهل هناك غطاء برلماني للسيد الكاظمي كي يفي بوعوده لفتح واثارة مختلف الملفات والتأسيس لمعالجتها موضوعيا, أم ان الأوضاع مفتوحة لمختلف الاحتمالات وان الوقت يجري سريعا ليست لمصلحة الكاظمي فقط, بل لكل العملية السياسية في البلاد, وقد تندفع البلاد الى حافة المجهول وعندها لا يوجد رابح من خيارات لا تحمد عقباها.