صدق القول المأثور القائل: “من أسمائهم تعرفونهم” . وصدق الى حد كبير الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا عندما كتب: “الأسطورة هي اللاشئ، الذي هو كل شيء!”.
فالأسماء مهمة جداً، فهي أول وأبسط دلالة على معنى الشئ. والأسماء بمعناها الواسع تشكل الهوية الثقافية الجامعة للشعوب والمجموعات البشرية. وفي هذه الحلقة أتناول كلمتين بشكل مختصر؛ الأولى اسم عشيرة وقرية ايزيدية ( كوركوركي و كوركا/كولكا) ، والثانية اسم حيوان (الثور)…
* كور-كوركا-كوركوركي: كلمة (كو- كورku-kor-kur) تعني الجبل في اللغة السومرية، وتكرارها (كوركور) تعني الجبال، مازالت هذه الكلمة باقية كتسمية كردية للجبال المسماة (كورداغ) في منطقة عفرين/محافظة حلب في سوريا الحالية، و (كوركورداغ) الواقعة على الزاب الصغير قرب قرية (كاني تو) في قضاء بشدر، مركز البلاد اللولوبية قديماً، فقد غدت الكلمة تعني في السومرية البلد، حيث استمرت اللفظة السومرية (كو) لتعني الجبل في اللغة الكردية كما هي الحال مع اللفظة (كاميش=جاموس) التي يمكن التعرف الى مدلولها القديمة في ملحمة الثور العظيم (جلجامش) السومرية، والدور المتميز لهذا الحيوان الذي اعتبر رمزاً للذكورة والخصب منذ أن كان الانسان يعيش في علاقة مباشرة مع الزراعة وتربية الحيوانات، أما في العربية فقد ظهر (كور) بشكل (كورة) ليعطي المدلول مفهوماً شاملاً. (د. جمال رشيد أحمد، دراسات كردية في بلادسوبارتو، بغداد 1984، ص12). أما في اللهجة الكرمانجية الشمالية بقيت (جيا) وفي لهجة أهل سنجار/شنكال، بقيت (جوى/چوىêchuw)، ومن الطبيعي هنالك تبادل بين الحروف من (ج) إلى (ك) وتبديل الحرف من (أ) إلى (و)، فجرى تبديل (كو) السومرية إلى (جو) مع (ياء) الاضافة. والدليل الأقوى هو وجود قرية في جبل سنجار تحمل إسم (كوركا-كولكا) فضلاً عن وجود عشيرة ايزيدية تحمل إسم (كوركوركا- كوركوركي) تعيش في جبل سنجار التابعة إدارياً إلى محافظة نينوى في الوقت الحاضر، كما أن هنالك أعداداً كثيرة من عشيرة (كوركوركي) يعيشون في مناطق ماردين ودياربكر ومناطق أخرى من كردستان تركيا، إلاّ أنهم يعتنقون الدين الاسلامي.
* (كا Ga) = الثور: (كو/Gu) السومري: الذي يقابله (كا Ga) = الثور في اللغة الكرمانجية الكردية. والحديث عن الثور يذكرنا بـ (الثور السماوي) في ملحمة كلكامش وأنكيدو، عندما يتمكن هذان الصديقان من قتل همبابا (هواواوا) حارس شجرة الأرز على جبل لبنان. وبعد ان يقتل كلكامش وأنكيدو همبابا ويعودا إلى مدينة اوروك ويلبس كلكامش التاج، تعجب به الإلهة عشتار وتطلب منه الزواج، إلاّ أن كلكامش يرفض الزواج منها، فتغضب عشتار وتصعد إلى أبيها الإله “آنو” وأمها “أنتو” وتطلب الثور السماوي لينتقم من كلكامش وإلاّ فأنها ستحطم باب العالم الأسفل وتقيم الأموات حتى يأكلوا الأحياء. فيقول لها أبيها “آنو” إن أعطيتك الثور السماوي فستمر بلاد اوروك بسبع سنين عجاف/أي مجاعة، لكن في الأخير يرضخ أبيها لطلبها ويعطيها الثور السماوي، وتدور معركة بين الطرفين؛ كلكامش وأنكيدو من جهة والثور السماوي من جهة أخرى، إلاّ أنه في النهاية يتمكن الصديقان من قتل الثور السماوي. (للإستزادة يمكن مراجعة: سلسلة الأساطير السومرية، ديانات الشرق الأوسط، ص211-218).
وفي الآفيستا والبهلوية تستخدم نفس كلمة (Ga). يأتي في آفيستا بأن إهتم زرادشت بالزراعة بالدرجة الأولى وبالماشية والحيوانات الأليفة بالدرجة الثانية، وفي بعض الأحيان تتساوى الماشية مع الزراعة في الأهمية. ووصل الأمر بزرادشت إلى ما يشبه مرض الرأفة بالحيوانات، وأكبر جريمة ترتكب بحق الحيوان النافع هي اللهو بقتله في الصيد وغيره من ضروب اللعب بالحيوانات. ومن الحيوانات الذي إحتل مكاناً مقدساً عند زرادشت هو (الثور Ga)، ومما يؤكد ذلك أن الإله آهورامازدا –حسب آفيست- خلق الثور والانسان في آن واحد. فالثور تجسيد للخصب ولعب دوراً رئيسياً في المجتمعات البدائية. فهو القائم على إخصاب البقر وبالتالي إزدهار القطيع. (آفيستا/الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية، إعداد: د. خليل عبدالرحمن، مصدر سابق)
يلاحظ بدقة أن جميع المفاهيم المتعلقة بالاخصاب والجنس قريبة أو مشتقة من جذر (Ga) وهي معروفة باللغة الكردية لا حاجة لذكرهم في هذا المقال.
في الميث الأيزيدي وفيما يتعلق بأحد جوانب نشأة الكون، يلعب الثور دوراً بارزاً وعلى قرنه تستقر الأرض! وما الهزّات الأرضية التي تحدث -حسب نفس الميث- إلاّ نتيجة لتحويل الثور الأرض من قرن إلى قرنه الآخر!. وفي نص ديني (قول جمجمي سلطان) يصل الثور إلى مستوى الملائكة، يصعد الثور السماء باحثاً عن (جمجم سلطان) فيما إذا كان متواجداً في الجنّة أم الجحيم، ويجري بينه وبين الملاك المسؤول عن الجحيم حواراً يبلغه بوجود بوجود (جمجم سلطان) عنده، ويتبين بعد تهديد الثور السماوي للملائكة/أو الملاك المسؤول بتهديم الجحيم، يتم اطلاق سراح (جمجم سلطان)!: وفيما يلي بعض المقاطع من النص الديني:
31- كاى وى دجييه بقودره تا ئيلاهييه/ يذهب الثور بالقدرة الإلهية
جار قورنه تى دنيايى كه رييه /يتنقل في زوايا الأرض الأربعة
لده رى به هشتى كه هشتيه. /ويصل باب الجنّة
32- كاى ز مه له كى به هشتى دبرسييه: /يسأل الثور ملاك الجنّة:
تو بوى كه ى ئيلاهييه بو من بيزه راستييه/بحق الرب قل لي الحقيقة
ئى به رى سى روزا هاتى كييه؟/منْ جائكم قبل ثلاثة أيام؟
35- كا وى دجييه لده رى دوزى كه هشتيه/يذهب الثور ويصل باب الجحيم
ز مه له كى دوزى دبرسييه/ ويسأل من ملاك الجحيم
به رى سى روزا جومجم نه هاتيه / ألم يأتيكم جمجم قبل ثلاثة أيام؟!
36- مه له كى دوزى ز كا را دبيزيه/ يرد ملاك الجحيم الثور
بفروارا ئيلاهييه/ بأمر الله
جومجمى ته لنك منى كرتيه./ (جمجم سلطان)ك مسجون عندي!!
38- كاى جيكريه/ ما قام به الثور
سه رى خو بديوارى دوزى فه ناييه/ نطح جدران الجحيم بقرنيه
بقه وتا ئيلاهيه، دوزه خدى هزاندييه./ إهتز الجحيم بقوة الله!!
(السبقات 32، 32، 35، 36، 38، من جمجمى سلتان، به رن ز ئه دبى دينى ئيزديان، خه ليل جندي، الطبعة الثانية، سبيريز/دهوك 2013، ص 246-251)
يلاحظ هنا التشابه والتقارب بين الإلهة عشتار والثور السماوي، مع الفارق ان الثور السماوي في هذه الأسطورة، ومن خلال هذا النص الديني، يواجه الملاكين المسؤولين عن الجنّة والجحيم، أما في الأسطورة السومرية فانه يحارب كلكامش وأنكيدو. الفكرة هي نفسها تقريباً مع تغيير في الأدوار والشخصيات بسبب إختلاف الناقل واللغة والفترة التاريخية الطويلة.
علاقةً بموضوعنا الآنف الذكر يجب عدم أخفال دور الثور في الديانة الميثرائية، حيث يلاحظ في الطقوس الميثرائية التي كانت تقام أثناء التضحية بالثور، دوراً وحضوراً لعناصر حيوانية مثل: الحيّة- الكلب-العقرب- الديك-الغراب-الأسد-القطة وغيرهم من الطيور والحيوانات. ما زلنا نلاحظ آثار هذه الحيوانات لوقتنا الحاضر بين الايزيدية سواء في معابدهم أو ضمن ممارسة تقاليدهم وطقوسهم. ستكون لنا وقفة مطولة تستوعب جوانب عدة.