في قلب عاصمة اقليم كردستان، حيث الأبراج التجارية التي تعانق السماء، وحيث تتزاحم مقرات البنوك والشركات والمتاجر الفخمة والفنادق بنجومها المتعددة، يقف موظفون منهكون بعد ستين يوما من الانتظار، وتحت شمس تموز اللاهبة لتلقي 80% من رواتبهم لشهر شباط.
وعلى مسافة بضعة مئات من الأمتار من مقر البرلمان، رمز الديمقراطية والادارة الذاتية الكردية، والذي يواجه منذ سنوات اغلاقا متكررا يمتد لأشهر وشللا شبه كامل في القيام بالحد الادنى من مهامه بسبب صراعات القوى السياسية الحاكمة، يصطف متقاعدون بجموع كبيرة وقد تملكهم الاحباط للحصول على رواتبهم المتأخرة. لا يذكر كثيرون منهم راتب أي شهر من العام الماضي سيتسلمون.
الحكومة التي طالما افتخرت، انها شيدت عراقا مختلفا في الاقليم الفيدرالي الغني بالنفط والغاز عن العراق الغارق في الفقر وسوء الخدمات القائم في وسط وجنوب البلاد، مديونة لنحو مليون وربع المليون موظف بأكثر من 15 مليار دولار، هي مجموع رواتب متأخرة عجزت عن دفعها لسنوات، لكن مسؤولي الأحزاب التي تقود الحكومة يواصلون مراكمة أرصدتهم الضخمة بفضل سلسلة شركات المقاولات والاتصالات والأمن والنفط والتجارة والاستثمارات التي يملكونها.
في السوق القديم بقلعة اربيل التاريخية وفي الأسواق الحديثة المجاورة، الحركة التجارية تشهد أسوأ أوقاتها فالمتسوقون غائبون، والكسبة يكابدون منذ اشهر للحصول على أي عمل، أو يصارعون للاستمرار في اعمالهم الحالية وان كان بأجور أقل وسط موجات تسريح الشركات لموظفيها والتجار واصحاب المهن للعاملين لديها. وتتزايد أعداد المحلات التي تغلق أبوابها وتلك التي تعلن انها معروضة للبيع والايجار بعد اشهر من الخسائر.
ذلك التناقض المثير للاستغراب، هو ما دفع نائبا بارزا قبل ايام الى رفع صوته عالياً:”في وقت لا يحصل الموظفون على رواتبهم، تخصص في قلب اربيل قطعة ارض كبيرة للعبة الغولف، قطعة لو بيعت ستكفي لتسديد رواتب الموظفين لسبعة أشهر”.
تراجع أسعار النفط، وتداعيات جائحة كورونا، وصراعات سياسية، وفساد مستشري، خلقت معا تلك الظروف التي رفعت نسبة البطالة ومعها الفقر واليأس، حتى صارت أخبار الرجال المنتحرين أو اولئك الذي يفجرون موجات غضبهم على عوائلهم حكايات يومية في مسلسل بلا نهاية.
ليس هنالك ما يدعو للتفاؤل، يرجح محللون اقتصاديون استمرار اسعار النفط بين 40 الى 50 دولارا، وهو السعر الذي يبقي للاقليم أقل من 15 دولارا (في الشهر الماضي بقي للاقليم 5 دولارات عن كل برميل) فالمنشار التركي الصديق وشركة روزنفت الحبيبة صاحبة الأنبوب التاريخي تبتلع كل شهر نحو 100 مليون دولار، والشركات الاستثمارية الأثيرة تقطع مبالغ مقاربة، وتذهب أموال اقل للديون السابقة. والشعب المسكين الذي وعد بتحويل مدنه الى “دبي” و”دوحة” ثانية يتفرج على امواله توزع هنا وهناك.
يقول ناشط: لم تعد الشعارات القومية شمالا تشبع، ولا اللطميات المذهبية جنوبا تغني عن جوع.
آلاف مؤلفة لا يستطيعون منذ اشهر دفع ايجارات بيوتهم. وآلاف يعانون لتوفير الحد الأدنى من مستلزماتهم المعيشية.
وسط الظروف الطارئة تلك، يُبشر الناطقون باسم الحكومة ان الرواتب مستقبلا ستدفع وفق الرصيد المتاح. ويقول الناطقون باسم الأحزاب الحاكمة ان قانون الاصلاح (الذي لا يسقط الا أجزاءً من ناطحة الفساد العظيمة) سيطبق اعتبارا من الالتزامات المالية لشهر تموز. وهو ما يعني عمليا تطبيقه في العام المقبل وفق قاعدة التوزيع المعمول بها في كردستان (كل 60 يوما راتب أو اقل) ومع حقيقة ان راتب شباط الماضي سيوزع في تموز الجاري، فان راتب تموز الحالي سيوزع في شباط المقبل.
وسط الصدمة، يبدي كتاب بارزون بل ونواب في البرلمان المثخن بالمصائب، قلقهم من ان يجد قانون الاصلاح الموعود طريقه للتطبيق. ذلك القانون الذي يسمى اصلاحا وهو بالكاد سيمنع الرواتب عن بعض الموظفين الفضائيين والوهميين، وسيقطع بعض الامتيازات عن بعض أصحاب “النضال القومي”، ويلغي تقاعدات بعض كبار المسؤولين ممن تقاعدوا قانونا بملايين ملايين الدنانير دون ان يخدموا ليوم واحد.
وهذا البعض لا احد يعرف عدده بالتحديد، يقولون انهم 100 الف، ويقولون انهم 200 الف، ويقولون انهم 250 الفا، حتى ذكروا الناس بروايات أهل الكهف.
ويبدي نشطاء، خشيتهم ان ينتهي قانون الاصلاح الذي يروج له اعلاميا منذ ثلاث سنوات الى ما انتهى اليه سابقه مشروع “البايومتري” الذي بعد ثلاث سنوات من الترويج الاعلامي، خفض اعداد الموظفين من نحو مليون و260 الفا الى مليون و245 الف قبل ان يعود الرقم ليقفز مجددا الى مليون و255 الفا.
على أطراف الثقوب السوداء حيث يقف مواطنو الاقليم، وفي لجة العواصف الاقليمية الهائجة، ومع خلافات الربابنة التي لاتنقطع على الحصص ودفة القيادة، مازال البعض يأمل بسفينة نجاة يأتي بها الاصلاح، فدونه الطوفان الذي لا ناج منه.