أتركوا الدنيا.. سنهتم بآخرتهم
حال شيعة العراق بعد أكثر من سبعة عشر عاما من حكم الأحزاب الدينية التي ادّعت تمثيلهم والدفاع عنهم في “مظلوميتهم”، واستخدمت عقائدهم ورموزهم الدينية في إضفاء هالة من القدسية على قادتها، لا تختلف عن حال باقي مكوّنات المجتمع العراقي المتضرّر من تجربة الحكم الكارثية وما أنتجته من فقر وبطالة وانعدام للأمن والاستقرار. وحتى القمع الدموي الذي تضلّعت تلك الأحزاب وميليشياتها في ممارسته، لم يوفّر أبناء الطائفة الشيعية عندما غضبوا من سياساتها وانتفضوا ضدّها بشكل سلمي.
العرب/بغداد – تُعتبر الأوضاع القائمة حاليا في العراق بكل ما يميّزها من سوء وتراجع على مختلف الصعد وفي كلّ المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، خلاصة تجربة الحكم التي انطلقت سنة 2003 تحت يافطة الديمقراطية التوافقية وتحوّلت بالكامل إلى تقاسم للسلطة ومغانمها على أساس المحاصصة الحزبية والعرقية والطائفية، في عملية سياسية قامت فيها الأحزاب الشيعية بدور القاطرة عبر احتكارها المنصب التنفيذي الأهمّ في الدولة وهو منصب رئيس الوزراء، وبهيمنتها على المؤسسة التشريعية ممثلة في مجلس النواب، وبتغلغلها في باقي المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية، الأمر الذي جعل قادة تلك الأحزاب يتباهون بتحقيقهم “إنجازا تاريخيا” بتحصيلهم “استحقاقا مشروعا” لأبناء المكوّن الشيعي.
وبعد مضي أكثر من سبعة عشر عاما على تسلّم الأحزاب الشيعية زمام السلطة الفعلية في العراق، أصبح السؤال البديهي والمشروع هو: ماذا استفاد شيعة العراق من حكم الأحزاب التي مارست السلطة باسمهم وجعلت من مبادئهم وعقائدهم شعارات لها واستمدت من رموزهم التاريخية ومقدّساتهم الدينية سلطات ارتقت بقادتها فوق مرتبة البشر العاديين.
الإجابة الواضحة عن هذا السؤال تحملها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لشيعة العراق، ومستوى البنى الأساسية والخدمات العمومية في مناطقهم ومدنهم سواء بوسط وجنوب البلاد أو في باقي المناطق حيث يتواجدون بنسب أقلّ كثافة.
فواقع الأمر أنّ الأحزاب الشيعية التي انقضّت على السلطة إثر سقوط نظام حزب البعث على يد القوات الأميركية واستخدمت المظلومية الشيعية لتركيز أقدامها في السلطة، لم تنجز خلال قيادتها للدولة شيئا يمكنها أن تخصّ به المكوّن الذي تعتبره حاضنتها الأساسية.
وعلى مدى السنوات السبع عشرة الماضية التي مارست خلالها الأحزاب الشيعية في العراق السلطة، لم يبد في أي منعطف أنّها تمتلك مشروعا للتطوير والتحديث وإعادة بناء الدولة.. مشروعا واضح المعالم والأهداف ومتمايزا عن مشروع “النظام السابق” الذي تضلّعت تلك الأحزاب وأبواقها الدعائية في لعنه ونعته بأقذع النعوت.
أدوات لمشروع أجنبي
في مقابل غياب المشروع الوطني عن الأحزاب الشيعية القائدة للنظام العراقي الحالي، كانت تلوح معالم مشروع أجنبي دخيل في خطاب تلك الأحزاب وسياساتها يقوم على ربط العراق بدائرة القرار الإيراني وتحويل العراق إلى منطقة نفوذ لإيران وساحة لتصفية حساباتها ضدّ خصومها الإقليميين والدوليين وعلى رأسهم الولايات المتّحدة الأميركية.
ولا يعود ارتباط كبار قادة الأحزاب والميليشيات الشيعية العراقية بإيران، فحسب، إلى وحدة الطائفة والمذهب وإلى حالة الانبهار بثورة آية الله الخميني التي مثّل نجاحُها في إسقاط نظام الشاه والاستيلاء على السلطة، مصدر “إلهام” لبعض شيعة العراق الحالمين بدولة على شاكلة دولة المرشد، بل يعود أيضا لأسباب تاريخية تتلخّص في أنّ إيران كانت حاضنة لأبرز تلك الأحزاب وقياداتها عندما كانت ترفع راية معارضة نظام صدّام حسين متخطّية في ذلك حاجز العمالة لإيران والقتال إلى جانبها ضدّ العراق في حرب الثماني سنوات.
وعلى سبيل المثال كانت إيران منطلق أحد أهمّ التشكيلات السياسية الشيعية العراقية؛ المجلس الأعلى الإسلامي الذي أسسه محمد باقر الحكيم، وبدا من توقيت إعلانه سنة 1982 بُعيد انطلاق الحرب الإيرانية العراقية في سنة 1980 أنّه كياني وظيفي بامتياز، وهو ما تأكّد من تشكيل المجلس لجناح عسكري له تمثّل في ميليشيا بدر التي يقودها هادي العامري، وهو أحد أقطاب العملية السياسية الجارية حاليا في العراق بعد أن كان قد قاد الميليشيا المذكورة في حربها إلى جانب القوات الإيرانية ضد الجيش العراقي.
كذلك مثّلت إيران أحد أهمّ الملاذات الآمنة لأبرز حركة سياسية في تاريخ الإسلام السياسي الشيعي متمثّلة بحزب الدعوة الإسلامية الذي تأسس بالعراق في خمسينات القرن الماضي لينخرط منذ ستينات القرن نفسه في صراع ضد نظام حزب البعث انتهى بأبرز رموزه وقادته ودعاته منفيين في عدّة دول وعلى رأسها إيران التي أصبحت منذ نهاية السبعينات نقطة جذب واستقطاب للمعارضين الشيعة العراقيين المنبهرين بالنموذج الخميني والساعين لاستنساخ جمهوريته الإسلامية.
وعندما مهّد الغزو الأميركي للعراق الأرضية لعودة معارضي نظام حزب البعث كان حزب الدعوة في مقدّمة المنقضّين على السلطة نظرا لجهوزيته التنظيمية. وقد تولّى قيادة البلاد بشكل متواصل منذ سنة 2006 وحتى 2018 في تجربة كارثية بكل المقاييس قرّبت العراق من وضع الدولة الفاشلة، واستشرى خلالها الفساد الإداري والمالي الذي أتى في فترة رئاسة أمين عام حزب الدعوة نوري المالكي للحكومة (2006-2014) على ثروة يقدّرها البعض بأكثر من تريليون دولار، لم يُلمس لها أي أثر في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وترقية البنى التحتية التي اهترأت وتآكلت وانعدمت في كثير من المناطق بما في ذلك مدن كبرى على رأسها العاصمة بغداد.
وعن ظاهرة الفساد وتأصلها في النظام العراقي بقيادة الأحزاب الشيعية، يقول الكاتب العراقي فاروق يوسف إنّ “نظام المحاصصة كشف عن حقيقته كونه نظاما لتقاسم الثروات بين الأحزاب والميليشيات التي نزحت بالعراق إلى مواقع طائفية هي واجهات يتستر خلفها الفاسدون من اللصوص وقطّاع الطرق والمزورون وأرباب السوابق وخدم الأجنبي من التابعين والموالين والعملاء”.
ويشرح تأثير ذلك على مكانة الأحزاب في أوساط العراقيين وخصوصا الشباب منهم بالقول “دفعت تلك الحقيقة بالشباب الذين لم يعرفوا نظاما سياسيا سوى نظام المحاصصة الطائفية بحكم أعمارهم إلى رفض العيش في ظل ذلك النظام الذي لا يقيم اعتبارا لإنسانيتهم، كونهم مواطنين يجب أن تسود بينهم قيم العدالة الاجتماعية بما فيها التوزيع العادل للثروات”.
ويضيف “لقد اكتشفوا أن الصبر الذي مارسه آباؤهم في مواجهة الفساد في انتظار لحظة فرج تأتي من عالم الغيب ليس له معنى ولا يمكن أن يقود إلى نتيجة يمكن التعويل عليها. فالفاسدون أقاموا دولتهم المحصنة داخل الدولة العراقية المهلهلة والمهترئة والرثة وهو ما ساعدهم على الاستيلاء على ثروات الشعب العراقي وتحويلها إلى حساباتهم الشخصية خارج العراق تاركين أغلبية الشعب العراقي تعيش في حالة من الفقر والفاقة والعوز والجهل والمرض جعلت العراق يبدو كما لو أنه واحد من أكثر البلدان فقرا”.
جريمة ولا عقاب
لقد كان من أبرز عناوين التجربة الكارثية لحكم حزب الدعوة الإسلامية في العراق غزو تنظيم داعش للبلاد صيف سنة 2014 واحتلاله ما يقارب ثلث مساحته، في ظلّ عجز المؤسسة العسكرية والأمنية عن مواجهة مقاتليه بسبب تهالكها وتسرّب الفساد والطائفية إلى صفوفها، حتى قُدّر عدد “الفضائيين” داخلها في عهد المالكي، وهي تسمية محلية تطلق على المنتسبين بشكل صوري للقوات المسلحة والذين يتقاضون رواتب دون أي مشاركة لهم في الخدمة الفعلية، بأكثر من خمسين ألف فرد.
لقد مثّلت حقبة داعش وفترة الحرب عليه في العراق بما حملته من معاناة كبيرة ومآسي غامرة لطيف واسع من العراقيين، أحد أبرز عناوين فشل الأحزاب الشيعية في حكم العراق، وتحديدا حزب الدعوة الإسلامية حيث تسود بين شرائح واسعة من العراقيين قناعة راسخة بأنّ أمين عام الحزب بصفته رئيسا للوزراء وقائدا عامّا للقوات المسلّحة العراقية أثناء غزو داعش للعراق، يتحمّل مسؤولية قانونية على الغزو وما ترتّب عنه من مآسي وكوارث ويستحق المحاسبة على ما حدث.
غير أنّ محاسبة المالكي وغيره ممن أجرموا في حقّ العراق ومواطنيه، تظل أمرا نظريا إلى أبعد حدّ في دولة أفقدتها الأحزاب الطائفية هيبتها وعطّلت مؤسساتها ومن ضمنها مؤسسة القضاء أحد أبرز رموز قوة الدول وقدرتها على فرض عدالتها وإجراء قوانينها على جميع مواطنيها دون تمييز.
ويقول السياسي العراقي غالب الشابندر في تقييمه لتجربة حكم حزب الدعوة الإسلامية للعراق إنّ الحزب فشل وإنّه المسؤول الأكبر عن حالة الفشل لأنه كان يدير غالبية الوزارات والهيئات، مؤكّدا أنّه بات من الصعب على الحزب أن يستعيد بريقه السابق.
ويحمّل السياسي العراقي أثيل النجيفي المسؤولية عن حالة الفشل العام الذي يعيشه العراق إلى الأحزاب الدينية التي يقول إنّها “استغلت الدستور وظروف ما بعد الاحتلال الأميركي لتبني دولة الوهم والخيال”، قائلا إنّ سلاح تلك الأحزاب هو “التخويف من زوال حكم المذهب”.
قمع للجميع
إنّ تباهي الأحزاب الشيعية في العراق بإمساكها بزمام السلطة وحصر قيادة النظام القائم بيد نخبة من المكّون الشيعي، لم يعد يثير اهتمام الجمهور العريض من هذا المكوّن كونه لم يجن من وراء وجود تلك الأحزاب في مواقع متقدّمة بالسلطة أي مكاسب ذات أثر على أوضاعه الحياتية، بينما نال نصيبه الوافر من الخراب الذي نشرته تلك الأحزاب في جميع مفاصل الدولة وانعكس على مختلف مناطق البلاد ومكوناتها الاجتماعية والعرقية والطائفية فقرا وبؤسا وبطالة وترديا في الخدمات العامّة وعدم استقرار أمني وشبه انعدام لسيادة القانون ونُظم العدالة.
ولم يكن مستغربا، والحال تلك، أن تنبثق أعتى انتفاضة شعبية ضدّ نظام الأحزاب الطائفية في خريف العام 2019 من المناطق الرئيسية لشيعة العراق حيث الخزان الجماهيري للأحزاب الشيعية وأن يرفع المنتفضون شعارات لا لبس فيها بإسقاط نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وإنهاء الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي.
وإذ نجحت انتفاضة أكتوبر في خلخلة أسس نظام المحاصصة، فقد كان من أبرز إنجازاتها استكمال تهشيم صورة الأحزاب الشيعية الحاكمة وإسقاط أسطورة تمثيلها للمكوّن الشيعي، وذلك عندما لجأت تلك الأحزاب إلى العنف الشديد لإخماد الانتفاضة وقمع المشاركين فيها سواء باستخدام الأجهزة الرسمية للدولة أو بتوظيف الميليشيات المسلّحة المرتبطة بتلك الأحزاب، فكانت حصيلة بضعة أشهر من الاحتجاج والاعتصام في شوارع وساحات مدن وسط وجنوب العراق تليق بحرب عسكرية حيث قدّر عدد ضحايا موجة القمع الدامية للمحتجين بقرابة الستة آلاف بين قتلى وجرحى، إضافة إلى أعداد من المختطفين والمخفيين قسريا.
لقد جاء اللجوء إلى خيار القوّة والعنف في قمع انتفاضة المدن والمناطق الشيعية بمثابة إعلان رسمي عن انفصال الأحزاب الشيعية العراقية عما كانت تعتبره خزّانها الانتخابي وحاضنتها الشعبية، حيث لم يعد بإمكان تلك الأحزاب أن تستميل الشرائح الشعبية الواسعة في تلك المناطق باستخدام الشعارات القديمة ودغدغة المشاعر الدينية واستثارة الحَميّات الطائفية واللعب على المظلومية التاريخية، فكان أن لجأت إلى خيار العنف والترهيب في محاولة يائسة لفرض نفسها على المكوّن الذي لفظها.
إنّ الانتفاضة العارمة التي انطلقت من داخل الأوساط الشيعية في العراق، ولا يبدو أنّها ستتوقّف قريبا رغم تراجع زخمها بسبب الوضع الصحّي السائد مع تفشي وباء كورونا، تمثّل أكبر تحدّ للأحزاب الشيعية ولشركائها في العملية السياسية وفي قيادة النظام القائم الذي أفقده خواء رصيده من الإنجاز واعتماده المتزايد على القمع في فرض السلطة شرعيته وأضعف فرصه في البقاء والاستمرار، إذ لا أحد يعلم طريقة خروج هذا النظام من مأزقه الحالي ومن أزمته المركّبة التي يتضافر فيها شبه الإفلاس الاقتصادي والمالي مع الأزمة الصحية الخطرة الناتجة عن جائحة كورونا، بالإضافة عدم الاستقرار الأمني الذي لا يتجلّى فقط في نشاط خلايا تنظيم داعش واستعصاء عملية القضاء عليها واستئصالها بشكل نهائي، ولكن أيضا في انفلات الميليشيات المسلّحة وفي فوضى السلاح الذي برزت خطورته مجدّدا خلال عملية اغتيال الناشط السياسي والخبير الأمني هشام الهاشمي التي مثّلت خصما جديدا من رصيد الثقة الهزيل للعراقيين في الدولة وزادت من منسوب النقمة على القوى السياسية الحاكمة فيها.