هناك من يعتقد بأنه كان من الممكن للعراق أن ينمو ويتطور سلميا ولو ببطء دون ثورة 14 تموز 1958. ويعتقد حملة هذا الرأي أن ذلك كان أفضل للعراق من “الانقلاب العسكري” في 14 تموز، لكون هذا الحدث أدخل العراق في دوامة الانقلابات العسكرية والعنف. ولكن مجرى تطور الأحداث والظروف التي أحاطت بالبلاد، داخلياً وإقليميا وعالمياً، لاسيما خلال العقد الأخير قبل ثورة 14 تموز تفند الرأي المذكور. فالأقلية الحاكمة في العراق آنئذ، كانت تشكل حجر عثرة أمام طبيعة ووتيرة التطورات المطلوبة موضوعياً من النواحي السياسيةً والاقتصاديةً والاجتماعية في العراق. وقطعت تلك الأقلية السبل السلمية على القوى الوطنية، التي تنشد التغيير وتحمل مشروعا تقدميا، من أن تلعب دورها في تطوير البلد. واستخدمت تلك الأقلية العنف ضد أي تحرك جماهيري بما في ذلك التحركات المطلبية كإضرابات العمال وتمردات الفلاحين السلمية . وسأحاول هنا الإشارة إلى ملامح تلك الفترة بإيجاز.
لقد شهدت البلاد في خمسينات القرن الماضي نهوضاً وطنياً عاماً عكس نفسه في الاستعداد الجماهيري لخوض النضالات المطلبية والسياسية، والنزوع القوي نحو الاستقلال الناجز للعراق ورفض جميع الاتفاقيات المكبًّلة لحريته مع الدول الاستعمارية. وكانت الظروف الدولية مشجعة، وتمثل ذلك بانتصار الثورة الصينية وحصول الهند واندونيسيا والعديد من الدول الآسيوية الأخرى على استقلالها. وعلى الصعيد الإقليمي، نالت سوريا ولبنان استقلالهما، وأممت إيران نفطها، وسقط النظام الملكي الموالي للاستعمار في مصر، وتصاعدت حركة السلام العالمية، وظهرت كتلة عدم الانحياز. في مثل هذه الظروف كانت الأقلية الحاكمة في العراق تسبح ضد التيار، وتسعى بكل قواها إلى ربط العراق بالأحلاف العسكرية الاستعمارية. وقد حققت الفئة الحاكمة ذلك بانضمامها إلى حلف بغداد، بعد بطشها بالشعب وقواه الوطنية. وبذلك فضحت نفسها أكثر فأكثر باعتبارها فئة موالية للاستعمار.
أما على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فإن أول ما نشخصه هنا هو تعمّق التمايز الطبقي في المجتمع خلال السنوات السابقة لثورة 14 تموز في كل من الريف والمدينة على السواء. ولكن هذا التمايز اتخذ في الريف أبعاداً أوسع، وأفرز نتائج أخطر امتدت آثارها إلى المدينة، لأن تعاظم الفقر الذي حاق بالفلاحين، دفع بمئات الألوف منهم إلى ترك ديارهم والهجرة إلى المدينة حاملين معهم إليها كل أوضار المجتمع الريفي الفقير المتخلف… وكان العامل الأول في إفقار الفلاحين هذا قد نبع عن اتساع عملية استيلاء الملاكين الكبار على الأراضي الزراعية.
وجرت العملية المذكورة نتيجة لسياسة الحكومة التي كان يهمها، خاصة في السنوات الأخيرة من عمرها، تطمين مصالح الإقطاعيين الذين باتوا أحد أعمدة النظام الأساسية. فشرّعت الكثير من التشريعات لتحقيق تلك السياسة، حتى بلغ التفاوت بين ملكية الأرض الزراعية، ما بين الفلاحين والملاكين، حداً لا مثيل له في أي بلد في العالم. إن 3% فقط من مجموع مالكي الأراضي الزراعية في العراق كانوا يملكون ثلثي الأراضي الزراعية في عام 1958. أما في مصر وسوريا فكانت النسبة تبلغ 35% و36% فقط من الأراضي الزراعية بيد الملاكين الكبار. وكان هناك ثمانية ملاكين عراقيين فقط بحوزة كل واحد منهم أكثر من مائة ألف (100000) دونماً. إن من يملك عشر هكتارات (الهكتار يساوي أربعة دوانم) فما فوق في الهند يُعد ملاكاً كبيراً. وكذا الحال في مصر فمن كان يملك 162,2 دونما فأكثر يُعد هو الآخر من الملاكين الكبار. وكانت حصيلة هذه السياسة تعاظم إفقار الفلاحين. ولم تستوعب الزراعة آنذاك وفي أغلب أشهر العام سوى 50% من الأيدي العاملة في الريف. ونتيجة لهبوط إنتاجية العمل في الزراعة العراقية، لم يحصل المنتجون المباشرون ما يسد رمقهم. وكان ذلك سبباً في تعاظم إفقار الفلاحين وبؤسهم المريع، فاضطروا إلى الهجرة بأعداد كبيرة صوب المدن، لاسيما الكبيرة منها.
أثار تأميم صناعة النفط في إيران عام 1951 حماسة الجماهير الشعبية للمطالبة بتأميم النفط العراقي. وأخذت الصحف تنشر البرقيات والعرائض الجماهيرية المطالبة بذلك. وعند مصادقة البرلمان الإيراني على قرار حكومة مصدق، طالب عشرون نائبا في البرلمان العراقي أن يحذو البرلمان العراقي حذو جاره. ومن أجل الالتفاف على هذه الحركة قامت الحكومة العراقية بالاتفاق مع شركات النفط ببعض الإجراءات الجزئية لتبديد زخم المطالبة، ولكن دون جدوى.
في شباط 1952 وقعت الحكومة اتفاقاً جديداً مع شركات النفط يقضي بأن تدفع الشركات إلى الحكومة العراقية ستة شلنات ذهبا عن الطن الواحد من النفط الخام. وطبقا للحسابات التي تجريها الشركات، زعم الطرفان أن حصة الحكومة باتت تعادل خمسين بالمائة من صافي الأرباح التي تحصل عليها الشركات. وألزمت الاتفاقية المذكورة الشركات بتصدير 30 مليون طن من النفط الخام سنويا. وقررت الفئة الحاكمة رصد 70% من عائدات النفط لمجلس الاعمار، الذي غرس الانكليز والأمريكان عناصرهم فيه باسم الخبرة والاستشارة منذ ظهوره للوجود في عام 1950. وجاءت استشارتهم بتوجيه الأموال للقطاع الزراعي بالأساس. وليس بهدف الارتقاء بأساليب الزراعة وزيادة إنتاجيتها، وإنما إلى العمل فقط على توسيع الأراضي الزراعية بدعوى أن استصلاح المزيد من الأراضي وتوزيعها على المزارعين الصغار سيحسن من شروط عمل الفلاحين لدى الملاكين الكبار ويخفف من وطأة البطالة. لكن الأراضي المستصلحة في ظل سياسات الحكم الموالية للملاكين الكبار كانت تقع في أيدي هؤلاء في النهاية. ورغم كل ما أنفق من أموال طائلة في هذا القطاع فإن قيمة الإنتاج الإجمالي للقطاع الزراعي تراجعت من 39% من الناتج القومي الإجمالي للبلاد إلى 30% في عام 1958.
وحُرم القطاع الصناعي من أموال مجلس الاعمار بحجج مختلفة، في مقدمتها، عدم تمكن الصناعة الوطنية من منافسة الصناعة الأجنبية المستوردة إلا في ظل سياسة حماية شديدة ستؤدي إلى الاحتكار، وبالتالي زيادة أسعار المنتجات الصناعية المحلية، ومن شأن ذلك تدمير موارد البلاد وعرقلة تقدمها. ولكن ما لم يفصح عنه هؤلاء الخبراء، إنهم بتأكيدهم على تجنب الحماية، إنما يدافعون عن مصالح الشركات الاحتكارية الأجنبية، التي ظلت تحتكر معظم تجارة التصدير والاستيراد حتى ثورة 14 تموز بالتعاون مع بعض التجار المحليين الكبار. وأدى هذا الموقف من الصناعة الوطنية إلى أن يكون نموها بطيئاً ولا يتناسب مع إمكانيات ومتطلبات تطويرها، حيث لم يشتغل في الصناعة سوى 264 ألف شخص قبل ثورة 14 تموز 1958.
ومع تنامي الإنفاق الحكومي وشركات المقاولات، وأغلبها أجنبية، وتزايد الطلب على السلع الاستهلاكية والإنتاجية، تنامى عدد الذين يتعاطون التجارة بالجملة والمفرد. ومما له دلالته في هذا الصدد هو تأسيس العديد من الغرف التجارية الجديدة في الخمسينات إلى جانب غرف بغداد والبصرة والموصل، وذلك في كل من مدن العمارة والنجف وكربلاء والحلة وكركوك والناصرية. وبلغ عدد المسجلين في جميع الغرف التجارية 9423 تاجراً قبل ثورة 14 تموز. ويشير كل ذلك إلى نمو البرجوازية التجارية ونمو وعيها الطبقي. وشكل الصناعيون في الفترة موضوعة البحث اتحادهم الخاص بعد أن كانوا ينتمون إلى الغرف التجارية سابقاً.
وارتباطا بكل هذا. ومع تزايد الدور الذي باتت تلعبه الدولة في مختلف المجالات اتسع الجهاز الحكومي وأدى هذا ، إلى جانب عوامل أخرى، إلى اتساع التعليم بكل مراحله.
على أي حال، أدى الإنفاق الواسع على مشاريع مجلس الأعمار في بلد كان يشكو في الأساس من ضعف قدراته الإنتاجية، إلى ارتفاع كبير في الأسعار. وواجه المستهلكون والمنتجون على السواء دوامة التضخم النقدي الذي عانى منه الكادحون آنذاك بوجه خاص، وكان ذلك أحد أسباب التوتر في قلب المجتمع.
في صيف عام 1954 أصبح نوري السعيد رئيساً للوزراء من جديد. وقد أصدر من 22 آب إلى 12 تشرين الأول جملة من المراسيم التعسفية التي اشتهرت باسم (المراسيم السعيدية). كانت هذه المراسيم معادية لأبسط الحقوق الديمقراطية ومخالفة لدستور البلاد. وكانت باكورة هذه المراسيم مرسوم حل المجلس النيابي، الذي لم يعقد سوى جلسة واحدة انتخب فيها رئيسه. ولم يحظر نوري السعيد نشاط الأحزاب المجازة فحسب، بل حلّ جميع الجمعيات المجازة بمختلف أنواعها وأغراضها أيضاً، وألغى امتيازات جميع الصحف. وأجاز فقط ثلاث صحف موالية للحكومة. وألزم نوري السعيد السجناء الشيوعيين الذين ينهون حكومياتهم بإعطاء براءة من الشيوعية والتعهد بخدمة الملك وإلا ستسقط عنهم الجنسية العراقية! وأقدمت حكومته فعلا على إسقاط الجنسية عن عدد من الشيوعيين والديمقراطيين، ومن بينهم المحاميان المشهوران توفيق منير نائب نقيب المحامين وكامل القز انجي، وتم تسفيرهما إلى تركيا. كما أسقطت الجنسية عن عدد من الوطنيين ممن كانوا خارج البلاد وهم عزيز شريف وصفاء الحافظ وكاظم السماوي وعدنان الراوي.
وبادرت حكومة نوري السعيد بشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف القوى الوطنية. وفصلت عدد كبير من أساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين والموظفين والطلبة ذوي الميول الوطنية والديمقراطية وحجزتهم في معسكرات تحت عنوان أداء الخدمة العسكرية. وباتت (البراءة) من الشيوعية مطلوبة للقبول في الكليات حتى ولو كان المرء قومياً! وأضحى جلياً بأن كل هذه الإجراءات هي مقدمة وتمهيد لربط العراق بالأحلاف العسكرية الامبريالية. وعلى اثر تلك الإجراءات بدأت الحركة الوطنية الديمقراطية تعاني من التراجع. لقد كانت الحركة الوطنية في جزر، فلم تتمكن من التصدي الفعّال لإحباط مساعي الحكومة لعقد الحلف.
إن سياسة نوري السعيد قد عزلت العراق عن شقيقاته العربيات، وراح السعيد يتآمر ضدها على المكشوف، مما وسع السخط وعمّقه ضد الحكم الرجعي. ومن مؤشرات ذلك تحول إضراب قصابي الموصل، احتجاجاً على زيادة الضرائب، إلى إضراب عام شمل المدينة كلها ودام أسبوعا كاملاً، حيث عبر الموصليون فيه عن تضامنهم مع مصر التي أممت قناة السويس، وعن حقدهم على حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وقد واجه الحكم الاستبدادي الإضراب السلمي بإعلان حالة الطوارئ، وشن حملة واسعة من الاعتقالات شملت عدد من المحامين والنواب السابقين. وحُكم على 200 من أبناء المدينة بالسجن، وأرسل قسم منهم إلى سجن نقرة السامان الصحراوي.
وفي يوم 16 آب 1956، اليوم الذي حدده الامبرياليون لعقد مؤتمر لندن لتقرير طريقة الانتقام من مصر جراء إقدامها على تأميم قناة السويس وضرب مصالحهم الإستراتيجية في المنطقة، عمّ الإضراب بغداد والموصل والرمادي والحي والحلة ومدن عراقية أخرى، رغم كل أساليب الحكومة الوحشية لإفشال الإضراب. وساهم في الدعوة للإضراب إلى جانب الحزب الشيوعي كل من الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي. وخرجت الجماهير بمظاهرات تحمل الأعلام العربية وشعارات التضامن مع مصر. فقابلتها الشرطة بالرصاص واعتقلت أكثر من عشرين متظاهراً. وطُوقت السفارة المصرية لمنع دخول المتطوعين للدفاع عن مصر، وطالب زبانية السلطة المعتقلين بشتم الرئيس عبد الناصر. وكان الإضراب استجابة لدعوة اللجنة المركزية العربية التي تشكلت في دمشق، وقد عم الإضراب في نفس اليوم العديد من الدول العربية.
وعندما حصل العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين الثاني 1956، تأججت المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب العراقي. ولكن الحكم الرجعي واصل مواقفه المنافية لأبسط مستلزمات التضامن القومي، فقطع علاقته الدبلوماسية مع فرنسا ولم يقطعها مع بريطانيا المعتدية. فزاد هذا الموقف من تأزم الأوضاع، فاجتمعت الأحزاب الوطنية والقومية، الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي وعدد من الديمقراطيين المستقلين، لدراسة الموقف، وقررت تشكيل قيادة موحدة لقيادة النشاطات الاحتجاجية ضد العدوان وضد الحكم الرجعي. وفي إطار النشاط الطلابي تكونت لجنة طلابية عليا للتضامن مع الشعب المصري. وقد أشرفت هذه اللجنة على تعبئة الطلبة وقيادة مظاهراتهم.
اندلعت انتفاضة تشرين الثاني 1956 لنصرة مصر وكانت حركة التحرر الوطني العربية في أوج نهوضها. وخرجت الجماهير الشعبية العراقية في مظاهرات احتجاجية عارمة على العدوان ولنصرة مصر الشقيقة، وهتفت بسقوط حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وقد عمت المظاهرات ثلاثين مدينة من جنوب العراق إلى شماله مرورا بوسطه. وكانت واسعة جداً في النجف، وساهمت فيها مختلف الفئات الاجتماعية بما في ذلك رجال دين بارزون. وقد استمرت المظاهرات في البلاد مدة شهرين، وتوّجت بانتفاضة الحي الباسلة. جوبهت المظاهرات من قبل حكومة نوري السعيد بالأحكام العرفية وتعطيل الدراسة في الكليات والمدارس وبالقمع العنيف. وسقط الكثير من الضحايا، وتعرض حوالي عشرة آلاف طالب للفصل والإبعاد والسجن، وأرسلت المحاكم العسكرية المئات من المناضلين إلى السجون.
كانت السلطات تتحسس، وهي على حق، من أي شعار، حتى ولو كان شعارا قومياً عاما مثل “يعيش جمال عبد الناصر” لأنه ينطوي على عداء لحلف بغداد وحكومة نوري السعيد. وقد لعب الشيوعيون دوراً فعالاً، إن لم نقل طليعياً، في المظاهرات. وكان أول شهداء الانتفاضة الكادر الشيوعي الباسل عواد الصفار عضو لجنة منطقة بغداد الذي استشهد في العاصمة، وآخرهم الشيوعيان البطلان عطا الدباسة وعلي الشيخ حمود اللذان أعدما في ساحة الصفا التي تقع وسط مدينة الحي والتي كانت تنطلق منها المظاهرات، بعد أن قمعت الطغمة الحاكمة انتفاضة المدينة الباسلة مستخدمة حتى الأسلحة الثقيلة.
كانت الأحزاب السياسية حتى انتفاضة تشرين 1956 عازمة على إجراء التغيير في الحكم سلميا. وقد نصت وثيقة الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي، الذي يمثل الجناح اليساري في الحركة الوطنية، الصادرة في 1956 على اعتبار المعركة “ذات طابع سلمي غالب”. وكانت هذه الانتفاضة ثالث انتفاضة خلال ثمانية أعوام، ولم تتمكن من تحقيق تغيير في طبيعة الحكم. وإن تمكنت الجماهير الشعبية من التنفيس عن مشاعرها في الانتفاضتين الأوليتين وتحقيق بعض المكاسب الجزئية، فإن الأجهزة القمعية التي تضاعفت قوتها آنذاك بفضل ازدياد عائدات النفط، وبفضل خبرة خبراء حلف بغداد، لم تسمح بتحرك جماهيري واسع في العاصمة بغداد، حيث قمعت بقسوة شديدة وبالرصاص جميع المبادرات النضالية. وقد استخدمت الحكومة الحديد والنار لقمع انتفاضتي النجف والحي. وإذا ما ناور النظام في الانتفاضتين السابقتين ولجأ إلى إجراءات تنفسية وتخديرية، فإنه لم يكتف بعدم لجوئه لذلك فحسب، بل تهجم نوري السعيد في خطابه رداً على الانتفاضة بعنف وصلافة. وقد ختم خطابه مردداً باستهتار الهوسة المعروفة (دار السيد مأمونة)، ليستفز المشاعر الوطنية والقومية ويدفع جميع القوى الوطنية إلى اليأس من إمكانية إجراء التغيير سلمياً. وهكذا لجأت الأحزاب السياسية إلى الجيش فوجدته جاهزاً للعمل. فتشكلت اللجنة العليا للضباط الأحرار في كانون الأول 1956. وكانت نواة هذه المنظمة قد تأسست في أيلول عام 1952، أي بعد انقلاب جمال عبد الناصر بشهرين.
كان الجيش العراقي شديد التأثر بما يجري في المجتمع العراقي. وكانت الأجواء السائدة في داخله أكثر إثارة للاستياء لأسباب ذاتية وموضوعية. فمن المعروف إن الجيش العراقي يعتمد على الخدمة الإلزامية، وإن قاعدته من الكادحين والفقراء الأكثر معاناة من سوء الأوضاع، حيث يتهرب أبناء الميسورين من أداء الخدمة بدفع البدل النقدي أو بالتحايل على القوانين مستغلين الفساد الإداري. أما بالنسبة للضباط فإن إجمالي سلك الضباط ينحدر من أصول تعود إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وكان للأوضاع وللأحداث الوطنية والقومية صداها وتفاعلاتها في الجيش، كانتفاضات الشعب المتتالية منذ 1948، واستخدام الجيش لقمع انتفاضات وتحركات الجماهير الواسعة منذ عام 1952، أي تحويل الجيش إلى قوة بوليسية سياسية لتصفية الخصوم السياسيين. وتواطؤ الحكام وخياناتهم في حرب فلسطين، ونجاح الضباط بقيادة جمال عبد الناصر للاستيلاء على السلطة عام 1952 وبدء الثورة المصرية، وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر وموقف الحكومة العراقية المهين للمشاعر القومية من العدوان، بعزلها العراق عن العالم العربي بحكم ارتباطها بحلف بغداد. كما يمكن أن يضيف المرء عوامل موضوعية أخرى كان لها صداها وتأثيرها في الجيش، مثل صفقة الأسلحة التي تلقاها المصريون من الاتحاد السوفييتي وبكميات هائلة لا يمكن مقارنتها بما حصل عليه نوري السعيد من حلفائه، والاتحاد مع الأردن عام 1958، كرد هاشمي على تأسيس الجمهورية العربية المتحدة، والذي لا يخدم سوى الأسرة الهاشمية المعزولة، في حين يرهق العراق مالياً .
ولم يأت تحرك الجيش لقلب نظام الحكم في 14 تموز، ولا تأسيس منظمة الضباط الأحرار بقرار من الأحزاب الوطنية. فقد كان لتأسيس المنظمة ظروفها الموضوعية والذاتية الخاصة بها. وقد تأسست المنظمة وترعرعت قبل أن تلتفت الأحزاب الوطنية إلى استخدام الجيش كرأس رمح لإسقاط النظام.
وهكذا نرى أن نظام الحكم الملكي بزعامة نوري السعيد لم يقف عائقاً أمام تطور البلد فحسب، بل وقد سد كل السبل أمام القوى الوطنية والتقدمية من أن تلعب دورها في تقدمه بالطرق السلمية. ومن هنا اكتسب سقوط النظام وبالعنف مشروعيته التاريخية.