ما هي أكبر منشأة متصلة بناها البشر في تاريخهم؟ من ناحية القلاع والنصب التذكارية وحتى الأبراج هناك الكثير من الأجوبة الممكنة، لكن سور الصين العظيم يقزمها جميعاً عند مقارنتها به، فمع كونه يمتد لأكثر من عشرين ألف كيلومتر ويتضمن مئات -إن لم يكن آلاف- الأبراج والحصون على طوله لمنع الغزاة من المرور، ومع أن هذا السور لم يكن فعالاً تماماً طوال الوقت في الواقع، فهو يبقى واحداً من أعظم ما بنته البشرية ولو أنه كلف الكثير من الموارد والأرواح لبنائه.
هناك العديد من الأساطير والخرافات التي تتناول السور العظيم بطبيعة الحال، فكونه معلماً مهماً ومعروفاً بشكل عالمي يعني أن الكثير من الإشاعات ستتناوله، ومع أن معظم ما يتم تداوله عن السور العظيم لا يعدو عن كونه مختلقاً من البعض، فالحقيقة التي نعرفها عنه لا تقل إثارة للدهشة والفضول.
وهنا بعض من أهم الحقائق والمعلومات المثيرة للاهتمام حول المنشأة الأكبر في التاريخ البشري:
لم يكتمل السور على مرحلة واحدة
من المعروف لدى الكثيرين أن فكرة السور العظيم بدأت مع سلالة تشين التي حكمت الصين ووحدتها للمرة الأولى وحتى أعطتها اسمها الحالي، لكن هذه السلالة كانت من الأقصر استمراراً في التاريخ الصيني حيث لم تستمر سوى 15 سنة في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، ومع أن الامبراطور Qin Shi Huang هو من بدأ فكرة بناء سور بطول خمسة آلاف كيلومتر لحماية المنطقة من غزوات القبائل المحيطة، فمعظم العمل لم يتم في عهده في الواقع بل جرى عبر قرون عديدة لاحقة.
مع انتهاء سلالة تشين السريع أكملت السلالات التالية الحاكمة للصين فكرة السور، فمع مجاورة الصين لمناطق رعوية واسعة مثل شرق الصين الحالية ومنغوليا، كان من الضروري إنشاء السور لمنع الهجمات المستمرة للقبائل على القرى والبلدات الواقعة تحت الحكم الصيني، وبالطبع كون العمل جرى على مدى عدة سلالات لا سلالة واحدة فقط، فقد احتاج وقتاً طويلاً جداً بشكل قد يستغربه العديد من الأشخاص، فبين بداية ونهاية إنشاء السور استغرق الأمر قرابة 18 قرناً من الزمن.
في مخيلة معظم الأشخاص، يعد السور العظيم معلماً أثرياً مهماً جداً وربما حتى معجزة معمارية كون الاعتقاد السائد هو أنه بني قبل آلاف السنين، لكن في الواقع لم يبدأ العمل على السور حتى عام 221 قبل الميلاد (مع بداية سلالة تشين) والأجزاء المهمة والشهيرة من السور (والتي لا تزال قائمة اليوم) لم تبنى حتى وقت متأخر من التاريخ الصيني بين القرنين الرابع والسابع عشر في عهد سلالة مينغ التي حكمت في ذلك الوقت، التي استخدمت آليات بناء أحدث وأفضل سمحت باستمرار السور حتى الآن.
السور ليس منشأة واحدة متصلة ببعها البعض
عند تخيل السور العظيم للصين فما يخطر بالبال هو سور طويل للغاية يمتد على جميع الحدود الصينية (القديمة على الأقل) ويغلقها برياً بشكل كامل تماماً، على الأقل أنا كنت أفكر هكذا سابقاً، لكن الواقع مختلف تماماً عن ذلك، فالسور ليس جزءاً واحداً ولا يغطي الحدود الصينية بأكملها حتى، بل أنه مكون من عدد كبير من الأجزاء المنفصلة عن بعضها البعض والممتدة لمئات وأحياناً آلاف الكيلومترات، ويحمي الحدود الشمالية للصين القديمة فقط.
عند النظر للسور وهو كرسوم على خريطة (كما في الصورة أعلاه) فمن الواضح أن السور لم يكن عملاً منظماً تماماً وبالتأكيد لم يتم بناؤه دفعة واحدة، فهناك عدة فترات من النشاط في بنائه (تظهر بألوان متمايزة) مع مرور مئات السنين بين فترات البناء المختلفة، بالإضافة لبناء أسوار متعددة أمام بعضها البعض.
بالطبع فالمنظر عن الأرض مختلف تماماً عما يظهر على الخرائط، حيث سنتيمترات على الخريطة توازي مئات الكيلومترات في الواقع مما يبرر ربما كون السور بني بهذه الطريقة الغريبة بحيث يبدو كشبكة متقطعة من الجدران.
كلا، لا يمكن رؤية السور العظيم من الفضاء
واحدة من أكثر الاعتقادات الخاطئة المنتشرة على نطاق واسع بين الناس هي أن السور العظيم هو المنشأة الوحيدة من بناء الإنسان والتي من الممكن رؤيتها من الفضاء الخارجي أو حتى من سطح القمر، لكن الواقع مختلف للغاية وبالعين المجردة لا يمكن تمييز السور حتى من نافذة الطائرة في حال كان ارتفاع الطيران كبيراً، فما بالك بمدار الأرض القريب حيث تدور محطة الفضاء الدولية أو حتى سطح القمر على بعد مئات آلاف الكيلومترات حيث الأرض بأكملها تبدو صغيرة جداً.
على الأرجح أن الاعتقاد الخاطئ أتى من محاولات مبالغة في وصف السور العظيم، لكن بالتفكير بالأمر فعلى الرغم من أن السور كبير جداً كحجم إجمالي، فهو ليس كبيراً حقاً بالنظر إليه عن قرب، ولو أنه قابل للتميز من الفضاء لكانت العديد من المنشآت البشرية الأخرى قابلة للتمييز من هناك أيضاً.
على أي حال فهناك بعض المنشآت البشرية التي ترى من الفضاء، وهي المدن الكبرى في الليل، حيث يمكن ملاحظتها من محطة الفضاء الدولية اعتمادًا على الأضواء الكثيرة التي تخرج منها.
استخدمت مواد غير معتادة في بناء السور
بطبيعة الحال فالسور -كما أي منشأة قديمة أخرى- بني من مواد معتادة مثل الأحجار والصخور بالإضافة للركام اللازم لملء الفراغات ضمنه، لكن هذه المواد لم تكن الوحيدة المستخدمة، فقد أظهرت التحاليل أن الأرزً الدبق (أحد أنواع الأرز الذي عادة ما يزرع في جنوب شرق آسيا) لعب دوراً مهماً في بناء بعض أجزاء السور حيث أن دبقه العالي جداً جعله مادة قريبة في الخواص للإسمنت نوعاً ما، وهذه الخاصية جعلته مفضلاً لربط الأحجار ببعضها البعض حيث يعود الفضل إليه (وفق بعض العلماء) بكون السور لا يزال قائماً وبحال جيدة في الكثير من أجزائه.
كان المحكومون والمجرمون يرسلون إلى السور العظيم
يعرف جيدا محبو المسلسل الشهير Game of Thrones أن السور في المسلسل هو مكان ينفى إليه المحكومون والمجرمون المدانون للتكفير عن خطاياهم عادة، ومع كون الكاتب George Martin معروفاً باقتباسه للعديد من الأحداث الحقيقية في مسلسله الشهير، فلا عجب أن فكرة السور العظيم الذي يحرسه ويصونه أشخاص بينهم مجرمون مدانون لم تكن من بنات أفكاره بل وجدت في التاريخ سابقاً، وبالأخص في حالة السور العظيم.
تتبع معظم البلدان اليوم نظام إصلاح يتضمن الخدمة المجتمعية، حيث يحتفظ المحكومون بحريتهم مقابل بعض الواجبات المفيدة في المجتمع مثل جمع القمامة أو المساعدة في أعمال أخرى، وهذه العقوبة البسيطة اليوم تمتلك جذورها المعروفة في الماضي فيما يعرف بالأعمال الشاقة، لكن الإصدار الصيني كان أشد من مقابليه في الواقع، فالمحكومون كانوا يرسلون للعمل على الجدار بشكل دوري مع حلق رؤوسهم وصبغ وجوههم باللون الأسود بالإضافة لتقييدهم بسلاسل تحد حركتهم، ولم يكن العمل بسيطاً بالطبع بل كان خطراً للغاية، ووفق بعض التقديرات فحوالي أربع مئة ألف عامل سجين فقدوا حياتهم أثناء بناء وصيانة السور العظيم.
كان للسور مكانة روحية كبيرة للصينين القدماء
في الثقافات الشرق آسيوية، هناك قدر كبير من التقدير والتقديس حتى للأسلاف والأجداد، لذا فلا عجب بأن السور العظيم متخم بالعديد من النصب والمزارات التي تشكل تذكارات لشخصيات تاريخية مثل جنرالات وقادة عسكريين وأباطرة سابقين، وبالطبع العديد من الرموز الدينية والشخصيات المهمة التي رسمت الملامح الأساسية للثقافة الدينية في الصين والتي شكلت مزيجاً بين البوذية والكونفوشيوسية والديانة الصينية التقليدية.
بالإضافة لذلك، فكون السور قد تسبب بوفاة العديد من الأشخاص وبالأخص البنائين أثناء إنشائه، فقد كان من التقاليد المهمة في العديد من الفترات قيام أفراد عائلات البنائين الميتين بالمرور عبر السور مع جر ديك خلفهم، هذا التقليد أتى من كون العديد من البنائين الذين ماتوا دفنوا ضمن السور نفسه، وكون أقاربهم كانوا يخشون أن تعلق أرواحهم هناك للأبد في حال لم يقم أحد بقيادتها ودلها إلى طريق الخروج من السور، والطريقة بالطبع كانت السير عبر السور مع جر ديك.
لم تكن فعالية السور ممتازة تماماً
بالنسبة للغزو من القبائل الشمالية في منغوليا، كان السور عظيماً بالطبع فقد كان قادراً على منع الغزاة من تجاوزه، أو على الأقل جعل الأمر صعباً كفاية بحيث لا تبقى فكرة الغزو مفيدة حقاً، لكن عند الحديث عن غزو حقيقي من قبل جيوش كبيرة لا من قبل قبائل صغيرة فالسور كان أكبر بكثير من أن تتم المحافظة عليه ووضع عدد كافٍ من الجنود لحمايته، وبوجوده وحيداً فقد كان تفكيك أجزاء منه وهدمها للسماح بالمرور أمراً ممكناً بالنسبة للجيوش الغازية، وبالأخص في حال كانت جيوشاً صينية أخرى.
كما ذكرنا أعلاه فالجزء الأهم من السور كان قد بني من قبل سلالة Ming التي حكمت لعدد قرون وصولاً إلى القرن السابع عشر، لكن حكمها انتهى مع الغزو المنشوري من قبل سلالة Qing (منشوريا هي الجزء الشمالي الشرقي من الصين الخالية)، وعلى الرغم من كون السور العظيم يمتد من البحر إلى أبعد من حدود منشوريا بكثير فقد تمكن المنشوريون من تجاوزه لتبدأ فترة من الأشد اضطراباً في التاريخ الصيني مع حوالي 7 عقود من الحرب الداخلية والصراعات.
- اقرأ أيضا مقال: أين هي الصين؟
كانت شعبية السور خارج الصين أكبر من شعبيته داخلها
بالنسبة لكونه معلماً أثرياً مهماً وواحداً من أهم وجهات السياح في آسيا اليوم، فالسور لم يعد شيئاً مهماً حقاً بالنسبة للصينيين حتى العقود الأخيرة في الواقع، فمكانته كأداة دفاعية كانت قد تراجعت بشكل كبير جداً في القرون الأخيرة حيث بات غير مهم في وجه الجيوش الأحدث والمدافع مثلاً، وانعزال الصين لم يسمح بانتشار المعرفة حول السور بشكل واسع حتى القرن التاسع عشر حيث بدأ يجذب السياح حينها، ولو أن القرن العشرين لم يكن جيداً أبداً للسور.
يعرف الجميع اليوم سور الصين، والسياح يتوافدون لزيارته بمئات الآلاف كل عام، لكن بالنسبة للحكومة الشيوعية وبالأخص في الفترة الأولى لم يكن الأمر كذلك، فحتى الثمانينيات كانت الصين شبه مغلقة أمام الغرباء والاستثمارات الخارجية بسبب النظام الاقتصادي الشيوعي الخانق، وخلال الستينيات والسبعينيات كان السور مكاناً رخيصاً لتحصيل مواد البناء للبعض، حيث قام الكثير من القرويين الصينيين وبتشجيع حكومي بتفكيك كيلومترات من السور لاستخدام الأحجار في بناء المنازل والمنشآت الأخرى.
بالطبع فالأمور قد تغيرت اليوم لكن الضرر حصل بالفعل، والعديد من القرى المجاورة للسور باتت تمتلك أجزاءً من السور ضمن مبانيها اليوم، وبالتحديد المباني التي أقيمت بين عامي 1966 و1976 حيث كان الاقتصاد الصيني لا يزال هشاً للغاية ويعاني الأمرين من السياسات السيئة للرئيس حينها Mao Zedong.
هناك أجزاء لا تزال غير مكتشفة، وأخرى آيلة للاختفاء تماماً
كون السور العظيم بني عبر العديد من المراحل وعلى شكل شبكة معقدة من الأسوار المختلفة والتي تتقارب أحياناً وتتباعد في أحيان أخرى جعل توثيق كل أماكنه صعباً للغاية، فالأجزاء الجديدة تظهر من وقت لآخر وفي أماكن غير متوقعة أحياناً، ومع كون السور بني بشكل عشوائي نوعاً ما فلا عجب أن أجزاءً منه لم يعثر عليها حتى عام 2012 مثلاً خصوصاً في منطقة الحدود الصينية المنغولية وضمن الأراضي المنغولية كذلك.
عدا عن فقدان المعرفة عن أجزاء عديدة من السور، فهناك أجزاء أخرى فقدت حقاً عبر التاريخ وحتى من المرحلة الأخيرة من السور، فمع أن الطول الحالي للسور يصل حتى عشرين ألف كيلومتر، فالأبحاث تشير إلى وجود ما لا يقل عن ألفي كيلومتر على الأقل من المناطق التي كان السور يمتد فيها لكنه تهدم أو أزيل مع الوقت وفقد بذلك للأبد، هذه المسافة المفقودة خاصة بالمرحلة الأخيرة في عهد سلالة Ming، بينما الأجزاء الأخرى يرجح أنها فقد أجزاءً أكبر حتى لكن تقديرها غير ممكن بسبب قدمها.
في الواقع فزوال أجزاء من السور ليس مشكلة قديمة فقط، فاليوم يعاني السور من العديد من المشاكل الأخرى، وحتى مع استثناء الضرر الذي نتج من إزالة أحجاره في الستينيات والسبعينيات، فالأمور ليست مبشرة حقاً نتيجة التغير المناخي والأمطار الحمضية التي تؤدي لتآكله من جهة، والزلازل والهزات الأرضية التي تتزايد نتيجة البحيرات الصناعية العملاقة خلق السدود والتي تؤدي لعدم استقرار القشرة الأرضية في المنطقة.