الخميس, نوفمبر 28, 2024
Homeاراءكوجو ارض الرحيل (1_4) : صلاح حسن رفو

كوجو ارض الرحيل (1_4) : صلاح حسن رفو

هذه البقعة لا تتغير كثيراً،الأهالي يسرحون بأغنامهم كالمعتاد في السهول ،والهضاب ،والوديان المحاذية للجبل، لا خيارات جديدة تُطرح وتظهر، فكل “فرمانٍ” يحدثُ هنا يتركُ أثره لعقودٍ في الاجيال القادمة.
التوجس ،والترقب من خوف كل جديدٍ وخطرٍ قادم يجعلهم قريبين من الجبل، ومخابئه، وكهوفه المتعددة، كل شيء محدود ، ابتداءً من أنواع الأكل القليلة إلى الخضروات والفواكهة الموسمية انتهاءً بقواعد اللغة ،و الكلام والغزل والأسماء، والنكات، ليس غريباً أن تجدَ في بيوتٍ الجيران المتلاصقة أسماءً متشابهة مثل “رفو ،و رشو ،وحمو للرجال، أو جروس وخوناف وميان للنساء”.
على ذكر” ميان”، في منزلنا الكبير توجد أمراتان باسم ميان، الأولى والمتواجدة على الدوام في المنزل لكونها زوجة ابن عمي الأكبر، والثانية هي ابنة عمي التي تزوجت منذ أمد بعيد، وتأتي كضيفة بين الحين والآخر، ولتمييز إحداهما عن الأخرى عند الحديث، تطلق على الأخيرة ” ميانا كوچو” دلالة على سكنها في قرية كوچو، وميان اسم مُستَمَدٌ كأخواته من الأسماء من طبيعة حياة الناس وبيئتهم الريفية و الجبلية ومدى رؤياهم وطرق تفكيرهم لمحيطهم القريب، فاسم “جروس” يعني الهالة أو الضياء ،و”خناف” معناه الندى، و”ميان” الاسم الذي سنتحدث عنه يأتي بـعدة معانٍ، منها الخميرة ،أو تخثر الحليب، ويُقال هو نوع من أنواع العنب.
تبدأ قصة ميان التي تزوجت بعمرٍ صغير من قاسم الشاب الذي قضى عقداً من عمره في السجن في قضيةٍ اتضح فيما بعد أن لا شأن له بها، وهو القاصر عمراً وأهلية، فخرج منها ،وقد خسر العديد من سنين الصبا، و باع أهله حينذاك معظم أراضيهم الواسعة في ( كرانيه) المحاذية شمالاً لقرية (دري خاني)، والقريبة من جبل سنجار، وعلى رغم من مرارة السجن على يافعٍ كالفتى “قاسم” إلا أنه تعلم هناك القراءة ،والكتابة والحساب، وكان ذلك من النعم الكبيرة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، صاحبَ بعد خروجه من السجن الشيخ “جاسو” والشيخ ” برجس” أبرز وجهاء عشائر(المندكان) لأجل شراء خمسة آلاف دونم أرضٍ زراعيةٍ من بيت آل عجيل من شيوخ قبيلة شمر العربية المعروفة ليبنوا فيها قريتهم التي سُميت بــ( كوچو)
كانت تلك الأراضي الوفيرة بقنوات المياه تسمى ” گري حسين عفدي”، المُزارع الذي ينحدر من عشائر الجانقولية، وكان يزرع تلك الأراضي لصالح عائلة آل عجيل ، وبعض المالكين من أهالي مدينة الموصل، والذين كان يطلق عليهم حينذاك لقب ” البكوات_جمع كلمة بيك” .
حُسِم الأمر وحـُدِّدَ المبلغ “دينارٌ واحد” فقط للدونم ، وجُمِع المطلوب من عشائر (المندكان ) لاسيما من وفيري المال ،وعريضي الجاه، عدَّ الشيخ* قاسم الدنانير و أعاد الكرة أكثر من مرة، لكون أغلبية الفلاحين لا يميزون العملة ولا يعرفون طريقة الحساب. بعدها بفترة وجيزة عرض “ناظم العمري” وهو أحد البكوات الكبار في الموصل بعضاً من أراضيه المسمات ” الحاتمية وعين فتحي والباشوك” للبيع، فاشترى الشيخ برجس ” الحاتمية” لتكون توأماً ومرادفاً لكوجو القرية، فهي تجاورها وتشاركها الحدود والمياه، وبات لا يذكر اسم إحداهما دون الأخرى، و كـأن الناس أقرتْ بصورة تلقائية أن القريتينِ أختان وهما مرتبطتان لفظاً ومصيراً. تلك العوائل جعلت فيما بعد من أرض كوچو ،والحاتمية تنبض بالحياة والحركة، ونقطة انطلاقٍ للمواشي في الترحال صوب السهول الخضراء لبادية سنجار والجزيرة في موسم الربيع، والعودة عند نهاية الموسم، اكتسبوا طباعاً جعلهم أكثر لطفاً ،وحميمية مقارنة مع نظرائهم في المحيط القريب بانسيابية وبتدرجٍ زمني ومن خلال اختلاطهم المستمر مع الرحالة ورعاة المواشي، و أسلوب عيشهم، وترحالهم جعلهم أكثر تسامحاً وأقل حدة في التعامل لذا أقاموا في فترة قصيرة علاقة مودة وجيرة حسنة مع العشائر العربية والكوردية القريبة وأصبحوا جسراً لحلحلة النزاعات أو أي خلافٍ محتمل، قصدها الكثيرون واستقر فيها أغلبهم، من ضمنهم “الشيخ قاسم” الذي اقترن بابنة عمه ميان في هذه التربة الجديدة التي سميت (كوچو)، و أنجبَ ذرية وفيرة كـوفرة المحاصيل والخضار والمياه في هذه الأراضي المباركة “كوچو” و تعني “أرض الرحيل” كانت على عكس اسمها مكاناً لـلتلاقي، ونقطة تعايشٍ و جنة لـميان وأولادها بعدما أصبحوا جزءاً من نسيجها.

في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وبعدما أن قررت الدولة إخراج سكان القرى النائمة في حضن الجبل بحجة دعمهم للمتمردين على السلطة، قامت بتحويلهم الى المجمعات القسرية في سهل سنجار والتي تبعد نسبياً عن الجبل. اختار حينها الشيخ قاسم الانتقال الى منطقة ( گرزرك) التي سميت بمجمع العدنانية، وبنى بيته الطيني في أول مدخلٍ للمجمع بعد حصوله على وظيفة مشغل وفراش في مضخة الماء للمجمع. ميان ودعت بيتها الأول بالدموع ،وهي تغادر تلك الأرض، فارقت صديقاتها وجيرانها التي أمضت زمناً جميلاً معهن، إلا أنهن كنَ يبتسمنَ لها ولسان حالهن لحظة الوداع يردد: سترجعين يوماً ما أيتها العزيز من يشرب من ماء كوچو سيكون له عودة مهما طال الزمان.

 

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular