انتهاكات أمنية وفوضى قضائية تهدد استقرار نينوى
علاوة على الشكاوى الكيدية، تحصل اعتقالات بتهم مفبركة من بعض المتنفذين في الأجهزة الأمنية والحشد الشعبي لغرض الابتزاز وإجبار أصحابها على دفع مبالغ مالية أو مواجهة تهم تبقيهم بمراكز الاعتقال التي تشهد ظروفاً سيئة جداً في ظل الزحام والتعذيب النفسي وأحياناً الجسدي.
كل يوم مر من الأحد عشر شهراً التي أمضاها سمير الفتى الأسمر النحيل، في المعتقل إثر شكوى يصفها بالكيدية، كان يتساءل عن الجرم الذي ارتكبه، والمصير الذي ينتظره إن ثبتت التهمة الموجهة إليه “بسبب انتمائه الطائفي وفقر عائلته وضعف القضاء”.
كان الفتى الموصلي (17 سنة) ذو العينين الغائرتين، يحلم في كل حينٍ بأن يفتح باب المعتقل وينادي أحدهم على اسمه ليخرج ويسترد حريته. وفي ليالٍ كثيرة، كان كابوس لا يتغير يطارده في نومه “منصة يقاد نحوها بالقوة وهو يرتجف وحبل يشد على عنقه”.
سؤال واحد ظل يردده في مراكز الاحتجاز التي تنقّل بينها والتي اكتظت بالمعتقلين بتهم مختلفة بينها الإرهاب: أي جريمة ارتكبتها لأمضي سنواتي في الحبس وأنتظر كل أسبوع والدتي كي تأتي بقلب مكسور وعينين دامعتين لتنقل أخباراً كاذبة وتقول لي مطمئنة إن جميع أفراد العائلة الفقيرة التعيسة بألف خير؟
أوقِف سمير مطلع عام 2019، وفقاً لشكوى مفادها أنه بايع تنظيم “داعش” وانتمى إليه خلال فترة سيطرته على الموصل (2014-2017) وتدرب على يد عناصره وساهم معهم في عمليات قتالية.
الفتى ظل ينفي تلك التُهم ويُقسم على أنه فكر بالالتحاق بالتنظيم تحت ضغط الفقر والعوز، وأنه أمضى نهاراً واحداً مع عناصره، تلقى خلاله درساً تعبوياً فقط ثم عاد إلى بيته من دون رجعة بعدما رفضت عائلته انضمامه، حتى وإن ماتت من الجوع.
سمير واحدٌ من مئات المعتقلين، في مراكز الاحتجاز العراقية، من ضحايا الشكاوى الكيدية والوشايات والتقارير الأمنية غير الدقيقة، وحتى مع ثبوت براءة بعض أصحابها فإنهم لا يحصلون على حريتهم بسبب الإجراءات البيروقراطية وحلقات الفساد المتداخلة وتعطل تنفيذ قرارات الإفراج الصادرة من محاكم ابتدائية، إذ تبطلها قرارات محاكم التمييز، وفقاً لتصريحات أسر معتقلين ومحامين ونشطاء مدنيين.
اعتراف تحت التعذيب
يقول سمير الذي التقيناه في بيته جنوب الموصل مطلع آذار/ مارس 2020، بعد ثلاثة أشهر من الإفراج عنه: “طوال أشهر السجن الأولى كنت أجلس في الزاوية التي تقابل باب المعتقل منتظراً أن أسمع اسمي لإطلاق سراحي أو للقاء والدتي التي كانت تعدني بأخبار مفرحة بعد رشوة أحد الضباط، لكنني في الأشهر الأخيرة توقفت عن الأمل”.
ويصف أول أسبوع له في المعتقل بالقول “كان جحيماً”. يصمت لبرهة ويواصل بصوت مرتجف وكلمات متقطعة “كل يوم كان يتم تعذيبي… يتم تعليقي وجلدي بأنبوب بلاستيكي، حتى اعترفت بانتمائي للتنظيم، مع أنني لم أكن معهم أبداً… بشكوى كيدية بقيت نحو عام أواجه ذلك الظلم”.
يضيف وهو يتلفت حوله، كأنه يريد التحقق من عدم وجود أحد يترصده “الساعات مرت علي كسنوات، بخاصة حين كانت أمي تغيب عن موعد زيارتها المعتاد أو حين أسمع أن الضابط الذي دفعوا له المال لتسريع الإفراج عني أخلف بوعده”.
يواصل كلامه، وهو يفترش أرضية غرفته “في تموز/ يوليو 2019، حين كنت أنتظر بشرى منها بأن مشكلتي سويت عقب تأمين مبلغ الفي دولار للضابط، لكنها لم تأت، أحسست بأن نهاية العالم قد حلت… خطرت ببالي ملايين الأشياء السيئة”.
يومها كانت والدته خارج البوابة تخوض شجاراً حامياً وعقيماً مع الحارس، ثم توسلت إليه والعرق يتصبب على وجنتيها المحترقتين، لإضافة اسمها إلى سجل الزائرين. كانت تصارع لتقول لابنها إنها دفعت مبلغ الرشوة للضابط وسيتم إطلاق سراحه قريباً. لكن الحارس لم يسمح لها بذلك، سحبها بقوة من داخل الصف لتسقط على الأرض وهو يردد “أنتم الدواعش تثيرون الفوضى في كل مكان”.
تهم كيدية تبطلها رِشى
أكثر من عشرة معتقلين سابقين أو أفراد من أسر معتقلين، التقاهم فريق التحقيق، أكدوا أن الاعتقالات جاءت وفق اتهامات كيدية، بعضها نتيجة مشكلات اجتماعية أو منافسة في العمل.
تقول أم سمير إن ابنها اعتقل بشكوى من الجيران بعد شجار بين الأطفال تطور إلى خلاف. ومع صعوبة سحب أي شكوى لأنه سيعرض صاحبها للمساءلة ذهب سمير ضحية لذلك الشجار.
توقفت عن الحديث، إثر قرع قوي على الباب الخارجي للمنزل، خاف منه سمير، قبل أن تواصل حديثها حين علمت أن الطارق أحد الأقارب جاء مهنئاً بسلامة ابنها: “بعد أسابيع من الاعتقال ومع اعتراف سمير تحت التعذيب بانتمائه لداعش وأثر التواصل مع محامين عرفنا أن إنقاذه عبر الوسائل القانونية غير ممكن، وعقب نصائح من أشخاص عاشوا تجارب مماثلة جربنا التواصل مع وسطاء يستطيعون الإفراج عن المعتقلين مقابل المال”.
دفعت عائلة سمير لأحد الضباط ألف دولار، لكنه اختفى، وقيل إنه نُقل، وهو أمر تكرر مع معتقلين آخرين تعرضوا للنصب من عناصر في الأجهزة الأمنية ادعوا قدرتهم على الإفراج عن معتقلين.
بعد أشهر عادت العائلة لتدفع مبلغ ألفي دولار جمعتها من متبرعين لضابط آخر، وأُطلق بالفعل سراح سمير. لكن تطلب الأمر ثلاثة أشهر من الانتظار بسبب مشكلات بين الضابط وشخص آخر مسؤول.
يقول وهو يبتسم: “لم أصدق عندما حكم القاضي ببراءتي… ظننت أنها لعبة جديدة… كيف تغير كل شيء؟ حتى المحامي كان يتحدث عن حكم مخفف واستبعد التبرئة بحجة أنني اعترفت بانتمائي للتنظيم”.
ثلاث سنوات قيد التحقيق
سيف شاب ثلاثيني، يعمل في مجال تصليح السيارات، وهو شخص آخر من ضحايا الشكاوى الكيدية، كما يقول، أمضى بسببها ثلاث سنوات في الحجز، ذاق خلالها صنوفاً من التعذيب كسرت على أثرها احدى أضلعه وتعرضت ساقه لالتهابات حادة، على رغم عدم اعترافه بالانتماء للتنظيم وعدم وجود أدلة تدينه.
مال وجهه إلى الاصفرار وهو يستذكر سنوات الاعتقال: “تعرّضت للضرب مراراً، لكنني رفضت التهم… كنت أخشى أن تحل نهايتي إذا اعترفت بشيء لم أقم به، بخاصة أن عائلتي لا تملك مالاً لتدفعه لقاء براءتي… انتظرت كل تلك السنوات في ظل إجراءات بيروقراطية وتأجيلات ومحاولات تسويف وابتزاز ليتم في النهاية الإفراج عني”.
ذلك التأخير في حسم الدعاوى، الذي يواجهه مئات المعتقلين لأسباب أمنية، يرجعه نواب ومحامون ونشطاء مدنيون إلى كثرة أعداد المعتقلين، والى غياب أدلة تدين المتهمين في أحيان كثيرة، إضافة إلى عمليات الابتزاز والتسويف التي يمارسها بعض الضباط.
يقول عضو مجلس المفوضين بالمفوضية العليا لحقوق الانسان علي البياتي، إن مشكلة التأخير في حسم الدعاوى “من أبرز الانتهاكات الحاصلة في مراكز الاحتجاز (تسفيرات ومواقف) في المحافظة”.
وبحسب البياتي فإن بين ثلث المحتجزين ونصفهم مضت عليهم فترات تمتد من 6 أشهر إلى سنتين من دون حسم قضاياهم. وأن بعض الحالات تطلب حسمها ثلاث سنوات، والحجة هي كثرة أعداد المحتجزين.
والى جانب مشكلة الاكتظاظ الشديد، تسجّل مفوضية حقوق الإنسان انتهاكات أخرى تحصل في مراكز الاحتجاز بينها منع لقاء المتهمين بالمحاميين لإعداد الدفوع أمام المحكمة بخاصة في قضايا الإرهاب، وانقطاع الزيارات العائلية حتى في الظروف الطبيعية.
وتقدر المفوضية أعداد الموقوفين والنزلاء في تسفيرات ومواقف نينوى حالياً وفي مختلف القضايا بنحو 5500 شخص (اعتقلوا بعد تحرير نينوى نهاية 2017)، بينهم حوالى 3500 موقوف و2000 محكوم، ويصل عدد الأحداث (دون 18 سنة) المحتجزين بقضايا إرهاب إلى حوالى ألف.
ويؤكد البياتي أن الاكتظاظ في مراكز الاحتجاز يتراوح بين 150 إلى 200 في المئة من طاقتها الاستيعابية وبخاصة في مواقف تسفيرات الفيصلية في الجانب الأيسر للموصل، وقضاء تلكيف وموقف قسم التحقيقات.
وينبه إلى أن المراكز شهدت تسجيل معدلات وفيات مرتفعة، بينها 180 حالة وفاة عام 2018، و40 حالة في 2019، و22 حالة حتى حزيران/ يونيو 2020، عزتها الجهات المعنية لأسباب مرضية متعددة بين فشل كلوي نوبة قلبية واحتشاء عضلة القلب أو سكتة دماغية، على الرغم من أن “40 في المئة من المتوفين هم من الشباب ومن مواليد تتراوح بين 1985 و1995”.
وكان تقرير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش”، صدر في تموز/ يوليو 2019 قد كشف عن اكتظاظ كبير بأماكن الاحتجاز الثلاثة في نينوى. وذكر أن الطاقة الاستيعابية القصوى لمراكز الحبس الاحتياطي (تلكيف، الفيصيلة والتسفيرات) تبلغ 2500 محتجز، ومع ذلك فيها ما لا يقل عن 4500 محتجز يعيشون ظروفاً سيئة ومهينة”.
أرقام صادمة
بحسب داوود شيخ جندي عضو مجلس محافظة نينوى السابق، هناك 12000 مذكرة اعتقال صادرة من السلطات في نينوى عقب تحرير المحافظة، بحق مطلوبين متهمين بانتمائهم إلى “داعش”.
ويعتقد جندي بأن عدداً كبيراً منها مذكرات جاءت وفق شكاوى كيدية، بخاصة أن غالبية عناصر التنظيم المتورطين في جرائم قتلوا أو هربوا بعد إعادة السيطرة على المناطق التي كانت تحت نفوذهم.
ويقول النائب عن محافظة نينوى في البرلمان العراقي شيروان دوبرداني، إن هناك “آلاف المعتقلين من أهالي نينوى بسبب شكاوى كيدية، وهناك ألف شخص حكموا بالإعدام، وأكثر من ألف آخرين قيد التحقيق، وهناك مئاتٌ من النساء والأحداث متهمون بالإرهاب”.
ويؤكد دوبرداني أن معظم الاعتقالات عقب تحرير المدينة حصلت “بشكوى من مخبر سري من دون تقديم أدلة مادية”، وأن آخرين اعتقلوا إثر شكاوى عادية في قضايا مدنية أو جنائية “وبعد خضوعهم للتدقيق الأمني تم احتجازهم لفترات امتدت لأشهر” لأن أسماءهم مطلوبة أمنياً إما لأنها تتطابق مع أسماء عناصر في داعش ما يفرض التحقيق معهم أو لأنهم مطلوبون بقضايا أخرى، مبينا أن بينهم من اعترف تحت التعذيب بانتمائه لـ”داعش”.
ونبه إلى إن “التصاريح الأمنية التي تثبت كون الشخص غير مطلوب أمنياً، أصبحت تقدم بمقابل مالي، وتحولت إلى تجارة لدى بعض العناصر الفاسدة في الأجهزة الأمنية… لذلك نرى الكثير من الإرهابيين طلقاء، فيما يُعتقل آخرون أثناء مراجعتهم التدقيق الأمني وتطول التحقيقات معهم أحياناً بقصد الابتزاز”.
والتصاريح الأمنية منذ 2017 أساسية للحصول على بطاقات الهوية الشخصية والوثائق المدنية ودونها تصبح حرية التنقل مقيدة، ويفقد الشخص حقه في التعليم والعمل وتقديمات الرعاية، وشهادات الميلاد والوفاة اللازمة للحصول على الإرث أو الزواج مرة أخرى.
ولا يستطيع أي مواطن مراجعة أي دائرة حكومية لإنجاز معاملة أو إصدار أي وثيقة رسمية، إذا لم يقدم تصريحاً أمنياً يؤكد سلامة موقفه.
الابتزاز المسبق وثمن البراءة
علاوة على الشكاوى الكيدية، تحصل اعتقالات بتهم مفبركة من بعض المتنفذين في الأجهزة الأمنية والحشد الشعبي لغرض الابتزاز وإجبار أصحابها على دفع مبالغ مالية أو مواجهة تهم تبقيهم بمراكز الاعتقال التي تشهد ظروفاً سيئة جداً في ظل الزحام والتعذيب النفسي وأحياناً الجسدي.
وهذا تحديداً ما يقوله س. م. الذي يملك أحد المعامل الخاصة بالصناعات الغذائية في نينوى. يلفت إلى أنه اضطر ولمرتين متتاليتين إلى دفع مبالغ مالية، لكي يبعد من نفسه اتهامات كيدية تكفي لسجنه لسنوات طويلة أو ربما حتى إعدامه “في المرة الأولى دفعت مبلغا صغيرا لكن في الثانية طلبوا مني 20 ألف دولار مقابل ضمان الحماية لي ومنع أي طرف من عرقلة عملي، وحين رفضت، تم اعتقالي لأكثر من أسبوع واضطررت في النهاية إلى دفع ضعف المبلغ للإفراج عني”.
“ثامر”، الذي يعمل في معارض بيع وشراء السيارات، أضطر إلى دفع مبلغ (2500) دولاراً للإسراع في عملية الإفراج عنه رغم تبرئته من تهمة الاستيلاء على سيارة كان قد اشتراها إبان سيطرة داعش على نينوى. وقتها ومع عدم وجود دوائر حكومية وأوراق رسمية لتسجيل السيارة باسمه تم الاكتفاء بتحرير ورقة دونت فيها تفاصيل عملية الشراء.
لكن بعد استعادة المدينة وارتفاع أسعار السيارات إلى خمسة أضعاف، رفض صاحب السيارة السابق تحويل السيارة وتسجيلها باسم “ثامر” رسمياً في دائرة المرور واتهمه بأخذ سيارته عنوة بمساعدة عناصر من داعش.
يقول:”اثبُت بشهادة الشهود إنني اشتريت السيارة ودفعت ثمنها في حينه وتمت تبرئتي ورغم ذلك بقيت رهن الاعتقال بحجة التدقيق الأمني الذي استمر نحو شهرين، ما اضطرني وبعد مساومات إلى دفع 2500 دولار إلى أحد الضابط الذي وعد بتسريع عملية المسح الميداني والإفراج عني”.
يرى ناشط مدني معروف في نينوى رفض ذكر اسمه خوفاً من الملاحقة، أن عملية إطلاق سراح المعتقلين برِشى، تحدث في مراحل الاعتقال كافة، بخاصة في التحقيق الأولي وقبل صدور الأحكام، إذ يمكنهم وبسهولة التلاعب بالأوراق التحقيقية في ظل عدم وجود أدلة مادية واعتماد المحققين والقضاة عادة على ما ورد في الشكوى وشهادات الشهود”.
وحذر من أن ذلك، سيسمح للكثيرين من أفراد التنظيم بالحصول على البراءة “وقد حدث ذلك”. ثم تابع: “أعرف أكثر من شخص كان له دور أو علاقة مباشرة مع التنظيم… تم اعتقالهم في البداية لكنهم خرجوا لاحقاً مقابل مبالغ وصلت إلى عشرة الآف دولار.. بعضهم رحل إلى خارج البلاد أو أماكن أخرى داخلها وآخرون ما زالوا في الموصل ولا أحد يتعرض لهم، على رغم أن حقيقتهم معروفة”.
دولتكم فاشلة ونظامكم فاسد!
فريق التحقيق، تواصل عبر موقع “فايسبوك”، مع أ.ب. الذي كان أميراَ في تنظيم “داعش”، واعتقل لفترة وجيزة في الموصل بعد استعادتها، ويقيم في تركيا حالياً. قال رداً على كيفية خروجه من السجن: “دولتكم فاشلة، ونظامها فاسد، أنا اشتريت براءتي مقابل 15000 دولار، أما في الدولة الإسلامية فمن تتم إدانته لا تمكن تبرئته حتى لو دفع أموال الكون كلها فهي دولة الحق والعدل”.
كما تمكن فرق التحقيق من الاطلاع على قائمة متداولة من قبل أحد الأجهزة الأمنية تضم أسماء 150 شخصاً منتمين للتنظيم تم إطلاق سراحهم بمقابل مالي من جهات مختلفة. القائمة تظهر أسماء الأشخاص والجهات التي توسطت لإطلاق سراحهم.
ويقول ضابط عسكري، رفض ذكر اسمه، أن “منتسبين فاسدين يتصلون ببعض من وردت أسماؤهم في القائمة ويبتزونهم مقابل عدم تحريك ملفاتهم أو إخفائها”.
إحدى عمليات الابتزاز تمت من قبل أحد منتسبي الأجهزة الأمنية، واستهدفت صاحب صيدلية في مدينة الموصل، وانتهت باعتقال المنتسب بالجرم المشهود، بعد استنجاد الضحية بمعارف له في الأجهزة الأمنية لإنقاذه.
يقول: “اتصل بي شخص هاتفياً وذكر أن أسم صيدليتي ورد في ملف أمني خطير حول الاتجار بالمخدرات والتعاون مع داعش، وأعلن إمكان تسوية الأمر لأنه غير مقتنع بالتهمة، لكن توجب عليّ أن أدفع له لكي يغلق القضية”.
وأضاف: “وافقت بعد جدل طويل على دفع ألفي دولار مقابل إغلاق الملف، وتم تحديد مكان تسليم المبلغ وزمانه، في شارع عام وسط الموصل، واعتقلته القوات الأمنية التي استعنت بها من طريق قريب لي”.
النائب عن محافظة نينوى شيروان دوبرداني، يؤكد المعلومات المتعلقة بالإفراج عن عناصر من “داعش”: “نعم الكثير منهم باتوا طلقاء يتحركون بحرية في الموصل عقب حصولهم على التبرئة مقابل مبالغ مالية أو نتيجة تدخلات… البعض اكتفى بتغيير مكان سكنه”.
ويشير الدوبرداني، إلى انتشار حالات الابتزاز من بعض الضباط “ذلك يحصل في مرحلة التحقيق مع الموقوفين، وفي بعض الأحيان عند طلب التصاريح الأمنية”.
ويقول إنه في مرحلة سابقة كانت قوائم المطلوبين بشبهة الإرهاب تضم 70 ألف شخص، “لم تُتخد إجراءات ضد غالبيتهم لعدم وجود سجون لاحتجاز هذا الرقم الكبير، كما أن كثيرين منهم أبرياء وردت أسماؤهم وفق تهم كيدية أو بالخطأ أو نتيجة تشابه أسماء مع عناصر في التنظيم”.
ويُنبه تقرير للجنة تقصي الحقائق البرلمانية التي شكلت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 لمتابعة واقع الموصل، إلى “سهولة ابتزاز ميسوري الحال بقضايا وهمية وزجهم بالتوقيف بإحضار اثنين من شهود الزور وبعد الحصول على المال يتم إطلاق سراحهم”.
ويشير التقرير، الذي ضمت اللجنة التي أعدته 43 نائباً، إلى “تأخر عرض الموقوفين إلى القاضي لمدة تتجاوز العامين أحياناً، ما يزيد من مأساة المعتقلين وعائلاتهم ويخلق بيئة معادية للدولة”، داعياً إلى “حسم قضايا الموقوفين وفق سقف زمني محدد”.
محامون متخصصون
وسط تزايد أعداد المعتقلين لأسباب أمنية، تخصص عدد من المحامين بقضاياهم، وهؤلاء يتقاضون أجوراً عالية جداً، مبررين ذلك بأنهم يدفعون للمنتسبين الأمنيين للتمكن من الإفراج عن موكليهم.
لكن محامين منافسين لهم، يتحدثون عن اتفاقات مسبقة بين المنتسبين الأمنيين وأولئك المحامين في القضايا التي يتابعونها. يقول محامٍ، رفض الكشف عن هويته: “في قضايا الارهاب لا يمكن كل محامٍ الدفاع عن أي معتقل، هناك مجموعة محددة يسمح لها بذلك، وأحياناً يتم إخبار ذوي المعتقل باسم المحامي الذي يمكنهم اللجوء إليه”.
ويضيف:”عدد المحامين الذين يترافعون في قضايا المعتقلين ممن يبدون استعداداً لدفع المال مقابل الإفراج عنهم أو تخفيف الأحكام ضدهم، لا يتعدى أصابع اليدين.,. المحامون الآخرون لا يستطيعون التوكل في هذه القضايا بسبب الضغوط والملاحقات التي قد يتعرضون لها”.
النائب قصي عباس، من تحالف “الفتح”، ينفى وجود عمليات اعتقال عشوائية، ويؤكد أن عمليات الاعتقال لا تتم إلا بعد الحصول على مذكرات قضائية وأحياناً تنفّذ بمشاركة قوات من الحشد بحسب تقاطع المسؤولية مع العمليات المشتركة للجيش.
وبشأن استمرار الاعتقالات حتى بعد ثلاث سنوات من تحرير المدينة، يقول عباس الذي يعرف بدعمه لوجود “الحشد الشعبي” في سهل نينوى، إن “معلومات الجهات الأمنية تظهر أن آلافاً من مذكرات القبض بنينوى لم تنفذ عقب التحرير لأسباب عديدة من بينها عدم وجود أماكن احتجاز تستوعب هذه الأعداد الكبيرة”.
لكن النائب لا ينفي الاعتماد على المخبرين السريين وشهادات مواطنين عبر إفادات قد تكون في بعض الأحيان “مجرد وشايات بحق أناس أبرياء وهي ما يمكن أن تثبته التحقيقات والمحاكم”.
ويرد عباس على اتهامات نشطاء مدنيين بأن قادة الحشد يتحكمون بالملف الأمني ولهم نفوذ كبير يصل إلى حد إمكان إطلاق سراح أي معتقل حتى لو كان مجرماً، قائلاً: “لا أستبعد وجود حالات إطلاق سراح استناداً إلى علاقات شخصية أو محسوبية وربما حتى الإفراج مقابل مبالغ مالية لكن على نطاق ضيق”.
تحسن نسبي
النائب عن محافظة نينوى في البرلمان العراقي عبد الرحيم الشمري، الذي يتابع ملف الانتهاكات في سجون نينوى منذ سنوات، يؤكد استمرارها على رغم تراجع نسبتها في العام الجاري.
يقول إن “عدد المعتقلين في نينوى عقب التحرير مباشرة كان يصل إلى 6 آلاف معتقل لدى استخبارات الشرطة (وزارة الداخلية) وأن نسبة كبيرة منهم اعتقلوا بسبب تشابه الأسماء وفي ظل وجود ضباط سيئين يعملون اعتماداً على آلية الشكاوى والمخبر السري والابتزاز”.
ويستدرك الشمري “عام 2019 حصل تطور إيجابي بعد نجاحنا في تغيير هؤلاء الضباط والإتيان بآخرين فانخفض الرقم من 6 آلاف محتجز إلى نحو 400 فقط، ونحن نتابع ملفاتهم بنحو مستمر لتسيير قضاياهم إلى القضاة المختصين للبت فيها، وهذا الملف يسير اليوم بالاتجاه الصحيح ولم يعد ملفاً يزعجنا كثيراً كما كان في السابق”.
وعن الإفراج عن معتقلين مقابل مبالغ مالية، يرد الشمري “نعم هذا يحصل والمبالغ تتراوح بين 2000 إلى 50 ألف دولار، فعصابات السمسرة والابتزاز مازال لها وجود، وهنالك ضباط سيئون، لكن عموماً الوضع أحسن بكثير اليوم مقارنة بما كان عليه قبل سنتين، إذ لم يكن يعتقل أي شخص من دون أن يتعرّض لابتزاز مالي أو يتعرض للتعذيب… الآن تغير الوضع بعد نقل ضباط ومعاقبة آخرين وسجنهم، وعمليات الاعتقال قلت بصورة كبيرة كما عمليات الابتزاز، لكنها لم تتوقف”.
ويعزو النائب تمكن قياديين في “داعش” من الإفلات من العقاب، إلى إلزام القانون وجود مشتكٍ وشاهدين يؤكدان أن الشخص منتمٍ لداعش وارتكب جرائم، لكن “المشتكين لا يستطيعون الإتيان بالشهود، الذين يرفضون التعاون ربما خوفاً، لذا لا تتوفر أدلة كافية لإدانتهم وبالتالي الكثير منهم نجح في النهاية بالخروج”.
ويذكر تقرير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش”، صدر في العام الجاري، أن القوات الأمنية “اعتقلت تعسفاً أشخاصاً مشتبه بانتمائهم إلى داعش، واحتجزت كثراً منهم لأشهر”، وينقل عن شهود وأقارب محتجزين قولهم إن قوات الأمن “احتجزت بانتظام المشتبه بهم من دون أي أمر من المحكمة أو مذكرة توقيف، وفي الغالب لم تقدم سبباً للاعتقال”.
وينص الدستور العراقي على عدم توقيف أي متهم إلا بقرار من القضاء، وعلى قاضي التحقيق أن يستجوب المتهم خلال 24 ساعة من حضوره بعد التثبت من شخصيته وإحاطته علماً بالجريمة المنسوبة إليه. وهذا ما لا يحدث في حالات كثيرة.
المحامي أحمد فتح الله مراد، ذكر أن المادة (109) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي تلزم قاضي التحقيق بتوقيف المتهم لمدة خمسة عشر يوماً في كل مرة يتم توقيفه فيها. وتلزم المادة ألا تزيد مدد التوقيف بحد أقصى عن 6 أشهر. ولا يسمح قانون رعاية الأحداث بتوقيف الحدث إلا إذا كانت الجريمة التي ارتكبها عقوبتها الإعدام وكان عمره قد تجاوز الرابعة عشرة.
“ما زلتُ في المعتقل”
وفقاً لرصد قام به فريق التحقيق للموقع الرسمي لعمليات نينوى فقد تم اعتقال ما مجموعه 393 شخصاً، بينهم 193، بتهمة الإرهاب في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019. وهذا يؤشر إلى حجم الاعتقالات المستمرة حتى بعد عامين من تحرير نينوى.
طوال أسبوعين حاول فريق التحقيق التواصل مع قيادة عمليات نينوى تلفونيا وعبر الإنترنت، للتعليق على الشهادات والتصريحات التي حصل عليها معدو التحقيق بشأن الانتهاكات، باعتبارها الجهة التي تدير الملف الامني، لكن قائد العمليات رفض الرد إلا من خلال لقاء مباشر، وهذا كان متعذراً بسبب حظر التجوال.
هذه الفوضى الأمنية والخروق في الجهاز القضائي، التي فتحت الباب أمام الاعتقالات العشوائية والشكاوى الكيدية عقب تحرير نينوى، كما يقول الناشط في مجال حقوق الإنسان محمد فوزي “هي التي تهدد اليوم استقرار أكبر محافظات المكون السني، وهي التي قد تعيدها إلى زمن ما قبل سقوطها المدوي بيد داعش والذي حصل خلال أيام نتيجة الفساد الأمني والفوضى الإدارية وإبقاء المظالم”.
الشاب سمير وبعد نحو 6 أشهر من إطلاق سراحه، لم يستعد حياته الطبيعية، ولا يعرف إن كان بإمكانه العودة للدراسة التي فُصل منها. هو ما زال يتناول مهدئات وصفها له الطبيب بسبب اضطرابات نفسية وكوابيس متكررة تراوده، يقول: “كل يوم تمر علي لحظات أعتقد فيها بأنني ما زلت في المعتقل… حين يُطرق الباب بقوة أشعر بأنهم قادمون لأخذي مجدداً… لقد أطلقوا سراحي لكنني ما زلت في المعتقل”.
*أُنجز التحقيق بدعم وتحت إشراف محرري شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية ونشر على موقع درج.
فريق استقصاء نينوى