بات المشهد العراقي اليومي أكثر دموية حيث ضحايا الأحتجاجات التي بدأت في الاول من اكتوبر من العام الماضي بتزايد مستمر وبأنتقائية اجرامية للضحايا, حيث الضحايا من النخب الميدانية والقيادية لأحتجاجات اكتوبر وايضا من الكوادر الطبية والهندسية والتدريسية والاعلامية التي انخرطت في الحراك الاجتماعي دفاعا عن المطالب المشروعة للشعب في الحياة الحرة الكريمة, من خدمات اساسية: صحة وكهرباء وتعليم وفرص عمل, الى جوانب الدعاوى الشرعية في اعادة بناء خريطة النظام السياسي المحصصاتي والطموح المشروع للأنتقال به الى نظام المواطنة الصالحة بعيدا عن الانتماءات الفرعية المذهبية والدينية والمناطقية والعنصرية والشوفينية التي ارهقت العراق وأفلسته خلال 17 عاما وأركنته مع مصافي الدول المعوقة والفاشلة وجعلت شعبه يعاني الأمريين, من بؤس وفقر وجوع وفساد أضاع ثروات العراق ومستقبله وكرست ملامح حاضر تعيس ورسمت ملامح مستقبل غامض عديم الأفق والاستقرار الانساني.
قبل وبعد زيارة رئيس الوزراء العراقي الى الولايات المتحدة الامريكية ازدادت موجات العنف ضد المتظاهرين السلميين, وازدادات معها موجات صواريخ الكاتيوشا الموجهة الى المنظقة الخضراء والى معسكرات الجيش العراقي المختلفة والتي يتواجد في بعض منها أمريكان, وهي كما معروف وسائل ضغظ ليست دبلوماسية بل عسكرية وهدفها واضح للضغط على رئيس الحكومة العراقية للتحاور مع الامريكان كي تنسحب من العراق وتهديد ضمني للكاظمي أنه في حالة عودتك الى العراق ولم تنسحب القوات الامريكية ستكون الارض تحت اقدامك جحيم” من مزيدا من الصواريخ الكاتيوشوية الى مزيدا من قتل المتظاهرين السلميين وتحميلك مسؤولية دمهم المراق“ وبما أنك مسؤول مخابرات سابق فأنك تتحمل مسؤولية قتلهم لأنك تعرف بكل شاردة وواردة, وبالتالي خلط الأوراق على الكاظمي ووضعه في موقع المجرم القاتل والمبارك لبقاء القوات الأمريكية. تلك هي لعبة سوداء يجيدها من يسعى الى اللااستقرار في العراق, بل ويجيدها من أتى ودعم مجيئ الكاظمي للخلاص من الضغظ الجماهيري للأفلات من العدالة, ثم التنصل عنه ووضعه في موضع الضعيف وغير القادر على الخروج من مأزق البلاد وتحميله كل اخفاقات الحكومات السابقة.
أن كل هذه التكتيكات من ضرب القوات الأمريكية، واستخدام البرلمان والحلفاء السياسيين لإصدار قرارات، واستهداف المتظاهرين والاختطاف والجريمة المنظمة، وإيجاد جيوش إلكترونية تثير الهلع والرعب وتبث أخبارا كاذبة، كلها الغرض منها خلق حالة من الاضطراب؛ للضغط على صانع القرار السياسي بالعراق والحكومة العراقية بشكل خاص وحرف مسارات حوار بناء يستجيب للمصلحة العراقية في ظروف صعبة وتهديدات خارجية وداخلية ماثلة امام العراق, ولكن هذه المجاميع تستجيب لأمزجة ومصالح آنانية ضيقة وتستجيب لضغوط اقليمية خارج اطار المصلحة الوطنية العراقية. أن الجماعات المسلحة التي تستهدف الأمريكيين تدرك أن الوجود الأمريكي أكبر بكثير من أن تجعل الولايات المتحدة تغير من منظومة تحالفاتها بضربات متفرقة من صواريخ كاتيوشا، لذلك هم يريدون الضغط على الحكومة العراقية الضعيفة أصلا بطبيعة نشأتها وعدم وجود كتلة برلمانية واضحة تدعمها وعلى طريق اسقاطها.
في هذه الملابسات المعقدة وفي هذا التوقيت الصعب يجري خلط الاوراق وزج المحتجين السلميين في آتون الصراع بين الحكومة والميليشيات المسلحة, واستخدام الأخيرة وعلى نطاق واسع تهم التخوين والعمالة للمحتجين وفبركة مختلف الحجج والروايات للتغطية على الاعمال الاجرامية والقتل التي تستهدف ناشطي الاحتجاجات ورموزهم القيادية, وهي لعبة مزدوجة, تستهدف التخلص من القيادات الميدانية للأحتجاجات الى جانب احراج الكاظمي واضعاف قدرته في اتخاذ خطوات جريئة وملموسة لفضح ما يدور حوله من تحالفات سياسية برلمانية غير نزيهة وشل قدرته على اتخاذ اي قرارات تفضح دور الدولة العميقة ودورها التخريبي في استقرار العراق.
أن تهم العمالة للسفارات الاجنبية وخاصة الامريكية منها هي من اسهل التهم لشرعنة قتل المحتجين بشكل يومي واستباحة دمائهم وتيتيم اطفالهم وترمل زوجاتهم والعبث بمستقبل الأسرة العراقية. وتجربة ما بعد 2003 تؤكد لنا من هو العميل, الذي بارك المحتل وصفق له وفرح لقدومه للخلاص من الدكتاتور دون حسبان لعواقب الاحتلال, وكان جزء من التحركات المكوكية للمحتل في صياغة النظام الطائفي والاثني البغيض والذي فرح لقوات الاحتلال الامريكي بما تفعله في العراق من تحطيم لمؤسسات الدولة والمجتمع بواجهة الخلاص من الدكتاتورية, أم أن العميل هو المحتج السلمي والراغب في اصلاح النظام السياسي وانتشاله من مستنقع الطائفية والاثنية المحصصاتية والفساد الاداري والمالي والداعي الى خروج القوات الاجنبية من العراق في أطر مقننة تضمن سلامته.
منذ اسبوع والمليشيات السائبة وحملة السلاح المنفلت يسرحون ويمرحون في البصرة وبغداد والناصرية وغيرها من المدن المحتجة ويستبيحون الدم العراقي في وضح النهار وبكل صلافة وسقوط اخلاقي, انه استمرار لمسلسل القتل والأغتيالات الذي اشتد منذ الأول اكتوبر من العام المنصرم, وقد عجزت الحكومات عن تحديد هوية القاتل وسوقه للعدالة او تغافلت عن تحديد هوية القاتل لأسباب متعددة ومتشعبة ولكنها غير مبررة بكل الأحوال, وأمام هذا العجز الحكومي قد يضع المحتجين امام خيار حمل السلاح للدفاع عن النفس والرد على اطلاق النار بأطلاق نار مقابل ومشروع في اطار الحق العام للدفاع عن النفس بما يكفله الدستور والقانون, وقد بدأت بوادر ذلك لدى احدى الناشطات في البصره في الدفاع عن نفسها ضد محاولة اغتيالها. تلك ليست دعوى لحمل السلاح من قبل المحتجين ولكن سياق الأحداث قد يفرض مختلف الخيارات للدفاع عن النفس في ظل العجز والشلل التام للحكومات المتعاقبة في وضع حد لقتل الأبرياء وبالتالي فلكل فعل تراكمي ردة فعل مساوية له.
أشكالية السياده العراقية تتحملها جميع الأطراف الدولية والأقليمية والداخلية السياسية والطائفية وان انتهاك الدولة وسيادتها يجري يوميا, وبكل الأحوال لا يجوز تبرير قتل العزل وممارسة الأغتيالات ويفترض بدولة مستقرة وقضاء مستقل قوي يبت في كل الأشكاليات بعيدا عن التصفيات الجسدية. وليست من الأنصاف والعدل والاخلاق ان نضع المسؤولية برقبة المواطن كي يدفع حياته ثمنا لمطالبته بحقوقه اما الخوض في التفاصيل وفرز الطالح من الصالح فلا تحله لغة السلاح.
ان الحاجة لتجنب الألم و الخطر حاجة فطرية بيولوجية يشترك بها الإنسان مع بقية الكائنات الحية في سلم التطور البيولوجي ، أذ يخلق الإنسان و هو مزود ببعض الأساليب التي تمكنه من الابتعاد عن ما يؤذيه و يسبب له الضيق ، و قد نشاهد بداية هذا السلوك لدى الإنسان في مرحلة الرضاعة ، و يظهر في صراخ الوليد و بكائه والتي تشكل احتجاجاته البدائية الأولى ، أو عندما نكبل الطفل بوسادة أو يدنا على وجهه فسرعان ما يدفعها بيديه او حركة رأسه لتجنبها أو دفعها بعيداً عنه . و هكذا مع نمو الإنسان و احتكاكه مع الآخرين من أفراد الأسرة و الأصدقاء و المجتمع واندماجه لاحقا بالنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، يطور الإنسان هذه الحاجة بتعلم الكثير من السلوك الذي يساعده في الدفاع عن نفسه ضد ما يعترضه من مثيرات خطرة و مؤلمة, سواء في بيئته الأصغر أم الأكبر ، و يظهر ذلك في اهتمامه بتحسين ظروف وجوده من خدمات انسانية تليق بأنسانيته.
الأحباط في اشباع الحاجات الاساسية يدفع الفرد الى المزيد من الخيارات جراء الكبت المتواصل وفي ظل غياب سلطة القانون او ضعفها وتدهورها وعدم مقدرتها الاستجابة للمطالبه المشروعه في البقاء الطبيعي, بل وتهديد وجوده بالقتل والتصفيات الجسدية, فمن حق الانسان للدفاع عن نفسه في درء الاخطار التي تهدد وجوده كعضوية بيولوجيةـااجتماعية, وقد كفلت الشرائع السماوية والوضعية حق الدفاع عن النفس ضد المخاطر المجهولة التي تهدد حياته. وقد جاءت المادة (42) من قانون العقوبات العراقي متضمنة الشروط الواجب توافرها لقيام حالة الدفاع الشرعي كسبب من أسباب الإباحة قائلة : (لا جريمة ان وقع الفعل استعمالا لحق الدفاع الشرعي) ويوجد هذا الحق اذا توافرت الشروط الأتية :
1ـ اذا واجه المدافع خطر حال من جريمة على النفس او على المال او اعتقد قيام هذا الخطر وكان اعتقاده مبنيا على أسباب معقولة.
2ـ ان يتعذر عليه الالتجاء الى السلطات العامة لاتقاء هذا الخطر في الوقت المناسب.
3ـ ان لا يكون أمامه وسيلة أخرى لدفع هذا الخطر. ويستوي في قيام هذا الحق ان يكون التهديد في الخطر موجها الى نفس المدافع او ماله او موجها الى نفس الغير او ماله. يتبين من دراسة هذا النص انه يتضمن نوعين من الشروط الأول منهما يتعلق بالخطر المراد رده والدفاع عنه والثاني يتعلق بفعل الدفاع.
أباحة الدم العراقي والذي يهدر أمام قضاء غير مستقل واجهزة امنية غير مهنية نسبيا وعليها ملاحظات كثيرة بفعل تركيبتها التي تعكس طبيعة النظام المحصصاتي الفاسد والتي لا تستطيع حماية المواطن وعدم المقدرة عن الكشف عن الجرائم المرتكبة بحقه, فأنها تضع شعبنا وطلائعه المحتجة امام مسؤولية كبيرة في الدفاع عن النفس ومقارعة المليشيات والعصابات المستهترة بكل الوسائل الممكنة في اطار مشروعية الدفاع عن النفس بما يكفله القانون الدولي والوطني.
لقد اثبتت تجربة اكثر من 17 عاما من الحكم بعد 2003 أن القوى المليشياوية وذات العقائد المتحجرة لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة, بل انها تستخدم الديمقراطية وفسحة الحرية المتاحة للأيغال في القتل والقمع والاختطاف لشعب اعزل, وبالتالي فأن مشروعية الدفاع عن النفس تكتسب شرعية قانونية وانسانية واخلاقية لردع تلك العصابات المتمردة على الدولة وعلى السلم المجتمعي, وبالتالي يصبح أمر ازاحتها من المشهد السياسي واجب وطني واخلاقي. ولعل في المهمات القادمة لحكومة الكاظمي ما يحمل في طياتها من انتخابات مبكرة, وسن قانون انتخابات عادل, وتشكيل مفوضية انتخابات نزيهة عادلة وسن قانون المحكمة الاتحادية واستكمال نصابها, الى جانب ضرورة التنظيم الذاتي للمحتجين والارتقاء بمستوى أدائهم, والمشاركة الفعالة في الانتخابات القادمة المبكرة الى جانب الدعم المعنوي لمصطفى الكاظمي لتشجيعه في تشكيل جرأة استثنائية لخوض المعركة القادمة ضد الفساد والمفسدين ولعل القادم افضل.