مساندة السلطتين؛ الدينية الإسلامية والدنيوية العربية، بعد الخلافة الراشدية، وبسند من أحاديث الرسول الكريم، مهدت للشعر والشعراء العرب أفاق جديدة، فمثلما ساهمت تلك السلطات في تطويرها على حساب الأقسام الأخرى من الأدب حتى منتصف العصر العباسي، سارعت في طمس اللغة الفهلوية الساسانية، وإزالة كل الآثار الأدبية والفكرية ومن ثم الروحية، وبالتالي على الحركة الثقافية لتلك الحضارة، والتي كانت ركيزة اللغة والأدب الكوردي الحالي، وهو ما أدى إلى تيه الأدباء الكورد بين لغة الدين الجديد ولغتهم التي حصرت عقد بعد أخر، في زوايا البيوت والمراكز الأدبية الضيقة، وعلى مدى قرون عديدة، لم يظهر للكورد أثر أدبي أو فكري باللغة الفهلوية الساسانية، أي الكوردية، إلى أن ظهرت فجأة وكصحوة من سبات طويل، شعراء وأدباء كفطور متناثرة وعلى مسافات زمنية ومكانية متباعدة، على جغرافية كوردستان.
وقد حدث مثلها في الفن بين العرب، وخاصة الطرب والموسيقى، مع غياب معظم الأجزاء الأخرى منه، وخلافها هنا عن الشعر أنها ظلت محصورة لفترة طويلة بين الطبقة السائدة، وتنامت متسارعة، رغم ظهورها المتأخر على الساحة، وذلك في المراحل الأخيرة من الخلافة الراشدية، في الوقت الذي كان الفن بكل أنواعه منتشرا بين الشعب، وأبعاد واسعة من التطور في الحضارة الساسانية، ومعظم المصادر في هذا المجال تؤكد على أن فن الغناء والآلات الموسيقية تمت على خلفية تأثر العرب بثقافة الحضارتين الساسانية والبيزنطية، والقبطية كنت جزء من الأخيرة، خاصة بعد احتلالهم لها. وهنا لا نتحدث عن الأنواع الأخرى من الفن، كالرسم والنحت والمسرح، وغيرها، الذي لم يكن له وجود في الجزيرة العربية؛ وبدايات ظهوره كان متأخرا جداً، والأصنام التي كانت في مكة، نحتها وبناءها له تاريخ من خارج الجزيرة العربية، وقصة هبل الصنم الأكبر الذي جلب من منطقة العمالقة، والتي كانت تحت سيطرة الحضارة البيزنطية، معروفة في التاريخ، والمحلية أو التي كانت تعبد من قبل القبائل لم تكن أصنام منحوتة.
مصادر، وكما ذكرنا سابقا، وما قيل ليست بناقصة، بل الناقصة تكمن في الاستئثار بها دون غيرها من ثقافات الشعوب التي أحتلت وفرضت عليها الإسلام، تذكر أن العرب تعلموا قرض الشعر من القبط والساسانيين قبل الوحي بقرابة قرن ونصف، ومارسوا بعض أنواع الفن، ومنها الغناء واستخدام الآلات الموسيقية، بعد مرحلة الوحي بعقود، وبما أنه لم يحكم على الطرب وأدواته بحديث مثلما حكم على الشعر، ظل الفن بكل أنواعه بين يدي الفقهاء والمتأولين للنص والأحاديث، وهو ما أدى إلى حدوث جدال فقهي بلا نهاية، حول مدى تحريم الطرب والآلات الموسيقية، ونوعية المكروه والمسموح. مع ذلك، ورغم العمر الزمني القصير، لهذين المجالين الثقافيين، إلا أنهما بلغا مراحل متقدمة من التطور بدءً من منتصف العصر العباسي، وللشعوب التي اعتنقت الإسلام دور كبير فيهما، إن لم يكن الدور الرئيس.
والقول في الشعر العربي متشعب الأبعاد، كتب فيه الكثير الكثير، لكننا في اختصاره نستند على بعض من الرأي في الشعر الجاهلي، كشكوك (طه حسين) فيه، تاريخا ونصاً، وهو القائل في كتابه (في الشعر الجاهلي) “ لقد أغلق أنصار القديم على أنفسهم في الأدب باب الاجتهاد، كما أغلقه الفقهاء في الفقه، والمتكلمون في الكلام. فما زال العرب ينقسمون إلى بائدة وباقية، وإلى عاربة ومستعربة. وما زال أولئك من جرهم، وهؤلاء من ولد إسماعيل. وما زال امرؤ القيس صاحبَ قصيدة “قفا نبك…”، وطرفة صاحبَ “لخولة أطلال…”، وعمرُ بن كلثوم “ألا هبى…”. لكنني شككت في قيمة الأدب الجاهلي، وألححت في الشك. وانتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً، ليست من الجاهلية في شيء، إنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام. فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين”.
ويرسخ الجاحظ هذه المقولة بطريقة أخرى، ففي كتابه (الحيوان) الجزء الأول الصفحة (74) في البعد التاريخي المعارض لشكوك طه حسين، ودون أن يذهب بعيدا كبعض المؤرخين العرب الذين يرجعون ببدايات الشعر العربي إلى قرون عديدة قبل الإسلام، فيقول “أما الشعر العربي فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له – إلى أن جاء الله بالإسلام – خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام”
وهكذا فمعظم المصادر مثل التي اختصرنا بهم يؤكدون على أن الشعر العربي والذي بلغ اليوم سويات عليا من التطور، حديث العهد بالنسبة لشعر الشعوب المجاورة كالأراميين والساسانيين والقبط، الذي أصبح؛ وبعد هيمنة السلطات العربية الإسلامية على جغرافياتهم، من النادر أن نجد له أثر، أو كتب من الماضي، رغم أن شعراء العرب الأوائل استسقوا من أولئك الشعوب طريقة قرض الشعر، واستخدموا اللغة الأرامية في الكتابة قبل أن تنفرد بذاتها، يقول في هذا مقدم كتاب (بدايات الشعر العربي بين الكم والكيف) للكاتب الدكتور محمد عوني عبد الرؤوف، الدكتور سعيد بحيري، في الصفحة (9) ” يرجح استمرار الشعر العربي كيفيا طوال الفترة التي ارتبط فيها بالشعر الآرامي” ولا توجد أية نقوش أو كتابات باللغة العربية قبل الوحي، مثلما ورد في الكتاب المذكور وعلى لسان الكاتب في الصفحة (21) ” وإن عدم وجود نقوش بوسط الجزيرة العربية، بلغة أهل هذه المنطقة أو باللغة المشتركة التي نزل بها القرآن، وعدم وصول أي شيء عن هذه المحاولات، جعل الباحثين لا يدرون تماماُ إن كان السجع هو حقاً الصورة الأولى التي أنطلق منها الشعر العربي”.
كما ويذكره محمد عوني عبد الرؤوف في كتابه (بدايات الشعر العربي) الصفحة 162 “يرى ابن سلام (ت231هـ) انه لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف” ويتمم في الصفحة 172م ” ولكن أقدم قصيدة وصلت إلينا، فيما يقول جوستاف فون جرونيباوم في كتابه (نقد وفن الشعر) هي قصيدة عمرو بن قميئة ( حوالي 480م -540م) أي قبل الإسلام بقرابة خمسون سنة… ولا يمكن أن تعد بمقاييسهم شعراً يستحق التوقف عنده” ويقصد هنا مقاييس النقاد العرب.
ورغم هذا التطور، والتي تعتبر كطفرة ظهرت بعد الاختلاط بالحضارتين المذكورتين، ظل العديد من الشعراء العرب الأوائل متأثرين بالثقافة الساسانية وآدابهم، فعلى سبيل المثال يذكر محمد عوني في كتابه المنوه إليه في الصفحة 176 ” وكان الأعشى ولا شك أعظم شاعر قبل الإسلام، تُنمُ المظاهر الاجتماعية التي يتحدث عنها بشعره عن تأثره بالساسانيين”
فيما لو أسلمنا صحة ما يقال أن المعلقات كانت على جدران الكعبة، تنم على أنه؛ رغم القصر الزمني لظهور الشعر العربي، كان قد بلغ مراحل متقدمة من الأبداع، في زمن الوحي، وهذه أيضا من ضمن الروايات التي شك فيها طه حسين، بعكس الغناء والآلات الموسيقية التي كانت مجهولة في شبه الجزيرة، وظهرت في منتصف القرن الأول الهجري، وفي هذا يقول شهاب الدين النويري في كتابه نهاية الأرب في فنون الأدب الجزء الرابع، الصفحة (239) “لم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه الركبانية”. وأول من نقل الغناء العجمي إلى العربي من أهل مكة سعيد بن مسجح، فكان أول اتصال له مع الألوان الموسيقية الأجنبية، حينما سمع عمال البناء من سبايا العجم وهم يغنون أغانيهم أثناء عملهم ببناء وترميم الكعبة في عهد عبد الله بن الزبير بن العوام. وبعده برز تلميذه ابن سريج المغني. فقد كان ابن مسجح وابن سريج كليهما عبدين عند سيد واحد. للمزيد من معرفة روايته مع الخليفة عبد الملك بن مروان، يمكن العودة إلى كتاب الأغاني لأبو الفرح الأصفهاني، الجزء الثالث، الصفحة 278-279 من الطبعة الأولى.
لذلك لم يتم الحديث عنهما في زمن الوحي، ولم يأت على ذكره في النص، وما ورد في الحديث فمعظم الفقهاء يضعفونها على أنها أحاديث موضوعه، وكما نعلم من التاريخ…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
1/5/2020م