مرت ثلاثة وخمسين سنة على إعدام (إيلي كوهين)، الجاسوس الإسرائيلي الجنسية المصري المولد والنشأة، الذي توغل بعمق في النظام الحكومي السوري لدرجة كاد يصبح رئيسا لجمهورية سوريا العربية.
في مقالنا هذا على موقعنا «دخلك بتعرف» جمعنا لكم قصة حياة هذا الجاسوس الإسرائيلي بشهادة من خبراء ورؤساء المخابرات السورية والإسرائيلية، وكذا روايات سردها عنه شقيقه (آلبرت).
سنوات حياته الأولى:
ولد (إيلي كوهين) في عائلة يهودية متدينة من أصل سوري تتكون من ثمانية أفراد في مدينة الإسكندرية المصرية على سواحل البحر الأبيض المتوسط في السادس من شهر ديسمبر سنة 1924، تلقى (إيلي) تعليمه الابتدائي في مدرسة يهودية محلية واعتبر نفسه مواطنا مصريا يدين بالولاء لمصر منذ حداثة سنه، فهي بعد كل شيء الدولة التي ولد فيها.
بعد إنهائه التعليم الثانوي بنجاح، تابع (إيلي) الشاب تعليمه الجامعي ضمن جامعة الإسكندرية حيث درس الهندسة الكهربائية، وخلال الوقت الذي قضاه في الجامعة؛ نظّم عدة مظاهرات طلابية احتجاجية ضد الاحتلال البريطاني لمصر. يقول شقيقه (ألبرت) متذكراً: ”لقد كان وفيا لبلده مصر“، ويضيف: ”لقد كان في نفس الوقت وفيا للشعب اليهودي وأفكار الحركة الصهيونية، التي كانت تهدف لتأسيس دولة يهودية في أرض إسرائيل“، التي كانت تعرف آنذاك باسم الوصاية البريطانية على فلسطين.
بدأ (إيلي) ينخرط شيئا فشيئا في الحركة الصهيونية، وعندما تم تأسيس الدولة الإسرائيلية في سنة 1948؛ انتقلت عائلته للعيش هناك.
بقي (إيلي) في مصر ولم يرحل مع عائلته إلى الدولة المنشأة حديثاً من أجل إكمال دراسته، ويعتقد أنه كان متورطا في «فضيحة لافون» -نسبة لوزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك (بنحاس لافون)- أو «قضية العار» مثلما تسمى بالعربية، وهي عبارة عن مؤامرة صهيونية إسرائيلية هدفت إلى تفجير أهداف تابعة لمصالح مصرية وأمريكية وبريطانية مدنية وإلقاء اللوم فيها على المتطرفين المصريين من أجل وقف المفاوضات على انسحاب القوات البريطانية من قناة سيناء التي كانت تشارف على الانتهاء آنذاك، وذلك بسبب تخوف إسرائيل من تموقع الجيش المصري في الثكنات والمواقع العسكرية والمطارات التي ستتركها القوات البريطانية خلفها مما يمنحه القدرة على إصابة مواقع في إسرائيل ومنه تهديد وجودها، أي أن استمرار بريطانيا في احتلال قناة السويس كان يصب في صالح الإسرائيليين.
وتماما مثلما أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (إسحق رابين)، فقد بقي (إيلي) في مصر متطوعا تحت غطاء مواطن ناشط في أعمال ترحيل اليهود المصريين إلى دولة إسرائيل المنشأة حديثا آنذاك.
في سنة 1954 علمت عائلة (كوهين) أن ابنها قد اعتقل من قبل السلطات المصرية وتم اتهامه بالتورط في خلية إرهابية، وبينما تعرض بقية المعتقلين في نفس القضية إما للسجن أو الإعدام، فقد تمكن (إيلي) من تفادي العقاب وذلك لانعدام الأدلة الكافية التي تشير إلى تورطه وتثبت إدانته، وبعد وقت وجيز من أزمة السويس في شهر أكتوبر سنة 1956؛ تم ترحيله إلى إسرائيل هو والآلاف من اليهود المصريين.
الطريق نحو الجوسسة:
وصل (إيلي) إلى إسرائيل في الثامن من شهر فبراير سنة 1957، وبعد خمسة أيام من ذلك؛ تعرض للاستجواب من طرف الجيش الإسرائيلي، وطلب منه تدوين سيرة حياته.
وصف (إيلي) حياته التي عاشها في مصر في ثمانية صفحات مكتوبة، ومن بين عدة أمور أخرى؛ ذكر أنه كان يجيد التحدث باللغة العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والعبرية، كما تضمنت لغته العربية إتقانه للّهجة المصرية والسورية واللبنانية. وفي آخر صفحة دونها ضمن سيرة حياته؛ أشار (إيلي) إلى استعداده لأن يتم إرساله إلى أي بلد عربي من أجل استعماله لأغراض جوسسة ومخابرات وجمع المعلومات.
يقول شقيقه (ألبرت): ”لم يكن يبحث عن المغامرات“، واستطرد شارحا: ”لقد كان بكل ببساطة شخصا قوميا، لقد كان واعيا تماما بما كان ينتظره، وتطوع لإنقاذ شعبه من خطر محرقة هولوكوست ثانية. لا أعتقد أنه كان يحلم بعيش حياة الجاسوس، لقد كان بكل بساطة قوميا يدين بالولاء لمصر والحركة الصهيونية، ولقد كان هذان التصوران آنذاك لا يناقضان بعضهما البعض“.
كانت إسرائيل ترى في توحيد دولة مصر وسوريا سنة 1958 تحت دولة واحدة أطلق عليها اسم «الجمهورية العربية المتحدة» مصدر تهديد خطير، وقد كانت المخابرات الإسرائيلية لهذه الدولة حديثة المنشأ آنذاك تبحث بشكل حثيث عن خدمات شخص خبير ليتجسس على العدو خلف خطوطه، ويعمل على إرسال كل معلومة قيّمة حول أي تهديد محتمل.
مغامرة الأرجنتين:
غادر (إيلي) إسرائيل في سنة 1961 متجها نحو المدينة السويسرية (زوريخ) ومن هناك إلى الشيلي ثم إلى الأرجنتين. بعد أيام قليلة من وصوله؛ التقى هناك بجاسوس آخر في العاصمة الأرجنتينية (بوينوس آيريس)، الذي منحه هوية جديدة وكل الوثائق اللازمة المصاحبة لها وأصبح يعرف باسم كمال أمين ثابت، كما تم تزويده بقصة حياة مزيفة تفيد بأنه كان مواطنا سوريا ورث عن قريب له يهودي الأصل وأرجنتيني الجنسية تجارة ومعامل النسيج التي كانت تدرّ عليه أموالا طائلة، ونصحه بتعلم اللغة الإسبانية بأسرع وقت ممكن. بعد ثلاثة أشهر لاحقة؛ أصبح (إيلي) يتحدث اللغة الإسبانية بطلاقة، كما تعلم الكثير عن ثقافة الأرجنتين وعاصمتها.
أقام (إيلي) هناك ثمانية أشهر، هذه المدة التي قام بتوثيقها (ناتاليو ستينر) المدير المساعد للصحيفة الأرجنتينية اليهودية (كومينيداديس) في مقال نشره حول موضوع المخابرات الإسرائيلية.
كانت مهمة (إيلي) تتجلى في اختراق المجتمعات العربية الموجودة في (بوينوس آيريس) والتوغل فيها، فوضع هذا الهدف نصب عينيه وأصبح يرتاد بصورة معتدلة جميع الأحداث والحفلات التي كانت هذه المجتمعات في المهجر تقيمها وتستضيفها، ومن أجل لفت الانتباه إليه، قام (إيلي) بنجاح بالترويج لنفسه على أنه ذلك الشخص فاحش الثراء الذي يرتدي أفخر الثياب والحلي وينفق بسخاء.
وفقا لـ(ستينر)، نجحت مساعي (إيلي) في التوغل في المجتمعات العربية المقيمة في الأرجنتين بنجاح، مما سمح له بالوصول والتقرب من علية القوم هناك في الجالية السورية المقيمة في المهجر، ومن خلال هؤلاء الأخيرين، وصل إلى شخصيات مهمة جدا في سوريا.
يقول (ستينر): ”بتقديم نفسه على أنه تاجر كبير؛ كان [إيلي] قادرا على الالتقاء بأشخاص قاموا بدورهم بتقديمه إلى شخصيات مهمة على الصعيد السياسي والعسكري في سوريا. كنتيجة على ذلك؛ تمت دعوته لحضور عدة أحداث وحفلات متنوعة كانت تحضرها في نفس الوقت شخصيات بارزة في المجتمع العربي هناك، ولقد كان هذا النوع من الاختراق والتوغل متاحا فقط بفضل قصته الناجحة التي اعتمدها كغطاء“.
في مقاله الذي نشره حول قصة (إيلي)، أشار (ستينر) إلى أن نجاح مهمته كان بفضل ”أسلوبه الفريد في المعاملة وإنفاقه السخي“، بالإضافة إلى شبكة جهات الاتصال الواسعة التي تمكن من إيقاعها في شباكه ووضعها تحت تصرفه، التي كان من بينها رئيس صحيفة (موندو أراب)، وهي صحيفة ناجحة ورائجة جدا بين الصحف في المجتمعات العربية المقيمة في (بوينوس آيريس).
مكّنت معرفة (إيلي) الأخيرة برئيس الصحيفة الآنفة الذكر من حضور عدة أحداث وحفلات استقبال على مستوى السفارة السورية في (بوينوس آيريس)، وهناك التقى بالجنرال أمين حافظ المسؤول العسكري السوري في سفارة الأرجنتين، والذي سيصبح رئيس الجمهورية السورية في المستقبل.
في واحدة من المناقشات التي تبادل أطرافها مع مدير صحيفة (موندو آراب)، ”اعترف“ (إيلي) بأنه يرغب في العودة إلى سوريا من أجل دعم تطوير بلده الأم.
الطريق إلى دمشق:
متحضرا لعودته إلى بلده الأم المزعوم؛ عاد (إيلي) سرا إلى إسرائيل عبر (زوريخ)، وبقي هناك لفترة من الزمن مع أفراد عائلته وقام بدراسة الكثير من الجوانب المتعلقة بسوريا والشؤون السورية. يقول شقيقه (ألبرت) في هذا الصدد: ”عاد إلى إسرائيل وبقي هناك لمدة ثلاثة أسابيع بسبب وفاة والدنا“، وأضاف: ”بعد فترة الحداد التي قضاها؛ غادر إسرائيل متجها نحو إيطاليا، حيث سافر بحرا باتجاه الإسكندرية، ومن هناك واصل دربه بحرا كذلك إلى بيروت في لبنان حيث التقى عميلا سوريا لدى المخابرات المركزية الأمريكية هناك، الذي رافقه إلى الحدود السورية حيث قاما برشوة حارس حدود ليسمح لهما بدخول البلد.“
يضيف (ألبرت): ”مثلما بدا لاحقا، لم يكن عبور الحدود بصورة غير شرعية أمرا صعب المنال، حيث لم تكن محروسة بشكل مكثف“، وأضاف متذكرا قصة شقيقه: ”ثم بعد أن وجد الرجلان نفسيهما داخل الأراضي السورية، انطلقا باتجاه العاصمة دمشق“.
استقر (إيلي) في العاصمة السورية دمشق في سنة 1962، حيث استفاد كثيرا من شبكة المعارف وجهات الاتصال التي جمعها هناك في الأرجنتين، ومن أبرز الشخصيات التي أثبتت نفسها مفيدة له هو الجنرال أمين حافظ الذي اعتلى سدة الحكم في عملية انقلاب عسكري نفذها في سنة 1963، والذي كان يرى في (إيلي) –أو كمال أمين ثابت كما عرفه– ذلك الشخص المثقف والمواطن المتشبع بالروح القومية والمضيف الجيد ورجل الأعمال الناجح الذي كان مستعدا للاستثمار في سوريا.
يقول (ألبرت): ”يجب على كل شخص يرغب في أن يصبح كاذبا جيدا أن يملك ذاكرة قوية“، ويضيف: ”وكان (إيلي) يملك ذاكرة خرافية، وقد كانت هي من ساعده على خداع أعدائه والقادة السوريين المتربعين على قمة هرم السلطة“.
يملك (ألبرت) شقيق (إيلي) شهادة هذا الأخير لدى المحكمة بعد اعتقاله من طرف السلطات السورية، والتي قال أنها تظهر إلى أي مدى كان هذا الجاسوس الإسرائيلي متوغلا داخل أعلى المراكز القيادية السورية في الواجهة السياسية والعسكرية منها.
ورد في شهادة (إيلي) لهيئة المحكمة السورية: ”لقد تمكنت من اختراق عدة وزارات وبعض الوكالات الحكومية الأخرى. من بينها كانت وزارة الدفاع، وووزارة الاقتصاد، ووزارة الإعلام، ووزارة الشؤون المحلية، والبنك المركزي، وغيرها“.
بمساعدة مصادر موثوقة كانت مستعدة لتوفير المعلومات اللازمة له في أي وقت، قام (إيلي) بإرسال معلومات مفصّلة حول الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية السورية إلى إسرائيل في أوائل ستينات القرن الماضي، وكان من بين هذه المعلومات التي تمكن من جمعها وإرسالها بشكل أخص، ولعلها أهمها على الإطلاق، تلك التي تعلقت بالتعاون العسكري السوري مع العراق، وكذا معلومات سرية حول إمدادات أسلحة سوفييتية قادمة إلى دمشق، بالإضافة إلى تغيير موقع القوات المسلحة السورية بما في ذلك سلاح المدفية وإرسالها إلى هضبة الجولان لتدعيم خطوطها هناك.
تمكن (إيلي) كذلك من كشف مخططات سوريا آنذاك في تحويل مسار نهر الأردن من أجل حرمان إسرائيل من مصدرها الأساسي للمياه العذبة، وبالإضافة إلى كل هذه المعلومات، كان هذا الجاسوس يرسل بصورة منتظمة صوراً وخرائط عسكرية ووثائق أخرى ذات أهمية استراتيجية كبيرة إلى تل أبيب.
مدح (ليفي إيشكول)، الذي كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بين سنتي 1963 و1969، (إيلي كوهين) كثيراً، وقال بأن الفضل يعود إلى مجهودات هذا الجاسوس في: ”إنقاذ أرواح الكثير من الجنود الإسرائيليين، بينما ثبت أن المعلومات التي قدمها كانت لا تقدر بثمن وساعدت البلد في إحراز نصر عظيم في حرب الستة أيام“.
بدأت حرب الستة أيام التي استمرت من الخامس من يونيو إلى العاشر منه سنة 1967 عندما شنت القوات الإسرائيلية ضربات جوية ضد جمهورية مصر، فنجحت في تدمير القوة الجوية المصرية كاملة، ثم انضمت إلى هذه الحرب كل من سوريا والعراق ولبنان والأردن في الأيام اللاحقة، لكنها خرجت منها جميعها مهزومة على يد الجيش الإسرائيلي الذي كان آنذاك متوفقا على جميع الأصعدة.
انتهت تلك الحرب باحتلال إسرائيل للضفة الغربية، وقطاع غزة، وهضبة الجولان وصحراء سيناء، التي استعادتها جمهورية مصر لاحقا في حرب 1973.
وفقا لمصادر إسرائيلية ومصادر تاريخية غربية، فقد شاع أنه كانت للجاسوس (إيلي) الفرصة ليصبح نائب وزير الدفاع في سوريا، وأن اسمه اقتُرح حتى لاعتلاء سدة الرئاسة، غير أن خبير الشؤون السياسية السوري تحسين حلبي ينفي كل تلك الادعاءات، ويقول أن قصص نجاح هذا الجاسوس كان مبالغاً فيها.
يقول حلبي: ”إن التقارير التي تشير بأن (إيلي كوهين) كاد يصبح رئيس الجمهورية السورية هي عبارة عن أسطورة متداولة لا أساس لها من الصحة، قامت المخابرات الإسرائيلية بابتداعها ونشرها من أجل الترويج لنفسها، وكذا رسم صورة لها تبدو فيها وكأنها تلك الهيكلة النافذة القادرة على اختراق أي نظام سياسي وعسكري في العالم والتحكم فيه“.
كشف أمره وإعدامه:
اعتُقل (إيلي) من طرف المخابرات السورية في شقته في شهر يناير سنة 1965، بعد شهر من ذلك خضع للمحاكمة وحكم عليه بالإعدام، وتم إعدامه شنقا في الثامن عشر من شهر مايو سنة 1965 في إحدى ساحات دمشق وتركت جثته معلقة لمدة ستة ساعات هناك.
(ياكوف كيدمي)، معلق سياسي إسرائيلي والرئيس السابق لخدمة الحماية الإسرائيلية (ناتيف) -التي كانت تعنى بالعناية والاتصال باليهود في ألمانيا الشرقية-، تحدث عن تفاصيل اعتقال الجاسوس وإعدامه في قوله: ”لقد قامت الموساد ومجتمع المخابرات الإسرائيلية بتفحص ودراسة مشكلة كشفه [أي (إيلي)] واعتقاله وإعدامه بشكل عميق. وقد كان للسوفييتيين دور مثير للاهتمام في هذه العملية، وتضمن ذلك إمداده بمعدات خاصة لاعتراض موجات الراديو“.
وفقا لـ(كيدمي)، فقد أظهرت التحقيقات التي أجرتها إسرائيل أن (إيلي) قد اقترف عدة أخطاء، وأن هذه الأخطاء إلى جانب مشكلة المعدات السوفيتية تسببت كلها في سقوطه وإعدامه في نهاية المطاف.
مع كون القصة الرسمية يكتنفها الكثير من الغموض حتى بعد نصف قرن من الزمن، يخبرنا (ألبرت كوهين) أنه كانت هناك ثلاثة أسباب محتملة لكشف غطاء شقيقه، وفقا للقصة الأولى، التي أدلى بها الرئيس السوري أمين حافظ بعد سقوط الجاسوس (إيلي)، فقد قدمت السفارة الهندية في دمشق شكوى فحواها تداخل موجات الراديو التي ترسلها للتواصل مع العاصمة نيودلهي، أدت هذه الشكوى بالمسؤولين في الأمن السوري إلى فتح تحقيق حول الموضوع، الذي استعملت خلاله معدات سوفييتية متطورة جدا آنذاك من أجل تحديد مصدر هذا التداخل في أمواج الراديو، مما سمح للمخابرات السورية بالقبض على (إيلي كوهين) بالجرم المشهود عندما داهمته في شقته حيث كان بصدد إرسال بعض المعلومات عبر أمواج الراديو في دمشق.
قالت المخابرات المصرية من جهتها بأن أول مرة اشتبه فيها في (إيلي) كان من طرف أعوانها من خلال صورة جمعته ببعض المسؤولين المصريين والسوريين في هضبة الجولان، وقد حدد الجانب المصري هويته لاحقا على أنه جاسوس إسرائيلي.
أما القصة الثالثة والأكثر تفصيلا من بينها فقد تم تقديمها من طرف أحمد سويداني، وهو الرئيس السابق للمخابرات السورية. وفقا له، ففي أوائل ستينات القرن الماضي، علمت مصالح الجوسسة المضادة السورية بموضوع مواطنين سوريين اشتبه في كونهما يعملان لصالح المخابرات الأمريكية الـCIA وأنهما كانا يخططان سرا لتهريب بعض الصواريخ التي تلقتها سوريا من الاتحاد السوفييتي إلى قبرص.
بعد سبعة أشهر من المراقبة، لاحظت مصالح المخابرات السورية أن كلا من هذين الشخصين المشتبه فيهما كانا ضيفين شبه دائمين في منزل (إيلي)، أُلقي القبض على هذين الرجلين لاحقا في أواخر سنة 1964، بعد ذلك خضع (إيلي) للمراقبة من طرف المخابرات السورية، حيث قبض عليه هو الآخر متلبسا في شقته فحوكم بتهمة الخيانة وأعدم شنقا في دمشق في شهر فبراير من سنة 1965.
وفقا لنسخة سويداني عن الأحداث، فقد قامت قوات الأمن فعلا باقتحام شقة (إيلي) في الثامن عشر من شهر يناير سنة 1965 لكنهم وجدوه يستمع للراديو ولم يكن يرسل بأية معلومات، وخلال عملية تفتيش الشقة، عثر المحققون على جهاز إرسال راديو وبعض الأغراض المشبوهة.
يتذكر (ألبرت كوهين) أن سجلات المحاكمة التي خضع لها شقيقه في سوريا ذكرت شيئا حول كون (إيلي) ومتآمر آخر متورط معه أخبروا ضابطا في البحرية السورية أن الأمريكيين كانوا مستعدين لدفع مبلغ 50 ألف دولار مقابل أية معلومات ذات صلة بالبحرية السورية، وقد استعمل هذا التصريح لاتهام (إيلي) بالتعاون مع المخابرات الأمريكية. وأشار (ألبرت) أيضا إلى أن السلطات السورية أعلنت عن اعتقال هذا الأخير في الثاني والعشرين من شهر يناير سنة 1965 وذلك بعد خمسة أيام من اعتقاله فعليا، وهذا ما يشير وفقا له إلى أن المخابرات السورية كانت تشتبه فيه منذ مدة طويلة.
يتفق (ألبرت) كذلك مع قصة سويداني التي تفيد بأن اعتقال مواطنين سوريين يعملان لصالح المخابرات المركزية الأمريكية هو ما مثل بداية النهاية بالنسبة لشقيقه.
خلال مدة خمسين سنة التي تلت إعدام (إيلي كوهين)، رفضت الحكومة السورية إرسال جثته إلى موطنه في إسرائيل لتتمكن عائلته من دفنه هناك. يعتقد (ياكوف كيدمي) أن رفض الحكومة السورية إرسال الجثة إلى إسرائيل على علاقة بواقع كونها لم تعد تعلم موقع الجثة بالتحديد، يقول: ”حاولت إسرائيل بشكل متكرر تحديد موقع دفنه وقامت بتأسيس العديد الاتصالات والمفاوضات مع سوريا، لكن الحقيقة هي أن دمشق لا تعلم ببساطة أين توجد جثة (إيلي كوهين). وفي خضم هذه الحرب الأهلية التي تعيشها، ثبت أنه من المستحيل العثور على جثته، ولو كانت السلطات السورية قد رفضت إرسال جثته في بادئ الأمر لأسباب سياسية، فهي الآن ترفض ذلك لعدم قدرتها على تحديد مكان الجثة بكل بساطة“.
بطل خالد بالنسبة للبعض، وعدو أزلي بالنسبة للبعض الآخر:
في إسرائيل، ينظر إلى (إيلي كوهين) على أنه شخصية أيقونية وبطل قومي وطني وأنجح جاسوس في تاريخ البلد. يقول (ألبرت) أن شقيقه كان لا يعرف الخوف في قوله: ”كان (إيلي) مقاتلا شجاعا وجنديا في خدمة دولة إسرائيل. كان جنديا بدون زي رسمي، وسيبقى دائما بطلا وطنيا في ذاكرتنا الجماعية“.
من جهته، يعتقد تحسين حلبي أن مهمة (إيلي) كانت تدمير سوريا والإضرار بها، يقول: ”منذ سنة 1949، حاولت الولايات المتحدة الأمريكية عدة مرات تنفيذ انقلاب داخل سوريا، لكن جميع محاولاتها باءت بالفشل“، ويضيف المحلل السياسي السوري: ”لم يكن الأمريكيون راضين عن الحكومة السورية، التي كانت آنذاك قد أسست علاقات جيدة مع الإتحاد السوفييتي. وفي خضم فشلها ذلك، فوضت الحكومة الأمريكية مهمة تدمير الدولة السورية إلى وكالة المخابرات المركزية الـCIA، ولأجل هذا السبب تم إرسال (إيلي كوهين) إلى سوريا“.
غير أن (ياكوف كيدمي) الرئيس السابق لـ(ناتيف) يرى بأن (إيلي كوهين) كان جاسوسا ناجحا، في قوله: ”إن (كوهين) واحد من بين أنجح الجواسيس في إسرائيل، وهو الأمر الذي دفع حياته ثمناً له“، وأضاف: ”في أي بلد يعتبر شخص من عياره بطلا قومياً، وإسرائيل كلها تخلد ذكراه“.