لم يكد يذاع خبر مصرع عبد السلام عارف في حادث الطائرة المروحية حتى بدأ الصراع على قمة السلطة، وكانت أطراف الصراع تتمثل أساساً في جبهتين رئيسيتين، على الرغم من محاولة الزعيم الركن [عبد العزيز العقيلي] ترشيح نفسه للرئاسة كجبهة ثالثة، وهاتان الجبهتان هما:
1 ـ الجبهة الأولى: وتتمثل بالعسكريين الممسكين بزمام القوة، حيث يمسكون بأيديهم كل المراكز الأساسية في الجيش، وقد وقفت هذه الجبهة إلى جانب اللواء عبد الرحمن عارف، شقيق عبد السلام عارف، وكيل رئيس أركان الجيش آنذاك بالإضافة إلى قيادة الفرقة العسكرية الخامسة المدرعة.
2 ـ الجبهة الثانية: وتتمثل برئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز، ومن حوله كل العناصر المدنية المرتبطة مصالحها بمصالح الغربية، بشكل أو بآخر.
وبموجب الدستور فأن انتخاب رئيس الجمهورية في حالة شغور المنصب يتمّ من قبل مجلس الوزراء، ومجلس الدفاع الأعلى بصورة مشتركة.
وهكذا فقد بادر مجلس الوزراء، ومجلس الدفاع الأعلى بعقد اجتماع عاجل في 16 نيسان 1966 لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقد طُرح في الاجتماع ثلاثة أسماء:
1ـ الأول:عبد الرحمن عارف، وكيل رئيس أركان الجيش، وقائد الفرقة الخامسة المدرعة.
2 ـ الثاني:عبد الرحمن البزاز، رئيس الوزراء.
3 ـ الثالث: الزعيم الركن عبد العزيز العقيلي، قائد الفرقة العسكرية الأولى.
وفي دورة الاقتراع الأولى حصل البزاز على 14صوتاً من مجموع 28صوتاً، فيما حصل عبد الرحمن عارف على 13 صوتاً، ونال عبد العزيز العقيلي على صوت واحد فقط هو صوته، وكان الضباط المصوتين لعبد الرحمن عارف 11ضابطاً من مجموع 12، باستثناء العقيلي، فيما صوت 14 من الوزراء للبزاز وعضوان لعارف، ولكون أن أحداً لم يفز بأغلبية الثلثين، كما نص الدستور فقد جرت دورة ثانية، كان فيها تأثير الضباط حاسماً، فقد أصروا على انتخاب عبد الرحمن عارف مهما كان الثمن، رافضين قبول تولي البزاز رئاسة الجمهورية، مما أضطر البزاز إلى سحب ترشيحه تحت ضغط العسكريين لصالح عبد الرحمن عارف، فقد كانت القوى المسيطرة على الجيش، وخاصة عدد من أقرباء عارف، وفي المقدمة منهم [سعيد صليبي] رجل النظام العارفي القوي، لها القول الفصل في عملية الانتخاب، كما أن عبد الناصر، والناصريين، وقفوا إلى جانب عبد الرحمن عارف ضد البزاز المعروف بولائه للغرب، هذا بالإضافة إلى أن عبد الرحمن عارف الذي يتسم بالضعف، وعدم القدرة على إدارة شؤون البلاد، وقلة طموحه، جعل البزاز ورفاقه يرضخون لانتخاب عارف، ويفضلونه على أي مرشح آخر، حيث اعتبروه أقل خطراً من غيره على مراكزهم في السلطة.
وهكذا تولى عبد الرحمن عارف رئاسة الجمهورية، فيما بقي البزاز رئيساً للوزارة وكان نظام عبد الرحمن عارف امتداداً لنظام أخيه عبد السلام، وإن كان أقل عدوانية منه، وبقي محور النظام يستند على الحرس الجمهوري، وتعاون الجمليين الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للحرس الجمهوري.
كان عبد الرحمن يفتقر إلى الدهاء والطاقة، ولا يتمتع بسلطة قوية لاتخاذ القرارات ويفتقد للحدس السياسي، والمعرفة بالشؤون العامة، وعدم القدرة على إدارة دفة الدولة، كما كان يفتقر إلى روح المبادرة والمناورة، حتى شعر كل من كان حوله إلى انه لم يخلق ليكون رئيس دولة، فاقداً لأي طموح، ولذلك فقد كان العوبة بيد عدد من الضباط المتخلفين والأنانيين الذين لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية، معتمدين على الولاءات العشائرية والإقليمية.
وكان [سعيد صليبي] يلعب الدور الأكبر من بين جميع الضباط في إدارة شؤون البلاد العسكرية، فيما أعتمد عارف على [خيرالدين حسيب]، ناصري من مدينة الموصل، في جميع الأمور المتعلقة بالشؤون الاقتصادية والنفطية، أما الشؤون السياسية فكانت من حصة رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز.
لم يسد في العراق على عهد عبد الرحمن عارف أي استقرار سياسي بسبب تصارع الأجنحة، المدنية منها والعسكرية، فلم يكن العسكريون راضين على وجود البزاز رئيساً للوزارة، واضطر البزاز في آخر الأمر إلى تقديم استقالة حكومته، تحت ضغط العسكريين، في 16 آب 1966.
لقد حاول البزاز خلال فترة حكمه الممتدة من 18 نيسان 965 إلى 16 آب 1966 إعادة الاعتبار للإقطاعيين، وكبار ملاكي الأرض القدامى، كما قدم لهم خدمات، وامتيازات حرمهم منها قانون الإصلاح الزراعي الذي شرعته حكومة عبد الكريم قاسم، فقد رفع معدل الفائدة المدفوعة للإقطاعيين عن ثمن الأرض المستملكة منهم بموجب القانون من 0,5% إلى 3 % سنوياً، وبذلك حمل الفلاحين المعدمين حملاً ثقيلاً ليست لهم القدرة على حمله، مما أدى إلى تدهور أوضاعهم الاقتصادية أكثر فاكثر،كما انه قام بتحديد قيمة مياه فروع الأنهر التي تتدفق لسقي تلك الأراضي، وبذلك حقق للإقطاعيين دخلاً كبيراً أقتطعه من دخول الفلاحين الكادحين، والضعيفة أصلاً .
لقد سعى البزاز إلى تقليص دور العسكريين وامتيازاتهم، وحاول تقليص ميزانية وزارة الدفاع، مما أثار غضب العسكريين عليه، ودفعهم إلى السعي للتخلص منه، مستغلين محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية في 15 آب 1967 ليطلبوا منه الإستقالة، ورضخ البزاز للأمر وقدم استقالة حكومته، وطلب عبد الرحمن عارف من الزعيم الركن المتقاعد [ناجي طالب] تأليف وزارة جديدة.
ومعلوم أن ناجي طالب هو أحد أعضاء اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار الذين ساهموا في ثورة 14 تموز 1958، وهو من مواليد1917، من مدينة الناصرية شيعي، ويمثل الاتجاه القومي في تلك اللجنة، وقد تولى عدة مناصب وزارية في عهد عبد الكريم قاسم، لكنه انشق عنه، وتحول نحو التعاون مع القوميين، وحزب البعث للإطاحة بحكومته، وشغل منصباً وزارياً في الحكومة الانقلابيون في8 شباط 1963، وقد عرف ناجي طالب بتذبذبه السياسي ما بين القومي المستقل والناصرين، وحاول الجمع بين الأجنحة العسكرية المتصارعة داخل السلطة باتخاذهالمواقف المعتدلة.
تألفت وزارته من 7 ضباط، و12 مدنياً، من كبار موظفي الدولة الاختصاصين، لكن تناحر الأجنحة استمر في عهد وزارته، رغم محاولته الجمع بين القوميين والناصريين والبعثيين، الذين بدأوا بالظهور من جديد على المسرح السياسي، واستمرار الصراع من جهة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد إثر نشوب الخلافات مع شركات النفط، وبسبب خلافات تلك الشركات مع سوريا حول حصتها السابقة والمتراكمة عن عائدات مرور النفط عبر أراضيها إلى مينائي بانياس، وطرابلس، وتوقف تدفق النفط، مما سبب انخفاضاً كبيراً في عائدات النفط التي كان العراق بحاجة ماسة إليها، ونتيجة لهذه الأوضاع قدم ناجي طالب استقالة حكومته.
تصاعد صراع الاجنحة وعارف يشكل الوزارة برئاسته:
نتيجة لتلك الظروف الصعبة، وتناحر الأجنحة العسكرية، وتكالبها على السلطة، أضطر عبد الرحمن عارف إلى تشكيل الوزارة برئاسته، وبذلك اصبح ممسكاً بالمنصبين، رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزارة، واتخذ له أربعة نواب لرئاسة الوزارة، يمثلون مختلف الأجنحة. فقد عين طاهر يحيى، بعثي سابق، وعبد الغني الراوي، قومي و ذو اتجاه إسلامي، وإسماعيل مصطفى، شيعي، من جماعة عبد العزيز العقيلي، وفؤاد عارف، عن القوميين الأكراد، وقد ضمت الوزارة كل من عبد الستار عبد اللطيف للداخلية، وشاكر محمود شكري للدفاع، وفاضل محسن الحكيم للمواصلات، وعبد الكريم فرحان للإصلاح الزراعي، بالإضافة إلى 16 شخصية مدنية، من اتجاهات مختلفة ولذلك فقد بدا منذُ الوهلة الأولى أن من الصعب جداً الجمع بين هذا التكوين ذي الاتجاهات والميول المختلفة، وأصبح بقاء هذه الوزارة مسألة وقت ليس إلا، وقد تسارعت الأحداث، حينما وقعت حرب 5 حزيران العربية الإسرائيلية عام 1967، والتي استمرت لمدة خمسة أيام فقط، وانتهت بهزيمة منكرة للعرب، واحتلال إسرائيل لكامل الضفة الغربية، وهضبة الجولان السورية، وصحراء سيناء المصرية.
لم يكن العراق مستعدا لتلك الحرب، فقد كانت ثلثي قواته العسكرية مشغولة في بالحرب في كردستان، وبعيدة جداً عن ساحة المعارك التي تزيد على [1000كم]، ولم يكن لدى العراق سوى اللواء الثامن الآلي قريباً من الساحة،عند الحدود السورية الأردنية، حيث أوعز لها عبد الرحمن عارف بالتحرك إلى ساحة الحرب بأسلوب استعراضي لم يراعِ فيه جانب الأمان لقواته المتقدمة، وهو العسكري الذي كان بالأمس رئيساً لأركان الجيش، ثم اصبح قائداً عاماً للقوات المسلحة، بعد توليه مقاليد الحكم في البلاد.
لقد وقف عبد الرحمن عارف يخطب من دار الإذاعة والتلفزيون معلناً تحرك القوات العراقية إلى ساحة المعركة، وكان ذلك التصرف منه خير منبه لإسرائيل لتهاجم طائراتها القوات العراقية وهي في طريقها إلى سوريا عبر الصحراء منزلة بها الخسائر الكبيرة . ومن المحزن في تصرفات عارف وجهله، أنه وقف يخطب بعد نهاية الحرب قائلاً:
{إن إسرائيل تعرف عنا أكثر مما نعرف نحن عن أنفسنا}، فيا للكارثة أن يقود العرب حكام بهذا المستوى.
لقد أثبتت تلك الحرب أن البونَ كان شاسعاً بين العرب وإسرائيل، فالحكومات العربية كانت على درجة خطيرة من التخلف يسودها الصراعات بين مختلف الأجنحة المتصارعة، والعسكرية منها بوجه خاص، حيث هيمن الضباط على معظم الأنظمة العربية، وعمت الفوضى في البلاد،وساد التخلف كل جوانب الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية في حين كان الإسرائيليون قد هيأوا أنفسهم للحرب، وحولوا كل جهودهم وقواهم لتعزيز جيشهم، وأصبحت إسرائيل مسلحة حتى الأسنان بأحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا الحربية، ويقودها أناس يعرفون ما يفعلون، أفلس عاراً على الدول العربية التي تعد إمكانياتها المادية والبشرية عشرات أضعاف إسرائيل أن تستطيع إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية خلال ستة أيام؟