جاءت حاثة إختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في استنبول , في وقت حرج لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وللحزب الجمهوري الذي يهيمن على الأغلبية في الكونغرس الأمريكي. فالإنتخابات النصفية للكونغرس على الأبواب في شهر نوفمبر المقبل, حيث يسعى الجمهوريون والرئيس ترامب الى إستمرارهيمنتهم على الكونغرس والحيلولة دون خسارة أغلبيتهم فيه لصالح غريمهم الحزب الديمقراطي.
وقد قاد ترامب خلال الأسابيع القليلة الماضية حملة إنتخابية ناجحة لصالح مرشحي الحزب الجمهوري في عدة ولايات امريكية, وكانت السعودية هي الوربقة الرابحة التي استخدمها ترامب لإرضاء غرور الناخب الأمريكي! فقد أظهر ترامب نفسه بمظهر الكاوبوي الأمريكي الذي يوفر الحماية للنظام السعودي مقابل الحصول علىمليارات من الدولارات, ولم يتردد ترامب في توجيه إهانات الى العائلة المالكة في السعودية بالرغم من أنه وقع عقودا تجارية وعسكرية معها بلغت قيمتها ٤٦٠ مليار دولار!
وكان يبدو أن الحملة الإعلامية تسير بشكل مذهل لصالح الجمهوريين لولا وقوع مالم يكن في الحسبان, ألا وهو إختفاء آثار الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي يكتب عمودا أسبوعيا في صحيفة واشنطن بوست واسعة الإنتشار! فقد إنقطعت آثاره في قنصلية بلاده في الثاني من هذا الشهر , إذ حظيت قضية إختفائه بإهتمام دولي نادرلربما لا نظير له في التاريخ الحديث, فوسائل الإعلام الدولية والحكومات الغربية والإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أعربت عن قلقها ومطالبة بالكشف عن مصيره.
وكان اللافت أن إختفاء خاشقجي تحول الى قضية رأي عام في أمريكا وقد ساهمت في ذلك وسائل إعلام أمريكية بعضها ليست على وفاق مع ترامب ومنها شبكة الإخبارية التي إتهمها ترامب سابقا بالكذب, وكذلك كبريات الصحف الأمريكية ومنها واشنطن بوست ونيويورك تايمز. لقد استثمرت تلك الوسائل الإعلامية هذه الحادثة تارةلتصفية حساباتها مع ترامب وتارة للتأثير على الإنتخابات المقبله, التي سينعكس أي تغيير إثرها في خارطة الكونغرس على أداء الرئيس ترامب وحظوظه في الحصول على ولاية ثانية بعد عامين.
وقد إضطر الرئيس الأمريكي في بادئ الأمر مجبرا الى التلويح بفرض عقوبات قاسية على السعودية في حال ثبت ضلوعها في الجريمة. لكن ترامب عاد وتراجع عن تهديداته حتى تحول الى شبكة علاقة عامه لتبرئة ساحة الملك السعودي وولي عهده من الجريمة مدعيا بأنهما أكدا له بأن لاعلاقة لهما بالقضية وبأنه ”إستشف“ من حديثهمع ملك السعودية بأن مجموعة ”مارقة ” نفذت ترامب عملية قتل خاشقجي داخل القنصلية.
ويلاحظ هنا أن ترامب وبتأثير من الضغط الإعلامي الداخلي فإن ردود فعله الأولية كانت قاسية على السعودية والى الحد الذي هددت فيه بشكل غير مباشر وعبر مقالة كتبها صحفي مقرب من محمد بن سلمان , هددت بالتوجه نحو روسيا والصين بل وحتى نحو ايران. وبعد ذلك غير ترامب من طريقته في التعاطي مع الأزمة وتحول الىشبكة علاقات عامة لتبرئة القيادة السعودية. لكن هذه المحاولة لايبدو أنها سيكتب لها النجاح, لإن تركيا التي ادارت هذه الأزمة بكفاءة عالية, ظلت تسرب صورا توضح بان من نفذ العملية دائرة مقربة جدا من ولي العهد وفي مقدمتهم مرافقه ماهر مطرب بالإضافة الى مسؤولين آخرين في الداخلية والمخابرات ممن لا يملكون حتىصلاحية التصريح دون إذن من محمد بن سلكان, فكيف بتنفيذ عملية خلال بضع ساعات وبإمكانيات لوجستية ضخمه!
ولابد من الإشارة هنا الى أن فضائية الجزيرة القطرية قادت أكبر حملة إعلامية إحترافية في تاريخها , وتصدت لكافة السيناريوهات التي تحاول تبرئة محمد بن سلمان من الجريمة البشعة التي ارتكبت ضد صحفي.
لقد صبت هذه الحادثة في صالح الحزب الديمقراطي واصبحت إدارة ترامب والحزب الجمهوري من وراءها في مأزق حقيقي , وقد حاول الجمهوريون تبادل الأدوار بينهم وبين ترامب فبينما يعلن السناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهم بانه لن يرضى بغير الإطاحة بولي العهد السعودي من منصبه, فإن ترامب منشغل في إخراجسيناريو يلقي باللائمة في الحادثة على ضباط سعوديين تصرفوا دون اوامر من بن سلمان او أبيه, وبذلك فهو يضمن استمرار العلاقات الوثيقة مع السعودية وفي ذلت الوقت يكون ملف القضية قد أغلق وبالتالي يضمن عدم خسارة حزبه للإنتخابات المقبلة.
لكن هذا السيناريو وكما أسلفت يصعب تمريره في بلد بوليسي كالسعودية, التي لا يمتلك فيها حتى الأمراء حق الإعتراض على ولي العهد فكيف بضباط ومرافقين يخالفون اوامره! بل إن ماحصل هو في الواقع تنفيذ حرفي لأوامر بن سلمان. وقد أكد ذلك نفيه لوجود خاشقجي في القنصلية بعد ايام من اختفائه, لإعتقاده بان الجريمة كانتمحكمة ويصعب كشفها.
وهنا لابد من الإشارة الى ان المجتمع الدولي شريك لبن سلمان في هذه الجريمة, فولي العهد السعودي كانت حساباته دقيقة حول رد فعل المجتمع الدولي في حال إكتشافه للجريمة ألا وهي التغاضي عنها . فبن سلمان يشن حربا على اليمن منذ قرابة الأربع سنوات وقد أدت الى سقوط آلاف الضحايا بين صفوف المدنيين ووضع البلاد علىحافة المجاعة والمجتمع الدولي صامت عن أكبر كارثة إنسانية في العصر الحديث, وبن سلمان إعتقال عشرات رجال الأعمال والمراء وصادر قسطا كبيرا من اموالهم والمجتمع الدولي غير مكترث لذلك, وبن سلمان إحتجز رئيس وزراء لبنان سعد الحريري وأجبره على الإستقاله , وبن سلمان إعتقل لكن كل ذلك لم يؤثر قيد أنملة علىعلاقته بالدول الكبرى وفي مقدمتها امريكا.
لكل ذلك فإنه اقدم على التخطيط لهذه الجريمة لإعتقاده بانها ستمر مرور الكرام لعلمه بان المجتمع الدولي متواطؤ معه إكراما لعقود الأسلحة. ولذا فإن هذا المجتمع الدولي الذي يرفع صوته عاليا اليوم هو شريك أساسي لبن سلمان في جميع جرائمه بل إنه يتحمل مسؤولية مقتل خاشقجي.
وبالعودة الى مازق ترامب والجمهوريين فإن مراهنة ترامب والجمهوريون تبدو اليوم التركيز على عدم إتخاذ إجراء ضد السعودية تحت ذريعة إنتظار نتائج التحقيق, ولدينا هنا تحقيقان واحد داخلي سعودي والآخر. ومن الواضح أن التحقيق السعودي سيحمل مسؤولية ماحصل لفرقة القتل التي وصلت الى تركيا ويبرئ ساحة محمد بنسلمان من الجريمة. وأما التحقيق التركي وهو المهم فإنه يمتلك معلومات تطيح بهذا السيناريو. ويبدو الموقف التركي حاسما, فهو قادر على تأييد الموقف السعودي عبر التأكيد بان جريمة قتل خاشقجي وقعت داخل القنصلية إلا أنه لا يستطيع ربطها بولي العهد نظرا لعدم إجراء أي تحقيق مع المتهمين, وسيبدو الموقف التركي مقبولا دولياوسيشكل طوق نجاة لإدارة ترامب وللجمهوريين, يخرجهم من هذه المحنة بأقل الخسائر.
أو أن نتائج التحقيق ستركز على هوية منفذي العملية ومدى قربهم من بن سلمان وبذلك سيتم التشكيك بالرواية السعودية وبالتالي سيتعرض ترامب والجمهوريون الى متاعب في الإنتخابات. ويتوقف المنحى الذي سيتخذه التحقيق التركي على المشاورات السياسية الجارية وراء الكواليس بين تركيا من جهة والسعودية وامريكا من جهةأخرى. فتركيا التي أصبحت بيدها ورقة رابحة ستحاول بيعها بثمن كبير أقله رفع العقوبات الإقتصادية الأمريكية عنها والحصول على استثمارات سعودية ضخمة, وتقديم إعتذار رسمي لها عما حصل من انتهاك لسيادتها. ولعل هذا هو السيناريو الذي ستنتهي له قضية خاشقجي.
وأما في حال عدم انجرار تركيا وراء هذا السيناريو فإن بقاء ولي العهد في منصبه سيشكل إحراجا كبيرا فلإدارة الأمريكية وللحزب الجمهوري وللمجتمع الدولي, وحينها فلابد من عزل ولي العهد او تجميده وتكليف أخيه خالد للقيام بمهامه سواء كولي للعهد أو ولي لولي العهد واستمرار المنظومة التي أسسها محمد بن سلمان في عملهاواستمرار العلاقات الوثيقة مع أمريكا. واما إستمرار التعامل معه فسيشكل ذلك ضربة موجعة للجمهوريين ولمستقبل ترامب.
وهنا لابد من الإشارة الى أن جميع هذه السيناريوهات قد يتم تأجيلها لما بعد الإنتخابات المقرر إجراؤها قبل أقل من ثلاثة أسابيع وذلك فيما لو طال امد التحقيقات التركية , وقد ظهرت إشارة على ذلك من وزير العدل التركي الذي أوحى بإمكانية أن تستغرق التحقيقات وقتا طويلا!!