براعة متمكنة في التفتيش والبحث في اوراق شجرة الماضي . والتجول في محطاتها عبر قطار العمر , ليجد نفسه في داخل المكان . زمناً ومكاناً . هذه الرحلة العمرية سافرت في دواخل الزمكان قرابة اكثر من نصف قرن من الزمن , تبدأ رحلتها منذ بدايات الخمسينيات القرن الماضي , في اسلوبية السرد المشوق بالمتعة في سياحة الزمن الماضي وعلى عتبات الحاضر . بتوثق المكان والزمان . تاريخياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً , بعالمها وشخوصها الشاخصة في الحضور في مساحات الزمكاني . نجد زمناً عراقياً شفافاً بمراحله وتنقلاته وتقلباته داخل المكان ( العراق ) . تبدأ رحلة العمر منذ انهى دراسته الابتدائية , ليبدأ ركوب قطار العمر في محطاته المختلفة . بأختصار شديد نجد روح وجسد المكان حاضراً بالوصف والتحليل والحكاية . في البحث في تضاريس الذاكرة العراقية . منذ انتقلت عائلته من قرية ( الغازية / نسبة الى الملك غازي , تحولت بعد ثورة 1958 الى أسم النصر ) والانتقال الى بغداد الى مدينة ( الهادي / تحولت بعد ثورة عام 1958 الى مدينة الحرية ) . يضم الكتاب 18 مقالة براعة الجودة في سردها لحكايات الزمن . وخصص الى مدينته ( مدينة الحرية ) ثماني منها . هذه المدينة ( العمارة الانسانية الشامخة ) جمعت كل اطياف الطيف العراقي بألوانه المختلفة في التعايش والاخاء ( مدينة الحرية كانت أنيقة بسكانيها , وفي بيوتها نسل طيب ينتمي بكل الاعراق والقوميات , من عرب وكرد وطوائف فسيفساء مختلفة , عن بقية أحياء بغداد الاخرى, التي وفد الى بعضها أبناء الريف , الذين وقعت بهم الاقدار للهجرة نحو العاصمة ) ص52 . تمدد داخل المكان بحلاوته ومراراته . تبدأ رحلة قطار العمر من قريته ( الغازية ) التي تملك بساطة العيش القروية والفلاحية . الى المقهى الطيني الذي يتجمع فيه ابناء القرية في عبق الدخان والغبار , الى الشطرة ومكتبتها الوحيدة , التي ساهمت بشكل فعال في التوعية الثقافية والسياسية . الى شخصية المعلم المناضل ( حسن العتابي ) الشخصية الشعبية المؤثرة , بنشاطاته السياسية والحزبية ( ينتمي الى الحزب الشيوعي ) والثقافية والفنية , بجهوده المثابرة في توعية الناس البسطاء . وقد برز بعد ثورة 1958 . كوجه شعبي على مستوى واسع النطاق . لكنه تعرض الملاحقات والمطاردات والسجون والاعتقالات . لكنه ظل مصر على افكاره السياسية والحزبية حتى وافاه الاجل عام 2007 . . كما عرج على الوجوه الثقافية والفكرية التي برزت في تلك المرحلة . وكذلك الوجوه الثقافية والادبية التي برزت في مدينة الحرية , منهم على سبيل المثال : المبدع الكبير القاص والروائي أحمد خلف . حميد الخاقاني . الشاعر حاتم الصكر . عبدالمنعم الاعسم الكاتب والصحفي . وكذلك عرج على الشاعر الذي برز نجمه الساطع في تلك الفترة المدرس الشاعر مظفر النواب , الذي اشتهر كشاعر الشعبي , وبقصائده المشهورة على نطاق واسع آنذاك . مثل قصيدة . الحرز . صويحب , الريل وحمد . كما برز ناشط سياسي وثقافي بارز في الوسط الشعبي والثقافي . وعرج على المبدعين في الغناء واللحن . الذين اشتهروا في تلك المرحلة , منهم . فاضل عواد في اغنيته المشهورة ( لا خبر ) سعدون جابر في اول اغنيته ( أفيش بروج الحنيه ) فقد كان عامل بناء مع ( الاسطه جلوب ) . سامي كمال في أول أغنية له ( رايح وين ) فترك مهنة الحلاقة ليتفرغ الى مشواره الفني وكذلك المطرب والملحن جعفر حسن . المطرب حميد منصور . عازف الكمان فالح حسن . كاظم الساهر , وغيرهم الكثير . هذا عطاء شباب مدينة الحرية . كما عرج الكتاب على معالم بغداد التراثية في المقاهي والمحلات والشوارع . شارع الرشيد . شارع المتنبي تجد فيه ( معنى وعبق التاريخ ) في رحلة البحث عن الكنوز الثقافية والادبية . في رحلة البحث عن الكتب وخاصة أيام الجمع ( جمعة المتنبي ) ملتقى زوار الثقافة والكتاب .
× المفارقات بين السخرية والتراجيدية . نقتطف منها هذه .
– انهى الكاتب مدرسته الابتدائية , والانتقال الى المدرسة المتوسطة في عام 1958 / 1959 . وسافر وحده ليلاً لكي يكون حاضراً صباحاً في مدرسته الجديدة , كانت ليلة مطر وبرد . حشر نفسه مع الركاب في سيارة الخشب القديمة , لكنها لم تستطع المواصلة الطريق فغطست في الطين ليلاً وتعطلت وسط الطريق المظلم والموحش . يلسعهم البرد والمطر . ولكن برق من بعيد ضوءاً يقترب اليهم , تنفسوا الصعداء بالفرج بأنقاذهم من ورطتهم , وانكشف الامر , كانت سيارة الشرطة , وراحوا افرادها يحيطون ويفتشون في وجوه الركاب بتطلع غريب , وحين سألوا عن هذه غرابة النظرات , رد أفراد الشرطة ( نبحث عن ( المتآمر ) رشيد عالي الكيلاني . الذي هرب الى مدننا ليحتمي بشيوخ العشائر الموالية له , والمعادين للثورة والزعيم ) ص22 . وحين رؤى خبر الحكاية الى أمه , فقالت ببساطة وعفوية ( وليدي , أبوك ايضاً كان في تلك الليلة يبحث عن رشيدعالي ) ص22 .
– شباط الاسود في انقلاب البعث عام 1963 , الذي احدث مجازر دموية ضد اليسار العراقي , ترفعه الاقدار ليسيطر من جديد على خناق السلطة والناس .
– يوم القبض على ( الخنافس ) بعد تولي العقلية الرجعية المتخلفة خيرالله طلفاح ليكون والياً على بغداد ( المحافظ ) قام بالهجوم الارعن على النساء السافرات بشق ثيابهن وتلطيخها بالصبغ بشكل وحشي ومتعجرف . وكذلك الهجوم على الشباب في شعورهم الطويلة . في تجميعهم في اقفاص مخصصة للسجناء ونقلهم الى السجون لجز شعورهم الطويلة بكل وحشية واستهتار , كأنهم سبايا الغزوات . لان رؤوس ( الخنافس ) يتطالون على أمن الدولة , ويمنعون من تحرير فلسطين , ولا يتم تحريرها إلا بقص شعر الرأس , مما حدى بأحد الضحايا ان يحتج على هذه الوحشية ( تفو على يا زمن ….. تفو يا بلد ) ص114 . وحقاً حل زمن الموت والهلاك العراقي .
– من سخرية الاقدار السفيهة , بصدد بأئع الثلج ( عزة الدوري ) الذي ودع كشك الثلج مقابل المقهى في مدينة الحرية , لكي تأخذه الاقدار العفنة الى اعلى مراتب السلطة في الدولة العراقية , في انقلاب عام 1968 .
× الكتاب : داخل المكان
× المؤلف : الاستاذ جمال العتابي
× سنة الاصدار : عام 2019
× عدد الصفحات : 176 صفحة