أدب السجون يملك حديث طويل ومتشعب , في حياة العراقيين . إذ لا تخلو مراحلة من مراحل العراق السياسية من السجون والمعتقلات والمجازر , في هذه سراديب الموت . كل سلطة قمعية باطشة طامعة بالسلطة تأتي على ظهر الدبابة , برنامجها الاول , حشر الناس والابرياء بالسجون , فكل مراحل العراق المتقلبة مليئة بحشود الحاشدة المحشورة بالسجون . كأسلوب ونهج للحكم الطاغي والباطش بالتنكيل , في اسلوب المعاقبة كسلاح للنفي داخل السجون . من اجل تكميم الافواه وخنق الرأي المعارض والسياسي . وقد كبر حجم السجون كماً ونوعاً وكيفاً في زمن الدكتاتورية المقبورة الساقطة , سواء في السجون العلنية او السرية , تشهد تزاحم في عدد السجناء من كل الاصناف , المعارض والبريء . في اسلوب التنكيل والتعذيب الوحشي , وكثير من السجناء توفي في زنازين الموت. انها نهج ثقافة العنف الذي تستخدمه السلطة في القمع والارهاب , والترغيب بين الحياة والموت , وكثير من المثقفين والمبدعين والكتاب تعرضوا لحياة السجن في العسف والاضطهاد وعاشوا تجربة السجن . رغم البشاعة الوحشية لحياة السجون , لكن ما كتب من اعمال روائية وقصصية وفنون اخرى إلا القليل من هذا الزخم الكبير , وبالنسبة للحجم الهائل من زار حياة المنفى في السجون . وقد اشتهرت السجون في العراق , مثل سجن ( نقرة السلمان ) سجون بغداد والكوت والمحافظات الاخرى , سجن رقم واحد في معسكر الرشيد في بغداد . المشهور بقطار الموت , ارادت السلطة البعثية عام 1963 , أبادة وموت السجناء دفعة واحدة لاكثر من 500 سجين سياسي من النخب الاجتماعية الفاعلة , لكن شهامة ووطنية سائق قطار الموت , انقذهم من الموت المحقق , مع هذا فأن أدب السجون يشهد الفقر في الاعمال الادبية والروائية العراقية , وقد شخص الراحل الكبير الدكتور حسين سرمك هذه الظاهرة , بشحة اعمال أدب السجون , في مقدمته الرائعة لهذه المجموعة القصصية ( باصات أبو غريب ) بقوله ( بالرغم من أن وطننا صار في مراحل كثيرة من تاريخه سجناً كبيراً , وبالرغم من أن كثيراً من المبدعين العراقيين , قد تعرضوا لتجارب مريرة من السجن والتعذيب , إلا أن ما كتب عن ادب السجون العراقي كان قليلاً جداً , بصورة تثير الكثير من الغرابة والتساؤلات , يكفينا القول أن دورة معرض القاهرة الدولي 48 لعام 2017 , شهدت ثلاثين رواية عن أدب السجون , لم يكن بينها رواية عراقية واحدة في هذا المجال ) وكان الراحل الكبير مهتماً بشكل خاص بموضوعة أدب السجون في الاعمال الادبية العراقية , واصدر الكتاب الجزء الاول . حول أدب السجون , على ان يكمل مشواره في الجزء الثاني , وخاصة للاعمال الادبية لم يمر ذكرها في الجزء الاول , لكن مشاغله الكثيرة في الجهد الفكري , ثم جاء الموت وخطفه , فضاع مشروعه الثاني . لذلك اعتبر أن ما قام به الكاتب ( بولص آدم ) هو مواصلة لمشروع الراحل الكبير , لان المجموعة القصصية , تحمل مواصفات خاصة , لانها تحمل نكهة تتمثل بالمعايشة والتجربة الحقيقية لحياة السجون , وبكل تأكيد ان من يكتب من داخل المعايشة السجن , أفضل لمن يكتب خارج المعايشة السجن , مهما كان الابدع في الخيال والتصور الفني . لكن مع شحة الاعمال التي تناولت أدب السجون في الرواية والقصة , التي انتجت في هذا المجال واشتهرت , في كشف حياة السجون واسلوب التعذيب الوحشي , تجسدت في الاعمال الروائية والقصصية المبدعة , نذكر منها على سبيل المثال :
1 – رواية ( القعلة الخامسة ) فاضل العزاوي
2- رواية ( دابادا ) للشهيد حسن مطلك , وكانت سبب أعدامه من قبل النظام الدكتاتوري
3 – رواية ( الفتيت المبعثر ) محسن الرملي
4 – رواية ( أعجام ) سنان أنطون
5 – رواية ( أدم ) فرات ياسين
6 – رواية ( أنا الذي راى ) محمود سعيد
7 – رواية ( الفئران ) حميد العقابي . وغيرها .
ولا اشير الى الروايات العربية التي جسدت حياة السجن والسجين , فهي كثيرة لا تعد ولا تحصى , وتميز الادب السجون العربي بالاهتمام الشديد في هذا المجال . وتتناول هذه المجموعة القصصية ( باصات أبو غريب ) بشكل مختلف عن روايات أدب السجون في الطرح والتناول , بشكل ربما غير مألوف في هذا الصنف الادب الهام , لايعني انه كتبها بذاكرته المسجونة في السجن آنذاك , في تجسيد تجربته في منفى السجن بالمعايشة الفعلية تجرع مرارتها وقهرها في زنزانة السجن وذاق عذاب السجن . وهي تعتبر شهادة أدانه الى النظام الدكتاتوري في ممارساته الوحشية . ان تناول المتن السردي بشكل مغاير عن المألوف في السرد الروائي في التشخيص والتناول بهذه المميزات :
1 – تعامل النظام مع السجناء بحشرهم بصنف واحد هو الاجرام , و السجن يضم سوية سجناء الرأي الحر والمجرمين والقتلة في ردهة واحدة . المعارض والسارق في زنزانة واحدة . هذا يعطي انطباع بان النظام الدكتاتوري لايفرق بين السجناء وجيناتهم . مثلما كانت تتحدث الروايات أدب السجون , الردهات او الزنزانة مستقلة بين سجين الرأي وبين القاتل والمجرم والسارق وتاجر المخدرات .
2- لم يتحدث النص السردي للمجموعة القصصية . عن وسائل التعذيب الجسدي في كرسي الاعتراف بهدف الاسقاط والبراءة من جهته السياسية والحزبية . ولم يتوقف التعذيب الوحشي إلا ان يعترف السجين بما يحمل في جعبته من اسرار سياسية وحزبية , وخيار السجين بين الحياة والموت.
لم نجد اعمال السخرة والانتقام . كما كان يفعل ( ستالين ) في اجبار السجناء على الاعمال الشاقة والصعبة حتى تزهق ارواحهم اثناء هذه الاعمال المرهقة , أو في اسلوب الابادة الجماعية كما خططت السلطة الوحشية في قطار الموت في ابادة اكثر من 500 سجين دفعة واحدة .
3 – السجناء في زنزازين مغلقة الاحكام لا يدخل حتى ضوء الشمس . وليس نوافذ يتطلع عليها السجناء على الخارج . بجعل احدهم ان يصعد على ظهره الآخر , ليتمتع بالمنظر الخارجي للسجن .
4- لم نجد العناء في مشكلة التغوط والتبول داخل الزنزانة وعلى منظر السجناء . كما هو مشار اليه في روايات السجون . ولكن بماذا تختص حياة السجن والسجناء التي دونتها المجموعة القصصية ( باصات أبو غريب ) تشكل هذه الخصائص :
1 – مسألة الاهمال والحرمان بنظافة السجن , بحيث ( القمل ) يطلق عليه (حيوان ) الكلب الذي يغزو مراتع الازبال سواء في اجسام السجناء أو في شعور رؤوسهم , أو في مراتع الزبالة أو في قشور البطاطا .
2 – السجناء كل شاغلهم وهواجسهم الاولى , في انتظار الافراج والعفو من رحمة رئيس الطغمة الدكتاتورية . سواء في تخفيض عقوبات الاعدام الى المؤبد , او مكرمة الافراج , سواء كان السجين قاتلاً او سياسياً .
3 – التعذيب النفسي لدى السجناء يخلق حالات الخيبة والاحباط . أو قد تؤدي الى حالات ممارسة العنف بين السجناء . كما في قصة ( الطعنة الغامضة )
4 – الحلم بالحرية في خيالات التي تأخذهم خارج اسوار السجن . ان يحلموا ان تنزل عليهم ( باصات ) تنقلهم الى اهلهم وبيوتهم , مثل قصة ( باصات ابو غريب ) التي حملت عنوان المجموعة .
قال انويا لرفيقه في السجن ( سمير ) بما يدور في خياله من حلم في زيارة البيت والاهل , والتمتع بالصباح القيمر والشاي المهيل والخبز الحار . آه يا أم داؤود آخ . نهض سمير الحلاوي , واخذ بالصياح والصراخ ( أصعد أخي . . أستعجل . نفر واحد , بغداد . بغداد ) او الحلم في انتظار مكرمة الافراج, مثل هذا القاتل المفتول العضلات الذي يدعي البطولات , ويضغط على كاتب مجموعة ( باصات أبو غريب ) ان يدون بطولاته في قصة او في قصص , وهو الذي قتل حارس سوق الذهب , وضرب بالمطرقة صاحب محل الصياغة . يأمل ان يخرج من السجن مرفوع الرأس , ويذهب الى سبائك الذهب التي سرقها ودفنها تحت التراب , ليبني بيتاً في الموصل ويعيش عيشة الملوك . كما دون في سرد ( باصات أبو غريب )
5 – العقاب الجماعي : دوافع اليأس والاحباط تخلق المشاجرات والمطاحنات , حتى استعمال العنف العدواني , مثل قصة ( الطعنة الغامضة ) . حدث عراك بالسكاكين بين اثنين من السجناء , طعن احدهما الاخر , احدهما نقل الى المستشفى في حالة خطيرة , والاخر اختفى بين السجناء . فجمعهم السجان في ساحة السجن تحت المطر والبرد ساعات طويلة , والسجان يتطلع بشراهة وعدوانية حتى يخرج القاتل من صفوفهم . واخيراً لم يتحمل القاتل جراح ضربة السكين , فكشف عن ملابسه الداخلية ملطخة ببقع الدم الكبيرة وتقدم الى السجان .
6 – خيبة بالحرية في قصة ( حدث ذات مرة في الممر ) حضر السجناء وقرأ الاسماء التي يجب ان تجهز نفسها للافراج , واخذهم الى الممر الطويل الذي يفضي الى باب السجن الى باب الحرية , وطلب منهم الانتظار , وانتظروا ساعات , لكن خاب أملهم بالحرية , فرجعوا تلوكهم الخيبة والاحباط .
7 – شهية الجوع : في قصة ( صندوق بنيامين ) ورث الصندوق من مريض في السجن ونقل الى جهة مجهولة وضاعت اخباره , كان لا يتحرك إلا والصندوق معه , وكانت فرحة ( بنيامين ) كبيرة في منحة الصندوق , وعندما فتح الصندوق وجد في داخله ( علبه من مسحوق الغسيل ) وكان ( بنيامين ) يستلم نصف راتبه العسكري , ويذهب الى حانوت السجن , ويشتري بالراتب كله معلبات اللحوم الهولندية , ينهشها في وجبة واحدة . ويتنفس الصعداء مرة واحدة كل شهر .
8 – الدمعة العصية : في قصة ( انتظار الابوذية ) كان ( دعير ) المطرب الريفي الذي يصدح كل يوم بمواويل الجنوبية . وحين سمع بخبر موت طفله الوحيد ( حميد ) بسبب اهمال زوجته , التي انشغلت بمطاردة الفأر , وسقط ابنها في بالوعة الدار . اصابه الوجوم وخرس , ولم تسقط دمعة واحدة على طفله الوحيد . واثار لغط كبير بين السجناء لحالته الغريبة . بأنه لم يبك ِ على أبنه .
( – اتركوه أرجوكم حالياً … وقعت على رأسه المصيبة … النواح حرام
– آمنا بالله أخي , لكن البكاء على الميت العزيز ضروري جداً .
– سجين آخر . ساعدوه يا جماعة الخير البكاء بركة ) .
ولكن تراكم الالم والوجع . انفجر بالبكاء
ان المجموعة القصصية ( باصات أبو غريب ) تمثل محاولات جادة في التناول والطرح بتجربة السجن والعذاب النفسي , وهم داخل المنفى الصغير . أتمنى ان يواصل مشروعه الادبي بأدب السجون . الذي يضيف الى المكتبة العراقية , طعم مختلف في الادب الروائي والقصصي لادب السجون .