لم يعد السؤال، كيف قتل الصحفي جمال خاشجقي ومَن قتله، وإنما السؤال أين جثته؟ والقضية الإخرى التي تجري حولها الصراع ، بين أهل الضمير: ويتمثلون في الإعلام الحر مثل قناة (ب ب سي) البريطانية، و(سي سي ن) الأمريكية، وقناة (الجزيرة) القطرية، ومعهم أكبر الصحف العالمية مثل “واشنطن بوست” و“نيويورك تايمز” الرأي العام العالمي، منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات التشريعية الغربية مثل الكونغرس الأمريكي ومجلس العموم البريطاني، والأحزاب اليسارية في أوروبا.
ومن الجهة الأخرى أهل الدنانير: ويتمثل هؤلاء بأصحاب الشركات المتعددة الجنسية والبنوك، وحكومات دول العالم التي تربطها مصالح مالية وأمنية وسياسية ضخمة مع الجانب السعودي، الذي قام بقتل الصحفي المغدور في القنصلية السعودية بإسطنبول. هذا إضافة إلى خصوم وأعداء السعودية: مثل إيران وقطر وتركيا.
أهل الضمير يسعون وبكل قوة، للإبقاء على قضية خاشقجي حية، ويطالبون بكشف كل الحقائق التي بحوزة تركيا وأمريكا، ويضغطون لتقديم المسؤولين عن الجريمة للمحاكمة، لينالوا جزاءهم العادل، ومن ضمنهم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، المسؤول الأول المفترض عن جريمة إغتيال خاشجقي المروعة، والإطاحة به نهائيآ.
وفي هذا الإطار، صرح السيناتوران الجمهوريان ماركو روبي، والمُرشح الأمريكي السابق للرِئاسة، وليندسي غراهام، علاوةً على 22 مشرِعآ، طالبوا بتفعيل مادة في الدستور الأمريكي، تجيز بفرض عقوبات على الدول الأجنبية التي تنتهك حقوق الإنسان في بلادها. وحقآ كان لافتآ
الهجوم الشرِس الذي شنه السيناتور غراهام ضد ولي العهد السعودي الأمير بن سلمان، حيث وصفه: بالرجل المدمر، وإتهمه بشكلٍ مباشر، بأنه هو مَن أعطى الأوامر بقتل الصحفي جمال،
وأضاف أن السلطات السعودية تتعامل مع “القيم الأمريكية“ بازدراء، ولا بد لهذا الرجل محمد بن سلمان، أن يرحل لأنه شخصية مؤذية، ولا يمكِن له أن يكون قائدآ عالميآ على الساحة الدولية.
جاء كلامه هذا في مقابلة تلفزيونية مع محطة “فوكس نيوز“ المؤيِدة للرئيس ترامب والمفضلة لديه.
أما زميله السيناتور ماركو روبيو، فكان أكثر شراسة في تعامله مع محمد بن سلمان وحليفه الرئيس ترامب، ورفض تقديم صفقات الأسلحة على مبادئ حقوق الإنسان وقال: ” لا يُوجد مبلغ في العالم يمكن أن يشتري مصداقيّتنا حول حقوق الإنسان، وطريقة تعامل الدول معنا“.
لمن لا يعرف هاذان النائبان يمثلان الدولة الأمريكية العميقة، والجناح المعارِض لإدارة ترامب للأزمة مِن خلال ابتزاز الحكومة السعودية، وإستغلال حالة الضعف التي تعيشها حاليآ للحصول على أكبرِ قدر مِن الأموال، سواء على شكل إستثمارات، أو صفقات أسلحة، ويجِدان دعمآ متزايِدآ مِن قبل زملائهما في مجلسي الشيوخ والنواب.
برأي هذه الجريمة لن تختفي مِن دائرة الاهتمام الدولي، ولا الجمعية العامة للأُمم المتحدة، كونها
تتمتع بدعم أهم قنواة الإعلام وتبني صحيفة “الوشطن بوست” الأمريكية لها، كون جمال خاشقجي كان أحد كتابها. وكما هو معروف هي الجريدة التي كشفت فضيحة “وترغيت“، وأطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون، ولا أعتقد أنها ستتخلى عن قضية خاشجقي قبل معرفة القاتل وكشف كل أسرار الجريمة وتقديم القائمين عنها للعدالة.
أهل الدنانير من جهتهم يسعون لإيجاد مخرج يحافظ على ماء الوجه للنظام السعودي، أي تبرئة ولي العهد من دماء خاشجقي، والمحافظة على مصالحهم مع هذا النظام الفاسد والمستبد. والمخرج الثاني، هو التضحية بولي العهد الحالي وإحلال شقيقه خالد بن سلمان سفير السعودية لدى أمريكا محله، نظرآ لصعوبة إقناع الرأي العام العالمي ببرأة محمد بن سلمان من جريمة القتل.
السؤال هنا: هل ستقبل القيادة السعودية الحالية بهكذا مخرج، وهل سينضم تركيا إلى ذلك ومقابل ماذا؟
شخصيآ لا أظن ذلك، أبعد ما يمكن أن يذهب إليه النظام السعودي تحت ضغط الإعلام والوثائق التي بحوزة تركيا، هو أن يحمل القضية كلها لبعض المسؤولين والضباط في جهاز المخابرات التي تؤتمر بأوامر محمد سلمان. ولا أظن سيقبل العاهل السعودي سلمان التضحية بنجله ولي العهد محمد، بسبب تورطه بمقتل وتقطيع جثة الإعلامي جمال خاشقجي في إسطنبول. لأن خطوة من هذا النوع، ستؤدي إلى زعزعة الحكم السلماني و العائلة المالكة بشكلٍ خاص، وداخل المملكة بشكل عام.
ثانيآ العائلة الحاكمة السعوديّة على قناعة، بأن الاستثمارات الهائلة، التي تستثمرها المملكة في جميع أرجاء العالم، وبشكلٍ خاص في أمريكا، هي بمثابة بوليصة التأمين لها ولحكمها ضد أي العقوبات والمحاكمات.
ولهذا شاهدنا عدم إكتراث سعودي بما يقوله العالم عن قضية خاشقجي، وأمر سلمان بتشكيل لجنة سعودية برئاسة خالد الفيصل أمير مكة للتحقيق في الجريمة، ومن هنا يتضح لنا أن العملية كلها شكلية بشكلية، والهدف منها هو تمييع القضية،لا أكثر، والتهرب من المسؤولية القانونية والسياسية والأخلاقية عن مقتل السيد خاشجقي في القنصلية السعودية. ولا أظن المسعى الدولي بقيادة فرنسا وبريطانيا والمانيا، سينجح في تبديل ولي العهد الحالي بشقيقه الأصغر خالد. وإذا وجدت الحكومة السعودية نفسها محشورة في الزاوية، فإنها ستلجأ إلى إسلوب البلطجة التي يمارسها ترامب معها، وستقوم بكشف المستور وفضحه بالمستندات، التي تملكها عن الصفقات المشبوه التي عقدتها معه ومع صهره كوشنير، وهذا يخيف دونالد ترامب كثيرآ، وسيصبح مستقبله الرئاسي في مهب الريح ولا ننسى أن خصومه في الداخل لا يحصون. ولدى السعودية الكثير من الأوراق لتضغط بها على الإدارة الأمريكية الحالية.
وأكثر ما يقلق الرئيس ترامب في العلاقة مع السعودية حاليآ ثلاثة قضايا هما:
الأولى: صفقة بيع الأسلحة للسعوديّة بقيمة 110 مليار دولار.
الثانية: السعودية تعتبر بمثابة حجر الأساس في العقوبات الأمريكيّة التي ستفرض على إيران في مطلع الشهر القادم تشرين الثاني، ووفق الإتفاق الأمريكي– السعودي، هذه الأخيرة ستقوم بسد كل النقص في تسويق النفط، بعد منع إيران من تصدير نفطها مطلع الشهر الحالي بهدف تهدئة أسواق النفط العالمية، وإستقرار أسعاره التي إرتفعت كثيرآ في الأشهر الثلاثة الأخيرة.
الثالثة: هو حاجة أمريكا للسعودية في تمرير “صفقة القرن” الخاصة بالشأن الفلسطيني، لأن من دون الغطاء السعودي “الإسلامي” لها، لا تستطيع تمريرها.
وختامآ، برأي حيتان المال والأعمال وحكومات الدول سيقومون بلفلفة القضية، وتلفيقها لبعض المسؤولين الأمنيين السعوديين في جهاز المخابرات، رغم معرفتهم بهوية القاتل، والمسؤول الأول عن الجريمة بالإسم، وسيستمرون في علاقتهم مع العائلة السعودية، رغم كل دموع التماسيح التي يزرفونها على الضحية. إن الذي يحكم العالم وعلاقات الدول هي المصالح الإقتصادية والسياسية، ولا مكان للمشاعر وحياة الناس فيها.
19 – 10 – 2018