ضمن معادلات سياسية ما بين إدارة دونالد ترمب والإدارة القادمة، ظهرت نتائج المنهجية العنصرية المطمورة منذ عقود في بعض زوايا المجتمع الأمريكي، الظاهرة التي ستؤدي إلى صراعات خلف الكواليس، ولأجل ألا تغوص في مستنقع المحاكم وفتح الملفات ركزت الأولى على حل إشكاليات يتم الحديث عن بعض شخصياتها في الإعلام حتى الأن بشكل خجول؛ ومنها عملية الفساد المالي المتورط فيه صهر الرئيس، جيرد كوشنير.
نقلت الإعلام عن وكالة بلومبرغ، أنه للضغط على قطر، والحصول على الصفقة التجارية الضخمة لأحدى شركات عائلته، التي سنأتي على ذكرها، ساهم ككبير مستشاري ترمب، في قرار مقاطعة قطر من قبل السعودية والإمارات والبحرين ومصر؛ في الأعوام السابقة. وهو ما أكده وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون، قائلا إن القرار تم مناقشته في عشاء خاص حضره كوشنير وكذلك ستيف بانون (مستشار سابق لترامب) وقادة من السعودية والإمارات، وذلك بغياب تيلرسون الذي كان يعارض المخطط. وللتعتيم على هذه الصفحة خلف ملف العنصرية الفاضح؛ المتوقع أن يتم البحث فيهم أمام المحاكم مستقبلا، حاول كوشنير قبل انتهاء مدة إدارته أن يصبح عراب المصالحة بين دول الخليج.
القضية فضحت في التاسع من الشهر السابع عام 2020م عندما فتح الملف مشرعو الحزب الديمقراطي في الكونغرس، لجنتي المالية والشؤون الخارجية، وتم التحقيق في تورط عائلة كوشنير بصفقة المليار دولار مع دولة قطر. بعدما قاموا بالاطلاع على وثائق عقد إيجار طويل الأمد، لبرج المكاتب العائد لعائلة كوشنير عام 2018م (يعود ريعه لشركة إدارة بروك فيلد للأصول المالية).
والإشكالية هي أن كوشنير حاول لإنقاذ ناطحة السحاب في نيويورك، التي يشترك فيها مع قطر، من الإفلاس، وذلك وفقا لصحيفة فايننشال تايمز الأمريكية، والتي أشتروها عام 2007م مقابل مليار و800 مليون دولار، تحتوي على شقق ومكاتب، ومحال تجارية، وإلى عام 2017م لم تستثمر منها سوى 30%، أي أنها كانت في وضع مالي كارثي إلى أن أصبح دونالد ترمب رئيسا لأمريكا، وقلد كوشنير منصب المستشار الأول عن ملف الشرق الأوسط، فطلب من صندوق الثروة القطرية استثمار البناية، بمليار دولار، الطلب الذي تم رفضه سابقاً، حينها لم يكن سوى تاجر عقارات دولي.
مع بروز الخلافات الخليجية، استغلها كوشنير وهو في البيت الأبيض، ساهم في تصعيد الموقف السعودي على عزل قطر، وذلك في عام 2017م بعد اجتماع واشنطن، عندما التقى كوشنير مع ممثلين عن الإمارات والسعودية، لمناقشة حصار قطر، وبعد سنة تلقى كوشنير خطة من دولة قطر لإنقاذ البرج بقيمة مليار و800 مليون دولار، بإيجار الطوابق السفلية من البناية لمدة قرن من الزمن، ودفع المبلغ مقدما، تلتها بعد شهور تخفيف القيود على قطر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت مقدمة ما دفع بكوشنير في العمل المصالحة، إلى أن تم عقد مؤتمر العلا، وحيث المصالحة بين دول الخليج.
تدرج اليوم بين المحللين السياسيين، على أن قضية الفساد هذه أخفيت وراء عمليات التطبيع التي يعتبر كوشنير عرابها، وحاول أن ينهي الفترة الأخيرة من إدارة ترمب بصفقات مهمة للإستراتيجية الأمريكية، قبل أن تستلم الإدارة الجديدة البيت الأبيض، والتي على الأغلب ستكون هذه القضايا من ضمن أجنداتها الرئيسة في استراتيجيتها الشرق الأوسطية، كما وأن التهاء الإدارتين بالمشاكل الانتخابية الداخلية، سهلت له مهماته الخارجية هذه، فقام بالضغط على دول الخليج للتصالح، وكان جيرد كوشنير من بين الحاضرين في المؤتمر الذي عقد في السعودية، مدينة العلا.
هذا الواقع تعكس أبعاد أوسع من مجرد عملية فساد، أو مصالحة تمت، والتي يأمل كوشنير التغطية على ملفه خلف القضايا الكبرى التي تتضمنها استراتيجية تشمل الشرق الأوسط، وإشكالية دولة فلسطين، والتطبيع، وقضية إيران، وغيرها، والقضية الكوردية جزء منها، وتقف أمريكا وروسيا على الأخيرة كإحدى الحلقات المهمة إن كانت ضمن مخططات مستقبل سوريا أو مستقبل الشرق الأوسط القادم، فالمعادلة التي تمت في مؤتمر العلا، لها تشعباتها تمتد إلى حيث نشاطات الإدارة الأمريكية القادمة وحواراتها المستقبلية مع إيران، ودور الأخيرة في منطقة الخليج، واليمن ولبنان وسوريا، وتأثيرها على أمن السعودية كمنبع ضخم للثروة النفطية قبل الديمقراطية في إسرائيل.
ففي أبعاد حقوق شعوب المنطقة، والديمقراطية، يتم التوقف على سلامة إسرائيل كأفضل دولة ديمقراطية في المنطقة، بغض النظر على تجاوزاتها مع الفلسطينيين، ويتم التداول بين المحليين والاستراتيجيين السياسيين على أن الدولة الكوردية القادمة سوف لن تكون أقل ديمقراطية من إسرائيل، وهو ما يحض أوروبا قبل أمريكا في أروقتها الدبلوماسية على إثارة مستقبل الشعب الكوردي، في الدول الأربع، كما وكثيرا ما يتم الحوار عليه ضمن الصالات المغلقة، تحسبا من إثارة المشاكل مع دولة كتركيا وغيرها، والتي قد تتعرض مصالحهم الاقتصادية إلى إشكاليات، وبالتالي تستفيد منها روسيا والصين، وعلى أثر هذه الحوارات ظهرت بطرق غير رسمية خريطة الشرق الأوسط الجديد، وتكررت نشر المقالات التي تبحث في احتماليات ظهور تعديلات على الجغرافيات السياسية في المنطقة، وآخرها ما أثارته موقع روسيا اليوم؛ المستندة على دراسات سابقة، حتى ولو نظرنا إليها كمقالة عابرة، لكن لها خلفية سياسية، خاصة عندما نشرت على موقع رسمي خاضع للدولة.
فكوشنير لم يثير قضية عابرة وانتهى بمؤتمر، بل كان يتحرك ضمن استراتيجية إمبراطورية، ليست محصورة في إدارة ترمب، ولن تقف عند حكومة جو بايدن، كمسيرة التطبيع المسجل باسمه، والتي يدركها خبراء الإستراتيجية الأمريكية، على أنها نتيجة مؤتمرات جرت قبل عقود بين رؤساء إسرائيل وفلسطين والعرب، في كامب ديفيد، وهذه ليست سوى بعض من ثمارها.
وما نود قوله أن قادم كوردستان، مثل غيرها من الأبعاد الإستراتيجية، زرعت منذ عقود طويلة، وحاولت معظم الحكومات المحتلة لكوردستان طمسها، فما فعلته حكومة تانسو تشيلر عندما شكلت قوات الكوماندوس في كوردستان الشمالية لم تكن فقط لمحاربة حزب العمال الكوردستاني، بل لمواجهة مستقبل الأمة الكوردية ولمراحل طويلة، ومثلها يوم اغتالت حكومة أئمة ولاية الفقيه الدكتور (عبد الرحمن قاسملو ورفاق دربه) كانت تعلم أن الأمة الكوردية ستولد العشرات من أمثالهم، لكنهم حاولوا عرقلة المسيرة لبعض الوقت على أمل إيجاد سبل، مع الدول الإقليمية الأخرى، للقضاء على ما تم زرعه في بعض المحافل الدولية.
وعلى أثرها جرت مؤتمرات بينهم وخططت فيها مؤامرات للقضاء على المستقبل الكوردستاني (كتبنا عن إحداها قبل سنوات) الذي بدأ من يوم ظهور الاعتراف الدولي بفيدرالية الإقليم الجنوبي ضمن العراق، وستستمر، وللتذكير؛ المؤتمر الذي تم عقده من قبل (المجلس الوطني الكوردستاني- سوريا) برئاسة شيركو عباس، ضمن قاعة الكونغرس الأمريكي ولمرتين متتاليتين، في عام 2006م قبل ثورات الشرق الفاشلة بسنوات، وتلت المؤتمرين بعد شهور قليلة، عقد المؤتمر العام للمجلس في بلجيكا، وخطط، وبطلب، أن يكون يومه الأخير، وإلقاء البيان الختامي، في قاعة البرلمان الأوروبي، وهو ما لم يفهمه أحزابنا الكوردية رغم كل الجهود المبذولة لتوضيحها لهم. ولا زالوا لا يدركوا أن كل هذا ليس سوى جزء من المخطط الذي يعمل عليه القوى الكبرى الديمقراطية، أمريكا وأوروبا، لإحداث تغيير في جغرافية المنطقة، وبالتأكيد ستتخللها مطبات ومصاعب، وانكسارات، بعضها تفشل، نتيجة ضحالة واقعنا السياسي؛ والوعي العام لدى مجتمعنا؛ وحراكنا الثقافي والحزبي.
علينا أن ندرك أن القوى المحتلة لكوردستان منتبهة إلى ما يجري خلف الكواليس وعلى الساحة الدولية، ونحن كحراك كوردستاني لا زلنا نمارس الحزبية بين بعضنا، ونغوص في تهم تخوين البعض، وإلغاء الأخر، والأغرب، أن أغلبية حراكنا الحزبي، وكتابنا، وحراكنا الثقافي، ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، يبدعون في تصعيد الخلافات الداخلية، ومن النادر إيجاد نشاط مثمر لمواجهة الأنظمة الشمولية المعادية للتغيرات في المنطقة وبالتالي للقضية الكوردية.
نشاطات معظمنا دون سوية ما يحدث اليوم في سوريا والمنطقة الكوردية، لأن أغلبيتنا، ومن بينهم أحزابنا، لا يدركون أن ما يجري ليس سوى صراع بين معارضي الإستراتيجية التي أدت إلى عقد مؤتمر العلا ومخططيها، وداعمي التغييرات التي يجب أن تحدث في جغرافية المنطقة، والقوى المؤيدة لها، والتي يجب أن تكون القوى الكوردية ضمنها، فيا أخوتي، حان لنا أن نتناسا خلافاتنا لبعض من الزمن.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
7/1/2021م