رحل المناضل الشيوعي بهاء الدين نوري ـ أبو سلام ـ باسم، في 2020.12.1، عن عمر ناهز الثالثة والتسعين، ونعاه المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي (عاش سنوات حافلة بالعطاء في صفوف حزبنا، وتبوأ مواقع قيادية فيه لفترات طويلة وحتى اوائل الثمانينات كافح أبو سلام ضد الأنظمة الدكتاتورية والرجعية، ومن اجل خير الشعب العراقي وحريته واستقلال العراق وتقدمه، وفِي سبيل نيل الشعب الكردي حقوقه القومية. وتعرض جراء ذلك الى السجن والاعتقال والمعاناة في المنافي)، وكتب عنه اصدقاؤه ورفاقه، متأثرين لرحيله أثر أصابته بفايروس الكورونا وهو الذي عجزت عن قهره أعتى الأنظمة الديكتاتورية.
عرفت هذا الشيوعي المخضرم في النضال حتى قبل ان ألتقيه. كنا طلابا في جامعة البصرة أواسط سبعينات القرن الماضي، حين صدر له (قرية في سفح جبل) وثم (أيام صعبة) وفيهما تحدث عن نشأته ونشاطه أيام النضال السري في العهد الملكي وما تبعه. أيامها عشت ومجموعة من الأصدقاء والزملاء تجربة لم تتكرر، إذ طالعنا كتاب (أيام صعبة) في طقس قراءة جماعية، فخضع الكتاب على أثرها لنقاشات بين معجب ومعارض. من جانبي أثار (مجيد)، ــ الاسم المستعار الذي اختاره أبو سلام لنفسه في رواية ذكرياته ــ الكثير من إعجابي، إذ كنت اراه نموذجا للمناضل المتفاني في سبيل مبادئه والمستعد للتضحية بكل ما يملك وحتى لو تطلب بذل حياته لأجل ذلك. وكان لبعض الأصدقاء مآخذ عل الكتاب والسيرة عموما، كون مجيد عاش وفق مبدأ (وأطلق ساقيه للريح) كلما تعرض لمحاولة إعتقال، وبدا للبعض أن أبو سلام مأخوذا بالجملة اذ تكررت مرارا. وكان بعض الأصدقاء يعلقون بسخرية على ذلك فقط لإغاظتي بحكم اعجابي المعلن لحد تقديس شخصية مجيد. شاءت التقلبات السياسية في العراق ان أعيش ظروف العمل السري والاختفاء لأكثر من عام ونصف في نهاية السبعينات، وشاركني العديد من الرفاق والأصدقاء إياهم، فوجدنا أنفسنا نستعيد تجربة مجيد وبعض من دروسها، وإذ واجهتنا مواقف للإعتقال من قبل جلاوزة وضباع البعث، لم ينفعنا سوى حل مجيد التأريخي، في… إطلاق السيقان للريح!
حين وصلت اليمن الديمقراطي مطلع عام 1980، قادما من الكويت، وجدت أن من سبقنا من الشيوعيين العراقيين واصدقائهم، بادروا للعمل في أبعد المدن والقصبات اليمنية كمهندسين وأطباء ومعلمين، مواجهين ظروفا مناخية وحياتية صعبة، فكان نصيبي ومجموعة باهرة من الشباب العمل معلمين في قضاء بيحان، وهي واحة صحراوية، في محافظة شبوة على أطراف الربع الخالي. هناك كان لابد من إختيار أسم مستعار ثلاثي، فكان ان أخترت أسم (مجيد) كأسم أول، تيمنا ببطلي من (أيام صعبة)، ولكن إيقاع الاسم بدا ثقيلا للأخوة اليمنيين، فتحول عندهم الى (مجدي)، فأصبحت (مجدي وافي السعد) فعشت بهذا الاسم لمدة ثلاث سنوات، عملت ودرست وعشقت، ومنحت بهذا الاسم جواز سفر يمني رسمي، فُقد لاحقا ضمن أشياء عزيزة فقدتها في أيام الكفاح المسلح في كردستان، التي وصلتها في آيار 1982.
في كردستان، قضيت أسابيعا قليلة في مقر ناوزنك، ونسبت أولا للعمل في هيئة تابعة للمجلس العسكري المركزي للأنصار (معم) حملت أسم (هيئة الحركات) ـ فيما يشبه عمل الأركان ـ وفي الصيف نسبت الى مكتب الفوج التاسع للأنصار الذي يقوده النصير المخضرم نصر الدين هورامي، آمرا الفوج. مرت شهور قليلة وأعلن إعادة تنظيم التشكيلات الانصارية، باستحداث تشكيلة جديدة لوحدات الأنصار السياسية والعسكرية، حيث شكلت ثلاث قواطع (بمثابة ألوية أو فرق)، كتشكيلات عسكرية وسياسية تحت قيادة (معم)، فكان هناك قاطع أربيل وقاطع بهدينان وقاطع السليمانية وكركوك، وأصبح الفوج التاسع للأنصار، أحد الأفواج التابعة لقاطع السيلمانية وكركوك، وعين المكتب العسكري المركزي الرفيق بهاء الدين نوري ـ أبو سلام، مسؤولا أول للقاطع، يعاونه للشؤون السياسية الرفيق عدنان عباس ــ أبو تانيا والرفاق إبراهيم صوفي ـ أبو تارا للشؤون الإدارية و عبد الله ملا فرج ــ ملا علي للشؤون العسكرية. وحتى يتم إختيار وترتيب مكان لقيادة القاطع، حل رفاق قيادة القاطع كضيوف لفترة مؤقتة على مقر الفوج التاسع في مقره المؤقت قريبا من قرية (دولكان) ـ وهي قرية حدودية في وادي آلان الإيرانية، حيث سمح فلاح إيراني مناصر للثوار باستخدام جزء من ارضه القريبة من النبع لبناء سقائف ونصب خيام، ومنح الانصار غرفة طينية أصبحت في الشتاء مكان عمل مكتب الفوج، وأصبحت لفترة مكان نومي، فالرفيق نصر الدين هورامي عند تواجده في المقر يبيت عادة عند عائلته التي تسكن في بيت داخل قرية دولكان التي تبعد مسافة مسير ربع ساعة، حيث تقيم بعض عوائل الكوادر الحزبية من ما يعرف بالتنظيم المدني.
في هذه الغرفة، شاركني الرفيق أبو سلام المكان، حين وصل مقر الفوج التاسع، حيث ارسلت مجموعة خاصة بقيادة ملا علي للبحث عن مقر مناسب للقاطع في ريف السليمانية، فكان الاختيار لاحقا في قرية حاجي مامند.
ها هو القدر يجمعني، مع مجيد، بطلي المحبوب في مكان واحد وتحت سقف واحد!
كانت الغرفة صغيرة، وأمتد فراشينا على الأرض، متوازيين بجانب الجدران، وعند طرف كل فراش وضع صندوق عتاد رصاص بنادق نستخدمه كطاولة للكتابة ومكان لحفظ القرطاسية ومستلزمات اعداد البريد الانصاري والحزبي.
كان أبو سلام نظيفا، محبا للأناقة رغم قسوة الحياة الانصارية. ويحتفظ بعدة باروكات شعر يرتديها حسب المناسبات، في بعض المرات يحرص على ظهور خصلات من (شعر رأسه) من تحت الجمداني ـ غطاء الرأس الكردي ـ، أو طاقية رأسه، وهكذا حصل عندما زار مقرنا عبد الرحمن قاسملوا، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، الذي يقيم ليس بعيدا، في زيارة خاصة، فأرتدى أبو سلام حلة نظيفة وأعتنى بنفسه ليبدو بصحة جيدة ومزاجا طيبا، وطلب من المحيطين حوله ان يفعلوا ذلك، إذ كان يعتقد أن قاسلمو سيتحدث يوما عن ظروف هذا اللقاء ولن ينسى مظهر من قابلهم لو بدا مزريا.
كان أبو سلام محبا لترتيب الأوراق والمحاضر حسب الموضوعات أو الاشهر في مغلفات واضابير يصنعها بنفسه من الورق العادي. وعند الحاجة يستل أي ورقة أو وثيقة بسرعة دون ان يصرف وقتا طويلا في البحث عنها، وحاولت تقليده في ذلك. وكانت له ذاكرة جيدة، ومحب للقراءة، وكانت رزم الكتب دائما ضمن متاعه عند توجهه لأي مكان.
تعودنا في حياة الأنصار ان نصحو مبكرين، قبل الديكة، ولم يشذ أبو سلام عن بقية المقاتلين في النهوض المبكر، وكان يحرص أن يبدو نشطا ويبذل جهدا في إخفاء أوجاعه وعوارض أمراضه بحكم عمره. نجح الأنصار بمد انبوب مطاطي، يجلب الماء من النبع العذب، الى قرب المطبخ في المقر، يجري طوال اليوم، للشرب والاحتياجات اليومية. كنت وأبو سلام بعد ان (نريق المائية) ــ كان معجبا بهذا التعبير ويضحك أحيانا حين يقوله ــ نغتسل هناك، ونتناوب في أمساك طرف الانبوب لبعضنا البعض. يوما، وبعد ان أكمل تنظيف أسنانه ووجهه ـ حيث يحتفظ بفرشة أسنان دائما ـ، أمسك لي بطرف الانبوب، وبعد ان اغتسلت فتحت كفي يدي وكورتهما كقدح لأعب وأرتوي من الماء العذب، ورفعت رأسي وأطلقت صيحه إنتشاء:
ـ يالله ما أعذبه؟
ضحك، وسألني:
ـ أبو الفوز، هل يوجد شيء أعذب من الماء؟
لا أراديا قلت:
ـ المرأة.
فأطلق ضحكة مدوية معجبا بجوابي ورشني بالماء من طرف الانبوب على وجهي وصدري وبلل لي ملابسي في ذلك الصباح البارد وسط إستغراب الأنصار من حولنا. كان واحدا من الصباحات الرائقة، وفي الليلة ذاتها، لاحظت انه ظل صامتا، يمسك بيده بدفتر سميك بغلاف جلدي. قلب صفحاته طويلا، فلم اقاطعه او أساله. وبعد ساعة مد يده بالدفتر نحوي، وطلب مني ان اقرأ فقط ما اراه أمامي وعدم تقليب الصفحات. وعرفت ان هذا دفتره الخاص حيث يسجل مذكراته وبعض أفكاره الخاصة. في تلك الصفحتين، بقلم أسود جاف، باللغة العربية بخط أقرب للخط الفارسي بامتدادات الحروف، وبدا لي انه نقل عن مسودة إذ كان النص بدون خطأ او شطب، كانت هناك رسالة حب وشوق طويلة، موجهة للشهيدة عايدة ياسين (أم علي)، يبثها لوعته وأرق مشاعره. وعرفت أن هناك عدة رسائل تشبهها، كتبها في أوقات مختلفة، ولا أعرف مصير هذه الدفتر وهذه الرسائل، هل تم نشرها؟ أتمنى ان لا يكون فقدها ضمن الأشياء التي فقدت وحزن عليها حين هرب البغل لاحقا في ليلة شتوية، وكان مخصصا لمتاع الرفيق أبو سلام، وقيل انه أسقط حمولته في مكان مجهول، ولم يعثروا عليها، ووقتها انتشرت بين الأنصار تعليقات ساخرة عن باروكات شعر أبو سلام وكيف صادرتها المخابرات الصدامية، وان بعضها ظهر في مسلسل تلفزيوني عراقي وغير ذلك!
ساعدتني كثيرا، هذه الفترة الزمنية، القصيرة، من العيش المشترك، مع الرفيق أبو سلام ــ مجيد، لكسر تلك الهالة المقدسة التي حملها جيلنا عن الرفاق من قادة الحزب، الذين لم نقابلهم ونسمع عنهم فقط القصص، التي تختلط فيها الحقيقة بالمبالغات المصنوعة عنهم، فتحول بعضهم عندنا الى اساطير، فتربينا وتعلمنا ان نتعامل معهم كشخصيات مقدسة، فوق النقد والسخرية. كان بطلي المحبوب مجيد ينام معي في نفس الغرفة، يشاركني كل التفاصيل والافعال الإنسانية اليومية، فتوفرت لي فرصة لمراقبته كإنسان، ومتابعة تلك الشؤون الصغيرة الإنسانية، التي يملكها مثل غيره من البشر. كنت شاهدا على بعض سجالاته ونقاشاته مع رفاق أجدهم يملكون الحجة والرأي الأفضل والاصوب منه في مواقف عديدة. ودون ان يدري، قدم لي خدمة لا يمكن إلا شكره عليها، إذ يوما بعد آخر اختفت تلك الهالة من حول (مجيد) وغيره، تلك الهالة التي كنت اعامله على أساسها طيلة السنين الماضية. ويبدو انه لاحظ ذلك جيدا فهو على قدر عال من الذكاء والحصافة، فلا غبار على انه نال بجدارة لقب (الثعلب) من قبل القائد الكردي مصطفى البارزاني، حيث قيل انه كان لا يطيقه، فنعته به حين رفض في ستينات القرن الماضي ان يكون ممثلا أمامه للحزب الشيوعي.
لم أقلل أدبي مع أبو سلام يوما، وهو بالمثل عاملني بكل إحترام، لكن لم تكن صعوبة أمامنا لنكتشف كلانا بأننا ليس على وفاق فكري، إذ كنا نختلف حول قضايا عديدة، وفي طريقة إدارة الأمور في العمل الانصاري. وعليّ الاعتراف بكوني لم أكن أيامها بالمرونة المطلوبة في الحوار، كنت شابا مندفعا، يتحدث ويتصرف تحت تأثير الحماس ونصوص تعلمناها في كتيبات النضال والخلايا الحزبية وتنقصنا الكثير من الخبرة في الحياة والعمل السياسي. وكان مؤلما، حين أسانده بالرأي، عندما أجده على صواب في بعض الأمور، فكنت اشعر بانه يتعامل معي بحذر كبير، إذ في داخله يبدو كان يعتبرني من (جماعة أبو تانيا ـ عدنان عباس)، وكانت بدأت تظهر للعلن بوادر الخلاف بين الرفيقين وهما اعضاء في اللجنة المركزية للحزب، في طريقة تعاملهما مع إدارة الأمور وعلاقتهما بقيادة الحزب. كان موقف أبو سلام متشددا في تسهيل مهام الرفاق المعنيين بالعمل في بناء التنظيم الحزبي داخل مدن الفرات الاوسط، التي كان أبو تانيا يعتبرها المهمة الأساسية، وكنت متحمسا لذلك، بل ان وجودي أساسا في الفوج التاسع جاء لأكون قريبا من هذه المجموعة تحسبا للمستقبل وكان أبو سلام يعرف بذلك.
كان أبو سلام، بشكل عام، يعمل ويخطط بصبر، فإذا كان لديه مكر وحيلة الثعلب فبالتأكيد لديه صبر وفن العنكبوت. يوما ونحن منغمسان في اوراقنا متقابلين في الغرفة الصغيرة، قال:( ما رأيك بشرب الشاي). تركت ما بيدي لأنهض لإعداده. فقال: (هات الاقداح النظيفة فقط). ولأتفاجأ بأنه نهارا ثبت أعلى السراج النفطي (اللالة) على الجدار الطيني مسامير طويلة كمسند ووضع عليها أبريق صغير، كان هناك لساعات، ليصنع لنا شايا على لهب السراج!
يوما تحدثنا عن كتابه (أيام صعبه)، وكنت أخبرته بقصة أعجابي واختياري لاسم مجيد، وساعتها سره ذلك كثيرا، ليلتها سألته عن (وأطلق ساقيه للريح)، فقال لي بشكل مفاجئ وبلغة لم أعهدها فيه من قبل، بكل مودة ولوعة:
ـ ليش رفيقي هل كان لدينا خيار آخر؟
واندهشت، لكوني أعرف الجواب مسبقا. أعرفه من يوم طاردني جلاوزة البعث الصدامي في شوارع البصرة وبغداد، ولم أنج منهم لولا (مبدأ مجيد ورد فعله) بإطلاق ساقيه للريح. لم تكن القوى متوازنة يوما بين المناضلين وأجهزة القمع البوليسية. وأنتبهت الى ان جيلنا الشاب بتأثير حماسه قد تجنى أحيانا، على الجيل الذي سبقنا الى ساحة الطراد في لعبة الجلاد والفريسة.
في كردستان، تسنى لنا أن نعرف بان الرفيق أبو سلام كان من ضمن الرفاق السبعة من أعضاء المكتب السياسي الذين عارضوا الثمانية الذين أيدوا عقد التحالف بين الشيوعي العراقي وحزب البعث، وعرفنا ان هذا من الأسباب التي جعلته في خلاف دائم مع ما كان يسميه أحيانا (جماعة عزيز محمد)، ولكننا لم نستوعب ايامها ان أحد يمكن ان يمس بقداسة سكرتير الحزب أبو سعود حتى لو كان مناضلا مثل باسم ـ بهاء الدين نوري. كان أبو سلام يشعر بقرارة نفسه كونه مغبونا كقيادي قاد الحزب في أحلك الظروف، بعد استشهاد الرفيق فهد مؤسس الحزب، وانه لولا (باسم ـ بهاء الدين نوري) لم يكن بمقدور الحزب ان يقف على رجليه ويعود نشاطه في الساحة السياسية. كان بهاء الدين نوري يعيش هاجس بأن باسم لم يمنح المساحة المشروعة والمناسبة في ادبيات الحزب كرفيق شغل موقع السكرتير مثله مثل فهد. وقبل مجيئة الى مقر دولكان، تحدث بشكل واضح عن ذلك في ندوة عامة عقدت في مقر بشت آشان، ربما يذكرها كثيرين من الاحياء الذين حضروها، إذ ليلتها كانت أحد النقاط التي شغلت السجالات التي اندلعت بين الرفاق: هل بهاء الدين نوري محق أم أنه يرسم لنفسه مساحة أكبر من حقه؟
من الأمور التي كانت مثار الخلاف بيننا، ودار حديث عنها في غرفتنا المشتركة، هو ما لمسته عند الرفيق أبو سلام، وما لاحظته عن البعض من قيادي الحزب الشيوعي للأسف، الذين كتبوا مذكراتهم، إلا وهو عند الحديث وتناول تجربة الحزب، الميل الى تحميل الاخرين مسؤولية ما حصل من أخطاء في مسيرة الحزب النضالية، دون الحديث عن مسؤوليتهم الشخصية في ذلك. ـــ للأمانة يتطلب القول، وجدت لاحقا ان الرفيق الراحل رحيم عجينة والرفيق العزيز جاسم الحلوائي، في مذكراتهم المنشورة، قد حاكموا أنفسهم قبل لوم الاخرين. ـــ في هذا الامر، في تلك الأيام المشتركة، لمست ان أبو سلام كان نرجسيا، بل وأحيانا نرجسي جدا في التعامل مع هذا الامر ويتحسس من أي نقد ورأي معارض، فهو يعتقد أنه مصيب دائما، وعدة مرات كان يحرج بعض الرفاق بالعودة لفتح نقاش ما من جديد أملا في تغيير وجهة نظرهم لصالحه. كنت أتابع تصرفات البعض، ممن يتصرفون معه، كبطانة ويتملقونه ويوافقوه ويستحسنون أرائه، حتى لو غيرها في نفس اليوم، وكان البعض من الرفاق يتصدى له بمبدئية عالية فكان لا يخفي انزعاجه منهم. يوما رويت مزحة عن أحد أنصار الفوج التاسع الابطال، من ذوي الشخصية الطريفة والمحبوبة، كان الانصار يمزحون معه وينعتوه: (مو قلناها) إذ كلما يحصل شأن ما، يتبين ان هذا الرفيق بقدرة القدير قد نبه له مسبقا وكأنه العرافة، وقال شيئا ما قبل شهور طويلة محذرا لكن للأسف لا أحد يسمع ويفهم ما يقول! وبعد ان رويت النكتة وكانت طازجة يومها وتخص شأنا إداريا في العمل الانصاري، اضفت من عندي: (ما أصعب التعامل مع أمثال هذا الرفيق). انزعج أبو سلام جدا ولم يضحك أو يعلق كعادته وفهمت بكوني ربما تجاوزت حدا ما مسه مباشرة، فقبل أيام وبحضوري أخبره الرفيق مام صالح ــ فخرالدين نجم الدين طالباني، صراحة بأن التعامل معه صعب جدا. فمثل بهاء الدين نوري وإذ لا يقبل الخسارة في لعبة الشطرنج وينزعج جدا، كيف يمكن التشكيك بأقواله وتكهناته وتحليلاته؟
كان أبو سلام، يتميز بقدرة على الأصغاء للأخرين، فيتركهم يقولوا ما عندهم، ويقاطعهم أحيانا ليوجه سؤالا لأجل سماع المزيد من التفاصيل، وعند الرد تكتشف انه يتذكر كل كلام محدثه. ويحب الإجابة باستفاضة، مستخدما قصص وحكايات لإيضاح واثبات كلامه، متذكرا جيدا الأسماء الكاملة والتواريخ، وكنت أحب هذا الامر في أسلوبه، اذ يجذب سامعيه ويشدهم. ويومها اخبرته بأنه لو كتب مذكراته فستكون من عدة أجزاء لحجم وغزارة المعلومات التي يعرفها.
قبيل مجزرة بشت آشان، أندفع الرفيق أبو سلام في علاقة ثنائية مع ملا بختيار مسؤول الملبند ـ القاطع ـ الأول لقوات الاتحاد الوطني الكردستاني، هدفها المعلن تطبيع العلاقات، وتبين لاحقا ان له اهدافا غير معلنة أبعد من ذلك، وخلال أنعقاد المجلس العسكري والسياسي لقاطع السليمانية وكركوك ربيع 1983 في مقر القاطع في قرية حاجي مامند، دعا أبو سلام الى وليمة مشتركة للتعارف بين كوادر حزبنا السياسية والعسكرية، مع كوادر الاتحاد الوطني الكردستاني. واجهت مبادرة أبو سلام رفضا من كثير من كوادر الحزب، فدماء شهداء الحزب على يد مقاتلي الاتحاد الوطني في مناطق أربيل لم تجف بعد، فحصل تمرد ورفض كثيرين دخول القاعة وتناول الطعام مع كوادر الاتحاد الوطني، شارك في الرفض العديد من الرفاق، كنت من ضمنهم، وتناولنا الطعام مع بقية الأنصار خارج قاعة الضيوف. وحين صادفني ذلك المساء، كان غاضبا. أمسك بذراعي من بين الاخرين وقال:
ـ انكم لا تنظرون بعيدا. ان جماعة المكتب السياسي يقودوننا الى تهلكة.
ما جرى من تطورات لاحقة، بأعلان تحالف بهاء الدين نوري مع ملا بختيار، وفق إتفاقية قرية ديوانه، التي سماها الانصار الرافضين لها (كمب ديوانه)، إذ كانت بالضد من توجيهات قيادة الحزب، أدت الى تطورات عديدة كتب عنها العديد من الرفاق، وعمليا وجدت نفسي اصطف مع الفريق المعارض لتوجهات بهاء الدين نوري، مع مجموعة الكادر الحزبي التي عقدت اجتماعا ووجهت رسالة الى المكتب السياسي للمطالبة بتغييره كمسؤول أول كمسؤول لقاطع السليمانية وكركوك، وحصل ذلك لاحقا بمجيء الرفيق أبو سرباز ــ أحمد باني خيلاني، وفي نفس الفترة غادرت شخصيا ملاك الفوج التاسع للأنصار، وانتقلت الى مهمة حزبية تتعلق بعمل تنظيم الداخل، فتوقفت لقاءاتي مع بهاء الدين نوري، الذي سافر ايامها الى مقر المكتب السياسي ثم لاحقا عاد الى قريته التكية (…في سفح جبل) ليرسم لنفسه دروب نضالية أخرى، ولم نلتق بعدها.