خطواتٌ متسارعة تسير بها تركيا في الأسابيع الأولى للعام الجديد، ورغم أنها تصب في عدة مسارات، إلا أن أبرزها تلك المتعلقة بطبيعة العلاقة التي تربطها مع دول الاتحاد الأوروبي.
العلاقةٌ يبدو أنها تختلف كل الاختلاف عن الأشهر الماضية، والتي لم تخل من “تهديد ووعيد” وفي بعض الأحيان كادت أن تصل إلى حد الصدام العسكري مع اليونان، ضمن النزاع الذي يشهده ملف شرق المتوسط.
الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، كان قد مهّد لسياسته الخارجية في عام 2021، قبل أيام من الدخول به، وحينها قال إن بلاده تريد فتح “صفحة جديدة” مع الاتحاد الأوروبي، مضيفا في أثناء لقاءه مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، في 18 من ديسمبر الماضي أن هناك فرصة جديدة لتعزيز العلاقات بين بلاده والاتحاد، لكن بعض الدول تحاول “خلق أزمة”، لتخريب هذه الأجندة الإيجابية.
الصفحة التي تحدث عنها إردوغان يبدو أن ملامحها الأولى بدأت بالظهور، بعد عدة تحركات أقدمت عليها أنقرة في الأيام الماضية، وصبّت جميعها في إطار التوجه إلى “المصالحة الجادة” مع دول الاتحاد، والتي تعتبر أثينا أولى أبوابها، كونها تعتبر الجهة الأبرز التي تقف على أحد طرفي الصدام والتنازع في شرق المتوسط.
ما تُقدم عليه أنقرة في الفترة الحالية، بحسب المشهد العام، فهو جزء من الاستعدادات للمرحلة المقبلة، والتي كان المسؤولون الأتراك قد استشعروا خطرها، بعد فرض العقوبات الأوروبية الأخيرة، وما تبعها من تهديدات بزيادة حدة العقوبات في مارس المقبل، في حال لم تتنازل تركيا عن نبرتها التصعيدية، وتتجه إلى سياسات “أقل عدوانية”.
خمس خطوات لـ”المصالحة”
تُعتبر العلاقة المتأزمة بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي أبرز الملفات العالقة التي كانت قد شهدت تصاعدا في الأشهر الماضية، ووصلت إلى مرحلة فرض العقوبات الأخيرة، ورغم أنها كانت “مخففة وغير واسعة”، إلا أن جميع المؤشرات أكدت أنها بمثابة إخطار قد يستبق تحركات من شأنها أن تفرض مناخا يعود بالسوء على أنقرة، خاصة أن ما سبق يتزامن مع تحضيرات وصول الإدارة الأمريكية الجديدة إلى البيت الأبيض.
ومنذ أسبوع مضا وحتى الآن كان ملاحظا النبرة الهادئة التي بدأت أنقرة بالالتزام بها في أثناء تصريحاتها المتعلقة بملف شرق المتوسط وخاصة الموجهة إلى أثينا، والمرتبطة بالأوروبيين.
وإلى جانب ذلك أقدمت أنقرة أيضا على خمس خطوات، كان أولها تأجيل المسوح الزلزالية في شرق البحر المتوسط، ومن ثم اتجهت للحديث عن خارطة طريق لإصلاح العلاقات مع فرنسا.
خارطة الطريق جاء ذكرها على لسان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في السابع من يناير الحالي، وأشار حينها إلى أنه أجرى مكالمة “بناءة جدا” مع نظيره الفرنسي، جان إيف لودريان توّجت بالاتفاق على ضرورة وضع خارطة طريق، لتطبيع العلاقات بين الدولتين.
وقال جاويش أوغلو إن الطرفين شرعا في العمل على خارطة الطريق هذه و”تسير الأمور على نحو جيد” في هذا السبيل، مضيفا: “إذا كانت فرنسا صادقة، فتركيا مستعدة لإعادة العلاقات معها إلى طبيعتها”.
محادثات استكشافية
الخطوة الثالثة كانت الأبرز، حيث أعلنت وزارة الخارجية التركية، الاثنين، أن اليونان وتركيا، العضوين في حلف شمال الاطلسي، ستستأنفان في 25 يناير المباحثات الاستطلاعية بهدف تسوية النزاع بينهما حول التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط.
وكانت آخر جولة “محادثات استطلاعية” بهدف حل خلافاتهما (أنقرة، أثينا) في المنطقة في عام 2016، وبالعودة إلى شهر أغسطس 2020 فقد ترددت حينها أصوات من جانب اليونان بضرورة إجراء المحادثات، لكنها اصطدمت في ذلك الوقت برد فعل مضاد من جانب أنقرة، والتي أرسلت سفينة رصد زلزالي ترافقها سفن حربية إلى المياه بين اليونان وقبرص.
ومع ما سبق وضمن الخطوات التركية “الدافئة” فقد كان رابعها لقاء وزير الخارجية التركي مع سفراء الاتحاد الأوروبي الثلاثاء في العاصمة أنقرة، على أن يجتمع السفراء أيضا مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في وقت لاحق اليوم.
جاويش أوغلو وخلال لقاءه مع السفراء أشار إلى عدة قضايا وصفت بـ”المهمة”، وهي أن بلاده متمسكة بمحادثات الانضمام للاتحاد الأوروبي، وإن أنقرة عازمة على إجراء إصلاحات وعلى الاتحاد الأوروبي أن يدعمها.
وأضاف جاويش أوغلو أن “بعض الدول الأوروبية تسببت في 2020 في خلق أزمة سياسية بين تركيا والاتحاد، وأن لغة التهديد والوعيد لن تعود بالنفع على أي طرف”.
“ترطيب أجواء”
في سياق ما سبق ووفقا لما أوردته وسائل الإعلام التركية فمن المقرر أن يسافر جاويش أوغلو إلى بروكسل يوم 21 من يناير الجاري، أي قبل أربعة أيام من “المحادثات الاستطلاعية” التي ستجريها بلاده مع اليونان، لتكون هذه الخطوة آخر التحركات المعلن عنها من جانب أنقرة، في إطار التوجه نحو “علاقات أفضل” مع الاتحاد الأوروبي.
المحلل السياسي المختص بالشأن التركي، محمود علوش، يرى أن العقوبات الأوروبية والأمريكية الأخيرة على تركيا، ورغم عدم قسوتها، إلا أنها شكلت “جرس إنذار” للأتراك بخطورة المسار الذي تسلكه العلاقات مع الغرب، وبأن القادم قد يكون أسوأ.
ويتابع المحلل السياسي في تصريحات لموقع “الحرة”: “لذلك، شهدنا في الآونة الأخيرة تحركات تركية مزدوجة تجاه واشنطن وبروكسل للحد من هذا التدهور”.
ويشير علوش إلى أن أنقرة تستشعر الخطر مع اقتراب القمة الأوروبية في مارس المقبل، وتولي بايدن السلطة هذا الشهر، لذلك تعمل على “ترطيب الأجواء مع الغربيين”.
وعلى عكس “استراتيجية الاندفاعة” التي كانت تتبعها تركيا العام الماضي في شرق المتوسط، تعطي حاليا مساحة أكبر للحلول السياسية، لأن مزيدا من التصعيد سيعقد الأوضاع أكثر، ولن يكون في صالحها في ضوء التحولات الإقليمية والأمريكية.
ماذا عن الطرف الآخر؟
في مقابل ما تعمل عليه أنقرة لتحسين علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، ما تزال أجواء دول الأخيرة فاترة حتى الآن، وفي آخر التصريحات المتعلقة بما سبق قال المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، بيتر ستانو الثلاثاء إن “المحادثات بين تركيا واليونان هي في الوقت ذاته جزء من العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي”.
وأضاف: “بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي منزعجون من بعض النقاط (لم يذكرها)، والتي من الضروري إزالتها. استئناف المحادثات بين اليونان وتركيا أمر ينتظره الاتحاد الأوروبي، نتوقع أن تؤدي هذه الخطوة إلى تعزيز الجهود لتطوير مسار إيجابي في علاقاتنا”.
وبوجهة نظر المحلل السياسي، محمود علوش، فإن “جهود” أنقرة لن تكون كافية وحدها من دون خطوات مقابلة من جانب الأوروبيين، لتهدئة مخاوف الأولى من محاولة عزلها في صراع الطاقة بالمتوسط، مضيفا: “تركيا لديها مطالب مشروعة في مسألة الحدود البحرية، وعلى الأوروبيين تفهم هذه المطالب ولعب دور الوسيط لا الطرف المنحاز”.
وتمثّل “المحادثات الاستشكافية” خطوة إيجابية في سبيل تهدئة الخلافات التركية- اليونانية والتركية- الأوروبية، لكنها ليست كافية وحدها للتعامل مع صراع بحجم شرق المتوسط، حيث تنخرط فيه أطراف إقليمية أخرى، لذلك تدرك تركيا هذه المسألة، وسبق أن دعت إلى عقد مؤتمر لدول حوض شرق المتوسط، للتوصل إلى تسوية عادلة ومرضية للجميع.
ويشير علوش: “نحن أمام محاولة لإحداث مسار جديد في العلاقات التركية الأوروبية، لكن هذا المسار سيبقى مصطدما بالمقاربة الأوروبية التي ترى في تركيا دولة جارة تؤدي دورا وظيفيا للأوروبيين، وتساعدهم في تأمين حدودهم من المهاجرين وفي تأمين الطاقة مقابل بضع امتيازات اقتصادية.
وما إذا ظلّت تلك المقاربة قائمة، فإن العلاقات التركية- الأوروبية، وفق المحلل السياسي “ستبقى أسيرة الخلافات القابلة للانفجار مجددا، في أية لحظة”.