يظهر الروائي المبدع ( ضياء الخالدي ) مهاراته وتقنياته التكنيكية في فن الحبكة الفنية الحديثة , ويسلط الضوء الكاشف على احلك فترة مدمرة في حياة العراق السياسي ( وقائع صيف 1995 ) أي بعد كارثة حرب الكويت مباشرة , وانهزام الجيش العراقي بالانهزام الشنيع , وتبعياته المهلكة في فرض الحصار الاقتصادي الدولي وفقر البلاد الى حد الشحة والكفاف , والغوص في المستقبل المجهول في الحياة الصعبة والمضنية , وبهبوط قيمة الدينار العراقي الى الحضيض , حتى أصبح لا يساوي قيمة ثمن طباعته . واصبح المورد المعيشي يعتمد على البطاقة التموينية ( النفط مقابل الغذاء ) وكذلك يتطرق النص الروائي الى مسألة ارهاب السلطة والتقاليد الاجتماعية والعشائرية , الصارمة والقاسية والظالمة موجهة ضد المرأة في انتهاك حريتها واختياراتها حتى في مسألة تقرير مصيرها , ضمن هذه الاجواء الملبدة بالغيوم , تنعكس سلباً بالخيبة والاحباط حتى في مسألة الحب والزواج . يأخذنا المتن الروائي بالدهشة التي تخنق الانفاس في ملاحقة الاحداث الدرامية والدراماتيكية المتواصلة والمتسارعة نحو ذروة الاختناق . وكذلك يدخلنا النص الروائي في مسألة الصدفة والصدف , التي ترمي طوق النجاة , في تمزيق طوق الحصار . لذلك اعتبر السرد الروائي هو البراعة الاحترافية المدهشة في تناول الصدف المتلاحقة , فهي رواية الصدف الايجابية . وبالحيلة والابتكار والخلق في اساليب المتن السردي , التي تحمل المشروعية والمعقولية في خضم توارد الصدف . كأنها حالة انقاذ من الوقوع في الفخ . والبراعة المتمكنة للمؤلف بأنه بدأ بالحدث السردي من النهاية الى البداية من ( سدني / أستراليا عام 2007 الى بغداد صيف عام 1995 ) . وهذا الاسلوب الروائي صعب في قيادة دفة الاحداث السردية , لان القارئ يفهم خاتمة المطاف من الحدث المتن السردي . لكن التقنية والحيل الروائية ( والكاتب ملهم في هذه الخاصية الروائية ) نجده بأن يجعل الخاتمة كتنفيس ورحمة للقارئ الذي ينشد بقوة وبتأزم الاحداث الى الذروة وتشده اكثر في تعاطي أسلوب المطاردة البوليسية , في المطاردات والملاحقات في خيوط النص الروائي , التي تلعب فيه شخصيتان , وهما ( بسام علوان ) و ( وردة الشطب ) , التي هربت من زوجها , ووقعت في مطاردة الشرطة والامن للامساك بها . ونجاتها من هذه المطاردات , كالناجي من فم الذئب .
يبدأ الحدث السردي من هزيمة الجيش العراقي وانسحابه من الكويت بالفوضى العارمة والانفلات غير المنظم , حتى شاهد ( بسام علوان ) الشاحنة العسكرية وهي تدهس الجندي ( أسماعيل ) وتسحله على اسفلت الشارع ملطخاً بالدماء , دون ان ينتبه سائق الشاحنة الى ذلك , مما علق في ذهنه هذا المشهد , في توارده في كوابيس الاحلام التي لاتفارق ذهنه , وهذا الكابوس يذكي الفاجعة الاليمة بفقدان شقيقه الاكبر ( عبدالعليم ) في الحرب العبثية العراقية الايرانية . وكان آنذاك لم يتجاوز عمره ( 14 ) عاماً , وبعدها دخل شقيقه الاخر ( يحيى علوان ) في سلك الشرطة كضابط أمن , وتخلص من ارساله الى جبهات القتال . بينما ( بسام علوان ) بعدما انهى خدمته العسكرية , اختار ان يكون بائع الكتب القديمة على ارصفة ( ساحة الميدان / سوق هرج ) وارتضى ان يكون بائع في بسطية على الرصيف رغم شحة المورد المالي , ولكن يأتي الكسب المالي الاكثر من الكتب الممنوعة , وهوايته بالكتب رفض ان مساعدة شقيقه ضابط الامن , ان يجد له فرصة عمل أخرى , وانه تعمق في صداقات حميمية مع اصحاب البسطيات على الرصيف . وتعود ان يزور ليلاً صديقه الحارس الليلي لمركز الطلبة والشباب , وفي اثناء تجوله انقطعت الكهرباء واصبح الشارع موحش ومظلم , وشاهد من بعيد بعض الرجال المدنيين يسحبون بعنف وقوة ثلاثة نساء , تصور بأنهم يرومون اغتصابهن , فأرتفعت الشعور الانساني بالحمية وخطف أحدى النساء من ايديهم , وهرب معها ولاحقته رصاصتين , لكنه نجى منها . واخذها الى شقة اصدقائه وهي ترتجف من الخوف . وعرف بأنها بائعة الهوى بالمتعة الجنسية , وان الرجال هم رجال الامن داهموا بيت البغاء والدعارة , وحكت قصتها المأساوية الى ( بسام ) واصدقائه , بأنها هربت من زوجها وهو أبن عمها ( فياض ) لانها ارغمت عنوة من اهلها واهله على الزواج , وكانت تصر على اكمال دراستها حتى الحصول على الشهادة الجامعية . ولكنها لم تفلح بذلك , ورضخت بترك الدراسة والقبول بالزواج من أبن عمها ( فياض ) ومنذ الليلة الاولى كانت تنوح في داخلها بحزن وألم . كأنها فقدت من حياتها شيئاً ثميناً وعزيزاً سلب منها . حاولت بكل الطرق على عدم الانجاب , في ظل معاملة زوجها الوحشية واسلوبه الخشن بضربها وأهانتها . حتى احدى المرات حرق ظهرها بملعقة الطعام , حتى فاحت رائحة الشواء من جسمها . وبذلك فكرت بالهروب حتى على موتها . حتى لاتكون رخيصة ومهانة بالاذلال في حياتها الزوجية ( – أنا جبانة , وهروبي من عائلتي ليس شجاعة , بل كان يأساً من حياة لا يمكنني الاستمرار فيها , حتى وصلت الامور الى كي ظهري بملعقة الطعام , أتريدون رؤية آثار الحرق ؟! ) ص51 . فتعاطف ( بسام ) واصدقائه مع قضيتها المأساوية وقبلوا في أيوائها حتى تدبر الحل بنفسها , ولكن من تطور الاحداث المتسارعة , وحدس شقيق ( بسام علون ) الضابط الامني ( يحيى علوان ) بأن شقيقه ربما متورط في قضية تهريب ( وردة ) من قبضة الشرطة ونجاته من اطلاق الرصاص عليه , لذلك بدأ تحريات في متابعة وملاحقة شقيقه من بعد حتى يمسك برهان التورط . وخاصة ان الزوجة الهاربة من عائلة غنية ومتمكنة , وزوجها ( فياض ) وعد رجال الشرطة بمكافئة مالية كبيرة , اذا افلحوا في القبض عليها وتسليمها اليه . حتى يفرغ الرصاصات في جسدها , لانها جلبت العار الى اهله وعشيرته , ولا يتم غسل العار إلا بقتلها . وساندته عشيرته بقتلها ودفع المال الى الشرطة حتى يطلق سراحه . لذلك كان اهتمام الشرطة في المتابعة القضية , هي من أجل الحصول على المال ليس غير , وتعهدوا الى زوجها بأيجادها حتى لو طارت الى السماء . ومن هذا المنطلق كان اهتمام ضابط الشرطة بالقضية ومتابعة شقيقه في اسلوب بوليسي ليسرع في القبض على الزوجة الهاربة للحصول على المال الموعود . لذلك استدرج اصدقاء شقيقه وهددهم بالعواقب الوخيمة , في اخفاء الزوجة الهاربة , بمثابة عمل عدواني تجاه الثورة والحزب , وتصل العقوبة الى المؤبد أو الاعدام , وتحت لغة التهديد العنيفة والخوف من العواقب , اعترفوا بأن ( وردة ) موجودة في شقتهم , وانهم ابرياء من ورطة التهريب في اخفائها
, ولكن حين وصلوا الى شقتهم مع ضابط الامن , كان ( بسام علوان ) نقل ( وردة ) الى مكان آخر , الى سكن المرأة العجوز ( حورية ) الفنانة والرسامة , واستقبلتها بفرح . وكانت هذه المرأة العجوز رفضت الهجرة خارج العراق , رغم ألحاح ابنائها الثلاثة الذين هاجروا الى اوربا , ويرسلون مساعدات المالية الى أمهم . وبعد علم ( بسام علوان ) بأعترافات اصدقائه الى شقيقه الضابط الامني , لم يتحمل الصدمة ووقع مغشياً عليه فاقد الوعي . ونقل الى المستشفى وبعد أيام من شفائه . صارحه شقيقه الضابط بلطف وحنان , بأن يتخلص من الورطة العويصة قد تضيع مستقبله , بتسليم الزوجة الهاربة , حتى يستطيع ان يغلق القضية ( المرأة التي تهرب من زوجها واهلها تستحق العقوبة , فليس كل أمرأة تعاني من المشاكل الزوجية يحق لها الفرار , وان تتحول الى عاهر ,وإلا اصبحت كل النساء فاسقات , فتنهار القيم والعادات ) لاشك أن (بسام علوان ) يملك مشاعر الحب والشفقة تجاه ( وردة ) ووصلت عاطفته الروحية الى مشارف الحب , ليس لانها بريئة ومظلومة من زوجها واهلها وعشيرتها , وانما الانفعال العاطفي يصعد في سخونته كلما التقى بها ( في أعماق بسام ميول لوردة تقترب من تخوم ما يسميه الناس عشقاً , فثمة ارتياح كلما طالع وجهها وسمع نبرات صوتها المميزة ببحة , أحاسيس يختلط فيها العطف بحلاوة سرية , بيد أنه لا يبوح لنفسه حتى ولو بخيط متلبساً بتلك المشاعر ) ص101 . ولم يجد ( بسام ) وسيلة للتهرب وقد انكشفت الحقائق بأنه المسؤول والمتورط في اخفاء ( وردة ) واعترف بمكان اقامتها ومستعد في تسليمها , ولكن المرأة العجوز ( حورية ) دبرت أمر تهريبها الى الاردن عبر مهرب وحين وصلت الى عمان سجلت في مفوضية اللاجئين , وبعد ( 12 ) عاماً وجدها ( بسام ) تتسوق في مركز مدينة ( سدني ) مع طفلين , وتقابلا وجها لوجه , وشرحت مسيرة حياتها بأنها تزوجت وانجبت هذين الطفلين وتعيش في بحبوحة العيش وتشعر بالهناء والاستقرار , فقال بسام بفرح وسرور :
( – لقد نجوتي .. نجوتي بالفعل يا وردة
وقالت وردة :
– أتعرف حزني الاكبر لا علاج له ؟ بلدي أشتاق اليه , ولدي أصدقاء كثر من جنسيات مختلفة يزورون بلدانهم الام ثم يعودون ) ص217 .
× الكتاب : رواية هروب وردة
× المؤلف : ضياء الخالدي
× اصدار : منشورات نابو العراقية عام 2020
عدد الصفحات : 255 صفحة
جمعة عبدالله