علينا أن نقبل أننا أمة، خلقنا لنعيش على التناقضات، وتاريخنا تثبت؛ أن الصراع الداخلي كانت من إحدى أهم متطلبات ديمومة الاستمرار، رغم ما عانيناه من الأهوال والدمار على خلفية خدماتنا للطغاة والإمبراطوريات والأنظمة المحتلة. ومن الحكمة، الاستفادة من هذه الخواص التي لا خلاص منها، ومعرفة كيفية تسخيرها لقادمنا، خاصة وأننا شعب عرفنا بعضنا بعمق في حالات الخلاف، فعند الصراع ضمن العائلة إلى العشيرة إلى كلية الأمة، درسنا الآخر بعمق وحللناه، وتركنا المتوافق وأهملناه.
ولربما التقارب بيننا كانت ستخلق بيئة الانقراض أو الفناء، أو الذوبان في المحيط المجاور، وللانتقال من واقع شعب عاش على حافة التاريخ، وتابع خدم الأخرين، إلى شعب يملك مقدراته، لا بد من تغيير وجه التاريخ، ليس بعرض حلول لخلافاتنا، بل الاستفادة منها كما هي، وتسخير صراعاتنا الداخلية لتقوية ذاتنا ومن على أسسها مواجهة الأعداء.
تثبت تجاربنا مع ذواتنا والأخرين، أنه لا بد من البحث عن الأساليب غير العادية-الكلاسيكية، نلغي فيها منطق التقارب والوحدة لبلوغ الغاية، فقد تبينت أن غايتنا كشعب وأمة أبعد من مجرد التفاهم الداخلي، بل ربما تتجاوز تكوين الوطن المشابه للأوطان المجاورة والتي يحكمها الطغاة، والأحزاب الشمولية، وحيث الشعوب تعيش الويلات والمآسي. فكوردستان يجب أن تبنى على أسس الصراع، وبنظام أبعد من مجرد سلطة ومعارضة، تنهض على جدلية صراع الأضداد، التي خلقت الخلية، وطورتها لتظهر طفرة الإنسان، ومن ثم الشعب الكوردي.
والصراعات ضمن مكونات شعبنا وحراكه، ربما، هي بداية ظهور الجدلية المذكورة، ولتتحول إلى طفرة؛ لا بد من السير مع طبيعة جينات الإنسان الكوردي، التخلي عن البحث في التوافقات، وترك الخلافات لتصعد إلى ما تتطلبه الظروف، ومن ثم أخذ العبر منها، ليبقى الأفضل والأقوى، والأكثر حنكة ودهاء في مواجهة الأعداء وخدمة الأمة وتكوين الوطن المطلوب.
وما يجري اليوم، بين أطراف الحراك الكوردي السياسي والثقافي، تكاد تثبت ما ذكرناه، على أنه موروث جيني، حتى ولو كان الحكم قاس؛ كبعد فكري ونقد، أو كجلد للذات، لكن ديمومته وعلى مر التاريخ وحضوره بأغطية مختلفة، تقربنا من الشك في نظرية صراع الأضداد وجدليتها مع شعبنا، وتفرض على رواد الحركة الثقافية الكوردية، دراستها بنوعية مختلفة وأوجه مغايرة، لأننا وعلى مر التاريخ؛ أظهرنا ضحالتنا في خلق التقارب، وحل الصراعات، وبالمقابل أبدعنا في إيجاد الحجج لإلغاء الكوردي الأخر، وتوسيع ساحات الخلافات الداخلية، إلى درجة أصبح التخوين من يومياتنا، تجاوزنا كل الأفاق، لا المثل ولا الرموز الكوردستانية بقيت لها قيمة، هدمنا القيم، من المرأة، إلى القيادات، والشهداء، والعلم، والوطن، والشعب، والمجتمع، والعائلة، كل طرف يبتذل بمنطق ما قيم الأخر.
المسيرة بهذه المنهجية، سترسخ ديمومة تاريخنا المؤلم، كشعب تابع، موالٍ لأسياد يفرضون ذاتهم علينا، وسنظل نتبع سلطات تحكمنا، نعيش الاستجداء طوال التاريخ، وبما أننا لا نرى في الأفاق أملا في التوافق، وإزالة الخلافات، فلا بد من البحث عن البديل، على منطق داروين، الاستفادة من صراع الأضداد الداخلي.
المفاوضات الكوردية في جنوب غرب كوردستان، كانت في بداياتها مبنية على بنود شبه مستحيلة تحقيقها، مع ذلك دعمت من الشارع الكوردي، رغم أن الأغلبية الحكيمة كانت على دراية أنها فاشلة، أو أنها ستفشل، والأسباب عديدة، ولهذا كثيراً ما طالبنا الاكتفاء بتشكيل هيئات: دبلوماسية، وإدارية لبعض المجالات، كالثقافية والخدمية وغيرها الممكن التوافق عليها، دون أن تظهر لأصحاب السلطة في الإدارة على أنها تخسر مكانتها وسلطتها الشمولية، ومن أكبر الأخطاء، المطالبة بالمرجعية الطوباوية، والتي تم عرضها، على الأغلب، كبند تعجيزي، في ظل طرفين متناقضين حتى النخاع، إيدلوجية ومرجعية ومنهجية ومفاهيم، إلى جانب منطق المناصفة في السلطة، والتي تعكس الجهالة أو الاستهزاء بالذات وبالشعب الكوردي.
ونهاية فشلها أكثر من واضحة، إلا إذا ظهرت طفرة داروينية-أمريكية، أستخدم مبعوثهم كل ثقله لإرضاخ قادة الإدارة الذاتية على شروط تضعها أمريكا لصالح المنطقة الكوردية، تتلاءم ومصالحها، وبالتالي تفرضها على الأطراف الكوردية الأخرى ومن بينها الأنكسي، مثلما فعلتها مع جنوب كوردستان.
علينا فهم ما ظهرت من الفضائح، خلال الشهور الأخيرة، على أنها كانت من ضمن جدلية الصراع الكوردي، وعدمية تقبل الأخر النابع من اللاوعي الموروث في اللاشعور، والتي يستفيد منه الأعداء في حالتي الادعاء بالتوافق أو تصعيد الصراع، فمسيرة المفاوضات على مدى قرابة سنة دون نتيجة، والتي تخللتها بيانات وتصريحات ساذجة، وأتبعتها حرق مكاتب الأنكسي، والعودة إلى تخوين البعض، وردود الفعل المقابل، إن كان بعمل أو بشكل شفهي، إلى أن بلغت مرحلة التهجم على البيشمركة، واتهامها بالمرتزقة، حالة حتمية تعكس ذهنيتنا ولربما مورثاتنا كأمة قائمة على الشقاق، وهو ما يستند عليه أعداؤنا على مر القرون الماضية، وهو ما أدى ببعض الجهلاء ومن خلال لسان أحدهم، الطعن في مصداقية الذين ضحوا بدمائهم، فقد كان قمة الغباء والجهالة السياسية إيصال الخلافات إلى هذه السوية، وكان الأولى به التهجم على قيادات الأنكسي بالمنطق الذي يستند عليه، والانخراط في الضحالة السياسية التي تدار بينهما على مدى السنوات العشر الماضية، والابتعاد عن المثل العليا للشعب الكوردي.
ما يجري في شرقنا أثبتت على أن الأنظمة الشمولية وأحزابها زائلة لا محالة، وأن ثورات ستتابع، والجدلية الداروينية ستقضي على من لا يتلاءم مع البيئة المتغيرة نحو الثقافة الديمقراطية، وبالتالي علينا نحن في الحراك الكوردي والكوردستاني، عدم الاكتئاب أمام الخلافات الحزبية المتصاعدة من قبل مجموعات ساذجة أو حتى ربما سياسية في محيطها، والعمل على أيجاد البديل الملائم للجاري المرفوض من المجتمع، فالشعب الكوردي الذي نفذ من مسيرة التاريخ المظلم، وأصبح الأن يعرض قضيته على المحافل الدولية، لا بد وأنه سيجتاز صراعات هذه الشريحة الساذجة.
فهؤلاء الذين تم وضعهم على قيادة المجتمع الكوردي، هم ثمرة ضعف رواد الحركة، وغياب الحكمة في الاستفادة من الخلافات واخذ العبر من الصراعات، وعليه من الأن وصاعدا عدم البحث عن الوحدة والمرجعيات، إلى أن تفرضها الظروف والعوامل.
ولا بد من التنويه أن التصريحات الصادرة للحفاظ على السيادة وإلغاء الأخر، تهدم أصحابها وليست أمتنا، وتفضح منهجية متبنيها وتبعيتهم للقوى الإقليمية، وليس مسيرة شعبنا، وليعلم الجميع أن الطوباوية لم تسود يوما على المجتمعات، وأن الموالي كانوا وسيظلون خدم في بلاط الأخرين، وخير الأمم هي التي عرفت كيف تستفيد من خلافاتها الداخلية، فهل سيظهر رواد من حراكنا الكوردي ويتبنون مثل هذه المنهجية؟
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
13/1/2021م