على رغم التفاؤل الذي بثه المشروع في أولى خطواته لدى سكان المدينة، إنما يمكن اعتباره صعب المنال في الظروف الحالية لغياب الدعم السياسي والحزبي والمالي، الذي يُفشل أي مشروع مشابه في كردستان ويعرقل نجاحه…
غيّرت السليمانيّة أسلوب تهديداتها لأربيل القابضة على المال والسياسة والاقتصاد هذه المرّة بتغيير تكتيك الضغوط، من التظاهرات والاحتجاجات الشعبية الغاضبة ضد أحزاب السلطة والدوائر الحكومية وحرقها، إلى مطالبات جماهيرية وشعبية بتحويل السليمانية إلى “إقليم مستقلّ”، وانضمامها إلى جبهة العاصمة العراقية بغداد، وجعل جميع وارداتها تحت سيطرة الحكومة الاتحادية، شريطة أن تدفع العاصمة مستحقات موظفيها الذين باتوا في أسوأ أوضاعهم المعيشية والحياتية، بسبب أزمة الرواتب وتأخر صرفها الذي يصل الى نحو 50 يوماً كل مرّة، مع العمل بنظام ادخار الرواتب الإجباري الذي يقضي باستقطاع ما نسبته 21 في المئة منها.
منذ استقلال إقليم كردستان عام 1991، وتمتّعه بالحكم الذاتي، كانت السليمانية الشوكة المزعجة في حنجرة السلطة في أربيل، فمنها غالباً تنطلق معظم الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية المعارضة والمشاكسة والمنددة بالفساد المستشري في مؤسسات الإقليم الكردي، إضافةً إلى تحوّلها فضاءً واسعاً وحرّاً للصحافيين والنشطاء والسياسيين المعارضين، والأفكار المنفتحة، واحتوائها مقرّات الأحزاب الكردية السورية والتركية والإيرانية المعارضة على عكس عاصمة الإقليم التي تضيّق الخناق على هؤلاء باستمرار، وتمنع أي مزاولة مشابهة.
شهدت المدينة المشاكسة تظاهرات واحتجاجات غاضبة لمرّات عدّة، خلال السنوات العشر الأخيرة ضدّ الأحزاب المتربعة على عرش الحكم والسلطة المسنودة بفضائياتها وقنواتها وماكناتها الإعلامية المموّلة من ميزانيات النفط الضخمة، على عكس محافظتي أربيل ودهوك الواقعتين تحت سلطة الديمقراطي الكردستاني والقابض عليهما أمنيّاً وسياسيّاً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، الى أن وصل الحال بها إلى العجز عن دفع رواتب موظفيها حتى بعد تأخرها لأكثر من 50 يوماً واستقطاع نسب متفاوتة منها.
السلطة الكردية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتحديداً بعد حقبة استقلالها عن نظام صدام حسين وانتفاضة 1991، ما زالت عاجزة عن بناء سياسة اقتصادية قوية صحيحة، تؤهلها لمواجهة المصاعب، لا سيما بعد خطوة الانفصال عن بغداد باستفتاء أجرته عام 2017. لكن سرعان ما جمّدت نتائجه لقناعتها التامّة بفشلها وعدم انسجامها مع تطورات المرحلة، وما زال الشعب يدفعُ ضريبة تلك الخطوة حتى الآن.
هذا الفشل دفع بمجموعة من الصحافيين والنشطاء والشخصيات الثقافية والاجتماعية إلى محاولة إخراج السليمانية من عباءة أربيل، عبر مشروع أطلقوا عليه تسمية “إقليم السّليمانية”، يطالب بتمتّع المدينة بحكم ذاتي يفصل قرارها عن الإقليم الذي يتمتع بدوره بحكم ذاتي. وذلك بعدما باتت المحافظة ضحية احتكار السلطة وتراجع المشاريع الاقتصادية والعمرانية والخدمية فيها، معتمدين على قدرة المدينة على تأمين نسب عالية من واردت كردستان الشهرية والسّنوية، سواء من بيع النفط أو المعابر والمنافذ الحدودية، فضلاً عن موقعها في منطقة جغرافية استراتيجية على مستوى المنطقة.
تباينت مواقف التيارات الكردية إزاء مشروع “أقلمة السليمانية” بين رافضٍ ومؤيد. الجبهة الرافضة تتبع “الحزب الديموقراطي الكردستاني”، والأخير اتهم أطرافاً إقليمية بدعم هذه الخطوة، في إشارة واضحة منه إلى إيران والأطراف الشيعية الموالية لها في العراق، في حين يرى المشرف على مشروع “إقليم السليمانية” بيار عمر أن هذا الخيار هو “الأفضل ويؤمّن الخدمات الكافية للمحافظة بعيداً من الأجندات الإقليمية والدولية”، على غرار نماذج في دول متقدّمة مثل أميركا وألمانيا وغيرهما، منتقداً من وصفهم بـ”محتكري السلطة” لاعتبارهم هذه الخطوة بأنّها تأتي ترجمة لأجندات خارجية.
ما يزيد من قُبح هذا المشروع لدى الأحزاب الكردية التقليدية أنه جاء رافضاً للسلطة، متمسّكاً بقرار الشعب، وتحديداً أبناء السليمانية، ويحقّق الاستقلالية الإدارية والاقتصادية للمدينة. ويعتبر عمر أن النظام المركزي الحالي المعمول به في الإقليم يعرقل خطوات قيام الدولة الكردية، والشعب يتوجه نحو التفكيك والصراعات الداخلية يوماً بعد يوم، مضيفاً لـ”درج”: “الدولة الكردية لا تُبنى بالخطابات والشعارات الرنانة عبر وسائل الإعلام، بل من خلال بناء أسس اقتصادية متينة وإدارة المحافظات ذاتياً”، في إشارة منه إلى أحزاب السلطة التي تعتمد على فضائيات وقنوات ومؤسسات إعلامية ضخمة تمولها شهرياً بملايين الدولارات لدعم أجنداتها الحزبية، بعد تراجع شعبيتها لدى الشعب الكردي لا سيما في ما يتعلق بقضية استفتاء الانفصال وأزمة الرواتب الأخيرة وانعكاستها السياسية والاقتصادية على كردستان.
على أرض الواقع، بدأت فعلياً الخطوات الأولية لتنفيذ مشروع “أقلمة السليمانية” من خلال جمع تواقيع 30 ألف مواطن من المدينة، يمثلون ما نسبته 2 في المئة من مجموع السكان البالغ عددهم نحو مليون ونصف المليون مواطن، بالاعتماد على الدستور العراقي الذي يحتم جمع تواقيع ما نسبته 2 في المئة من سكان المدينة، ومن ثم رفعها رسمياً الى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، لإجراء استفتاء الانفصال رسمياً على أن يحصل المشروع على موافقة ما نسبته 50 زائد واحد من سكان المحافظة لتستقل السليمانية رسمياً على أرض الواقع.
في حال نجح المشروع، سيضم “إقليم السليمانية” في إدارته الجديدة كل من محافظتي السليمانية وحلبجة وجميع الأقضية والنواحي التابعة لهما، إضافةً الى إدارتي كرميان ورابرين. وعموماً تؤمّن هذه المناطق النسبة الأعلى من واردات الإقليم الكردي الشهرية والسنوية، خصوصاً أنها تضم معابر ومنافذ حدودية، وتحتوي آبار نفط عملاقة، وهذا ما يزيد من تمسّك أربيل برفضها هذا المشروع جملةً وتفصيلاً.
على رغم التفاؤل الذي بثه المشروع في أولى خطواته لدى سكان المدينة، إنما يمكن اعتباره صعب المنال في الظروف الحالية لغياب الدعم السياسي والحزبي والمالي، الذي يُفشل أي مشروع مشابه في كردستان ويعرقل نجاحه، كما يرى المراقب السياسي كوران قادر، واصفاً المشروع بـ”الأكثر جرأة” حتى الآن، إذ إن السليمانية قد تُحقق لنفسها استقلالاً سياسياً واقتصادياً ونموّاً عمرانياً على الأصعدة المختلفة، وستخرج من دوّامة الأزمات الحالية بشكل موقت، ولكن ستعود بعدها لتعيش أوضاعاً أصعب من الآن بكثير، كون المحيط العام لن يسمح بانفتاحها السياسي والاقتصادي.