يتحدث مراقبون عراقيون عن مناورة جديدة شملت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات خلال الفترة الماضية بالتزامن مع أنباء عن تشكيل تحالف سياسي خفي يجمع رئيس الجمهورية برهم أحمد صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي في الانتخابات المقبلة، وهذا ما دفع إلى إجراء التغييرات الأخيرة.
وبحسب هؤلاء المراقبين، فإن الظاهر من هذه التغييرات هو تمويه الشارع بوجود خطوات إصلاحية جادة لتقويم أداء المفوضية تنفيذا لمطالب ساحات الاحتجاج التي طالبت بحلها، والإتيان بمفوضية جديدة تتمتع باستقلال تام، إلا أن باطنها يوحي بصريح العبارة بزج الأحزاب النافذة عناصر أكثر ولاءً لها وإحكام قبضتها على نتائج الانتخابات المقبلة المزمع إجراؤها في يونيو/حزيران المقبل أو تأجيلها إلى أكتوبر/تشرين الأول القادم كما تطالب المفوضية.
انتقادات ودعوة
التغييرات الأخيرة داخل المفوضية شملت نحو 400 عنوان وظيفي من الإدارة الوسطية التي تشمل إدارة المكاتب المكوّنة من مديري شُعب وأقسام دون أن تمتد إلى المديرين العامين الأربعة المكلّفين بالإدارة العامة بأمر ديواني من رئاسة الوزراء، في حين يُرجع الدكتور حسين الهنداوي مستشار رئيس الوزراء لشؤون الانتخابات هذه التغييرات إلى القانون الجديد لمفوضية الانتخابات الذي شُرّع في عام 2019 من البرلمان بعد الاحتجاجات، حيث ينصّ في المادة 25 منه على إبعاد كل المديرين السابقين مع تغيير بعض المواقع بالنسبة للوظائف بنقل بعض رؤساء الأقسام والشعب إلى مواقع أدنى.
انتقادات لاذعة وُجّهت لهذه التغييرات، وبأنها أحدثت ضعفا في الجانب التقني للموظفين، غير أن الهنداوي ينفي أن تكون هذه التغييرات جاءت بناءً على أي تأثير سياسي أو مؤامرة حيكت ضد المفوضية، داعيا في حديثه للجزيرة نت مجلس النواب إلى تعديل قانون المفوضية لا سيما المادة 25 لتُفسح المجال أمامها للاستفادة أكثر من الخبرات السابقة والممتازة منها.
ومن الشروط الصارمة التي فرضتها المفوضية لتعيين المديرين، سواء للأقسام أو الشُعب، ألا يكون للشخص المرشّح أي عقوبة سابقة خلال خدمته في الوظيفة، ووصف مسؤول بارز فيها -طلب عدم الكشف عن اسمه- هذا الإجراء بـ”الأصعب” لاستحالة خلو سجل أي موظف خدم في دوائر الدولة ومؤسساتها لسنواتٍ طويلة من العقوبات الإدارية إلا ما ندر.
وينفي المسؤول في المفوضية حصر التغييرات الأخيرة على محافظات أو مناطق معينة دون أخرى، ويؤكد في حديثه للجزيرة نت عدم وجود أي تفضيل في التغييرات لمنطقةٍ على حساب أخرى، فالإجراء شمل جميع المحافظات، ومسؤولو الإدارات القديمة عادوا إلى مناصبهم بعد إنهاء تكليفهم في المفوضية.
وعما إذا كانت التغييرات الأخيرة ستنعكس سلبا على نتائج الانتخابات المقبلة، وما مدى صحة تدخل الأحزاب النافذة فيها، يؤكد المسؤول للجزيرة نت أنها لن تؤثر على الانتخابات كونها شملت المناصب الإدارية وليست الفنية أو العملياتية، وبرأ مؤسسته من خضوعها للضغوط السياسية والحزبية.
خياران أمام الكاظمي
التغييرات الأخيرة جاءت تزامنا مع سعي الحكومة العراقية، وبإصرار، لإنجاح الانتخابات المقبلة كونها الأمل الوحيد المتبقي لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بعد فشله على مختلف الأصعدة لا سيما فيما يتعلّق بالأمن، ومن ذلك عدم وفائه بكشف قتلة المتظاهرين، إضافةً إلى الجوانب الاقتصادية واللعب بالدولار في السوق والأزمات التي تلتها.
ويتهم يوسف الخفاجي الناشط في ساحات الاحتجاجات الكاظمي بالاتفاق مع جهة معروفة ذات نفوذ وسلطة وتمتلكُ جناحا عسكريا على أرض الواقع لإنجاح الانتخابات مهما كان الثمن بالاعتماد على التغييرات الأخيرة، ظنّا منه أنها تمتلك قاعدة جماهيرية يمكن التعويل عليها في المرحلة المقبلة لحصد الفوز.
بدأت هذه الجهة بعد اندماجها مع الكاظمي -كما يقول الناشط- بالتحرك الواسع والسريع داخل مفوضية الانتخابات لتهيئة الظروف المناسبة من خلال التغييرات الأخيرة لزرع بعض المقربين منها لضمان فوزها بطريقة تتناسب مع حجم الدعاية والإعلان التي أطلقتها منذ مدة وجيزة.
ويضيف في رده على سؤال للجزيرة نت عن سبب عدم ذكر اسم الجهة المقصودة صراحة بعيدا عن التلميح، بالقول “صعب على ناشط مثلي ومثل بقية الشعب العراقي أن يذكر أسماء مثل هذه الجهات لأنها صاحبة نفوذ سياسي وعسكري واسعين خشية الانتقام منه على غرار ما حدث لبعض الناشطين الذين تم اغتيالهم لانتقادهم بعض الأطراف السياسية في العراق”.
ويرى الخفاجي أن الكاظمي أمامه خياران لا ثالث لهما لكبح جماح إيران في العراق، يحصر الأول منهما في المرجعية الشيعية في مدينة النجف، ويتمثل الثاني في التقرّب من إحدى الجهات النافذة وهي على خلاف مع إيران ولا تأتمر بأمرها كثيرا مثل بقية الفصائل الشيعية المسلحة، وهذا ما يريده.
وما يعتبره الناشط المدني بـ”الأخطر” على العراق من الخطر السياسي أن المشاكل فيه باتت مجتمعية لاسيما فيما يتعلق باستهداف المرجعية الدينية الشيعية وإضعافها بخطط واضحة بعد وجودها على مدى عقود طويلة في تهدئة الأوضاع ودورها في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية والجوانب الأخرى، وهذا ما يُزعج بعض الدول الإقليمية ولا تخدم مصالحها في العراق سواء كان على المستوى العسكري أو الديني أو الاجتماعي.
مناورة جديدة
ومن جملة السلبيات التي سُجلت ضد المفوضية أنها لا تحمل أي بادرة من بوادر الاستقلال باستثناء الاسم، وهذا ما دفع ساحات الاحتجاجات إلى المطالبة بإقالتها والإتيان بأخرى تتمتع باستقلال أكبر، وبالتالي هي نتاج المحاصصة السياسية والحزبية، بحسب المحلل السياسي علي البيدر.
ويقول البيدر إن جميع مكاتب المفوضية بالمحافظات تخضع للتقاسم السياسي، إضافة إلى أن المسؤولين فيها ينفذون أجندات الجهة التي زجت بهم في مواقعهم، ويصف التغيرات الأخيرة التي طرأت على مواقع حساسة داخل مفوضية الانتخابات بأنها جزء من مناورة سياسية، هدفها في الظاهر التمويه وإشعار الشارع بأن هناك خطوات إصلاحية من أجل تقويم عمل المفوضية، لكن باطنها هو رغبة الجهات السياسية في إدخال عناصر أكثر ولاءً لها ممن سبقوهم.
وأضاف أن الكثير من التيارات السياسية لم تحقق الفوز بمقاعد نيابية ولو نسبيا لعدم امتلاكها موظفين في المفوضية على عكس أحزاب نافذة تكتسحُ البرلمان في كل دورة انتخابية لامتلاكها موظفين بمستويات رفيعة.
ويتهم البيدر الكتل السياسية التي تمتلك عددا كبيرا من المقاعد داخل البرلمان بالوقوف وراء التغييرات الأخيرة في المفوضية، مشترطا في حديثه للجزيرة نت خضوع المفوضية لتدخل دولي لتُعيد ثقة الشارع العراقي فيها بعد أن فقدتها لهيمنة الأحزاب السياسية عليها وانحرافها عن مسارها في أكثر من مناسبة.
ويقترح البيدر تشكيل مفوضية مستقلّة جديدة بإشراف أممي ويفسح المجال أمام جميع العراقيين للتقديم عليها وفق معايير عالية، وبهذه الخطوات يمكن تحصين أرفع مؤسسة تشرف على الانتخابات في البلاد من الضغوط والتدخلات السياسية.
وقت مبكر للحكم
بدوره لا ينفي عضو البرلمان العراقي عن تحالف الفتح قصي عباس خلو التغييرات الأخيرة داخل المفوضية من التدخلات الحزبية والسياسية، حالها حال المؤسسات الأخرى، عازيا السبب إلى طبيعة النظام السياسي في العراق القائم على النظام البرلماني.
ويرى عباس في حديثه للجزيرة نت أن الوقت ما زال مبكرا للحكم على استقلال المفوضية من عدمها بعد التغييرات الأخيرة التي جاءت وفقا لتعديل القانون من البرلمان، داعيا للانتظار إلى حين إجراء الانتخابات وإعلان النتائج وبعدها يمكن القول ما إن كانت مستقلّة أم لا.
صلاح حسن بابان