الحلقة الثانية (2-5)
هارون الرشيد والبرامكة:
تتمثل الشخصيات الرئيسة التي ظهر سلطانها واضحا في حياة هارون الرشيد في يحيى، وولديه الفضل وجعفر. ويحيى بن خالد هو والد جعفر البرمكي، ضم إليه المهدي ولده الرشيد فرباه وأرضعته امرأته مع الفضل بن يحيى. والفضل ابن خالد بن برمك أخو جعفر وأخوته كان هو والرشيد يتراضعان: أرضعت الخيزران فضلا، وأرضعت أمه هارون الرشيد. (ابن كثير، البداية والنهاية ج10: 210). ويحيى اشتهر بمكانته من هارون الرشيد وعلو قدره ونفاذ حدثته. عهد بجوده وسخاؤه وبذل إلى جانب سامحة الخلق طلاقة الوجه. وكان من ذوي الفصاحة والمشهورين باللسن والبلاغة. (بن جابر، أنساب ج4: 373؛ بن خياط ج1: 460؛ وفي رواية مات 192؛ المعارف جزء 1: 381- 382؛ السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 237). ويثني المسعودي على البرامكة فيقول: للبرامكة أخبار حسان، وما كان منهم من الإفضال بالمعروف واصطناع المكارم، وغير ذلك من عجائب أخبارهم وسيرهم وما مدحتهم الشعراء به، ومراثيهم. فلما ولى الرشيد عرف له حقه وكان يقول “قال أبي، وفوض إليه أمور الخلافة وأزمتها ولم يزل كذلك حتى نكبة البرامكة. وقيل انه سأل الرشيد أن يعفيه من الولاية فأعفاه وأقام يحيى بمكة وفيها توفي. وقيل انه مات في الحبس بعد مقتل ابنه جعفر، في العراق. (ابن كثير، البداية ج10: 177، ابن قتيبة، المعارف ج1: 382) ويعود ابن كثير فيقول في عام 182هـ رجع يحيى بن خالد البرمكي من مجاورته بمكة إلى بغداد. (ابن كثير، البداية ج10: 179.) ويحيى هو الذي عيّن ابنه جعفراً وزيراً لابنه من الرضاعة هارون الرشيد. (الطبري، تاريخ الطبري ج 3: ص537)
من مراجعة علاقة الخليفة العباسي بالبرامكة يجد الإنسان أن هارون الرشيد كان مكبلا من طفولته بالبرامكة. فيحيى أبوه من الرضاعة، والفضل وجعفر اخوته من الرضاعة. ولهذا كان سلوك يحيى يعكس نوعا من التسلط كما تقول بعض المصادر، ليس على الخليفة من الناحية الأدبية، ولكن تسلطا واقعيا على أسرته وبإصرار. ويؤكد ابن خلكان هذا النوع من السلطة، حيث يقول: بأن الرشيد فوض إلى يحيى أمور الخلافة وأزمّتِها، ولم يزل كذلك حتى كانت نكبة البرامكة. (ابن خلكان، وفيات الأعيان ج1: ص333- 334).
وعند تراجع نفوذ البرامكة بعد وفاة الخيزران والدة هارون الرشيد، أصدر الرشيد بعد فترة وجيزة من رحيل الخيزران أمراً يقضي بإعفاء جعفر البرمكي من حمل خاتم السلطة، وموجها بذلك أول ضربة إلى عائلة البرامكة للحد من نفوذها.
سبب نكبة البرامكة:
وفي ساعات قليلة انتهت أسطورة البرامكة وزالت دولتهم، وتبدت سطوة تلك الأسرة التي انتهت إليها مقاليد الحكم وأمور الخلافة لفترة طويلة من الزمان، تلك النهاية المأساوية التي اصطُلح على تسميتها في التاريخ بـ “نكبة البرامكة”. (البداية والنهاية في 21 جزء، لابن كثير إسماعيل بن عمر الدمشقي (توفي 774 هجرية)، الجزء13، ص 639).
بالرغم من ان المصادر التاريخية لا تزال غامضة حول السبب الحقيقي لوفاة جعفر وسقوط البرامكة. فعن نهاية البرامكة يقول كل من الطبري وابن كثير، أن مسرورا الخادم هو الّذي نفذ حكم الرشيد بقتل جعفر. ثم تم سجن يحيى ابن خالد البرمكي، وابنه الفضل. وأرسل الرشيد من ليلته البرد بالاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها ومن كان منهم بسبيل. فأخذوا كلهم عن آخرهم. فلم يفلت منهم أحد وحبس يحيى بن خالد في منزله وحبس الفضل بن يحيى في منزل آخر وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الدنيا. وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته فنصب الرأس عند الجسر الأعلى، ونودي في بغداد بأن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم، إلا محمد بن يحيى بن خالد فإنه مستثنى منهم لنصحه للخليفة. (الطبري، تاريخ، الكرمي ج2: 1822؛ ابن كثير، البداية ج10: 190)
لقد كانت عملية قضاء الرشيد على سلطة البرامكة حركة خاطفة، ومفاجأة غير متوقعة. ولكن لماذا أوقع بهم الرشيد، وما الذي غير قلبه عليهم؟! وماهي الأسباب من وراء ذلك؟ الحقيقة في هذه المسألة غير أكيدة واختلف فيها المؤرخون، الأرجح أن هذه الأسرة الفاضلة قد بلغت من العز مبلغًا عظيمًا.. وهناك دائمًا الحاقدون يغيظهم أن يصل غيرهم إلى تلك المنازل، فيلجئون إلى الوشاية والوقيعة بحيلة ومكر. فقد تغير قلب الرشيد تجاههم بفعل فاعل. ويمكن حصر أهم الأسباب التي سجلها المؤرخون لنكبة البرامكة في الأسباب المباشرة وغير المباشرة التالية كما ذهب اليها المسعودي ومؤرخين آخرين فيما يلي:
يرجح المؤرخ أبو جعفر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ سبب ذلك قيام جعفر بن يحيى بتهريب يحيى بن عبد الله بن الحسن من سجن الرشيد سرًّا؛ لأنه تعاطف معه لأنه من نسل آل البيت. وقد اتهم البرامكة بالتشيع من قبل بعض المؤرخين، فنم الفضل بن الربيع على جعفر في ذلك حيث كان يتحين فرصة يؤلب بها الرشيد على البرامكة. وقيل: إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة. وقيل: بسبب العباسة أخت هارون الرشيد. ومن العلماء من أنكر ذلك. ووقر في نفس الرشيد أن البرامكة يؤثرون مصلحة العلويين على مصلحته، وهذه التهمة أشد من تهمة الزندقة عند المهدي وانفرط عقد الثقة بين الخليفة الرشيد والبرامكة وهم أحباؤه وخلصاؤه، فتحمست أمامه عيوبهم وجعلته يستريب فيهم لأدنى شبهة. حتى كانت سنة 187هجريةـ وفيها كان مهلك البرامكة على يدي هارون الرشيد قتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي بطريقة بشعة، ودمر ديارهم وذهب صغارهم وكبارهم. ويبدو أن الرشيد قد ندم بعدها؛ فقد كان يقول: لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي، وأني تركتهم على حالهم. (المسعودي، مروج الذهب ج2: 15- 18؛ نقلا عن الأباصيري، الجهشياري، طبعة دار الكتب العلمية ص211).
ويقول المسعودي: كانت زبيدةُ أم جعفر زوجُ الرشيد بالمنزلة التي لا يتقدمها أحد من نظرائها. وكان يحيى بن خالد لا يزال يتفقد أمر حرم الرشيد ويمنعهن من خدمة الخدم لهن، ويغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح معه، حتى ضيق على حرم الرشيد، فشكته زبيدة إلى الرشيد.
وذكر القاضي ابن خلكان في “الوفيات” صفة أخرى في مقتل جعفر، وذلك أنه لما زوج الرشيد جعفرا من العباسة أحبته حبا شديدا، فراودته عن نفسه فامتنع أشد الامتناع من خشية أمير المؤمنين، فاحتالت عليه العباسة فوطأها وحملت منه في تلك الليلة!!(ص 333). ثم إن والده يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة، حتى شكته إلى الرشيد زبيدة مرات، ثم أفشت له سر العباسة، فاستشاط غضبا، ولما أخبرته أن الولد قد أرسلت به إلى مكة حج عامه ذلك حتى تحقق الأمر. فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن، ووصل الرشيد مكة، فوكل من يثق به بالبحث عن أمر الصبي حتى وجده صحيحاً، فأضمر السوء للبرامكة.. (ابن خلكان، نفس المصدر السابق، ص 334)
يعزو شرفخان قتل هارون الرشيد ليحيى وجعفر البرمكي إلى الوشاية عليهم من قبل الحاسدين. أما إبن خلكان فيعزو قتل هارون الرشيد لجعفر بن يحيى لمخالفته شرط الخليفة على زواج أخته عباسة بنت المهدي لجعفر من دون أن يدخل بها، لأن هارون الرشيد كان يحبهما وكان يحضرهما مجلسه، ولا يطيق الصبر بدونهما، وقال الخليفة: أزوجكما ليحل لك النظر إليها ولا تقربها فإني لا أطيق الصبر عنكما. لكن في أحد الليالي جامعها جعفر فحملت منه فولدت له غلاماً، فخاف الرشيدَ فسيَر به مع حواضن إلى مكة(…) وعندما علم الرشيد بالقصة، أرسل مسروراً الخادم ليقتله، فذهب وقتل جعفر وهو ابن سبع وثلاثين سنة في الأنبار بمكان يسمى (العُمْر) سنة 187 وقيل 188 هجرية. (ابن خلكان، مصدر سابق، ص 343-345)
تتبع الحلقة الثالثة
أسباب نكبة البرامكة