في أجواء أمريكا المحتدمة غادرنا بصمت أبو جمال ـ عبد الله سليمان النجار.. أو عبد الله قطي كما يعرف شعبياً.. بعد ان طوى العقد الثامن من العمر.. هذا الرحيل المحمل بالكثير من العطاء الإنساني في مجال التعليم والكفاح من اجل المعرفة.. وهي السمة الغالبة لحياة أسرة امتهنت النجارة واشتهرت في سلسلة أجيال توارثت المهنة قبل ان يتوجه البعض منهم لسلك التعليم.. الذي منح الراحل أبو مجال الفرصة المعرفية والادراك الأعمق لتحليل مسببات الفقر والجهل المنتشر بين الكادحين.. وتشخيص سبل الخلاص من الجوع والذل.. مما دفعه للتقرب من جيل ثوري من الشباب.. دون ان ينخرط في صفوف أي تنظيم.. وارتبط بهم علاقات ود وصداقة من بينهم الراحل جمعة كنجي..
وهذا ما جعله هدفاً خاضعاً للمراقبة والملاحقة والاضطهاد.. حيث جرت متابعته في عهود مختلفة واخضع للاستجواب والاعتقال والنفي.. خاصة في العهد الدكتاتوري البعثي المقبور الذي أقدم على اعتقاله عام 1985 ونفي عائلته بعد التحاق ابنه البكر جمال ـ النصير دكتور حجي ـ في صفوف أنصار الحزب الشيوعي العراقي..
مما دفعه بعد إطلاق سراحه للعمل في متجر صغير لبيع المستلزمات النسائية في مدينة دهوك لما بعد انتفاضة آذار 1991 وما تلاها من أوضاع ساهمت في سحب أجهزة الدولة والإدارة المركزية من مناطق كردستان حيث توفرت الفرصة للقاء به من جديد..
تلاها أوضاع جعلته يهاجر الى أمريكا مرغماً والبقاء فيها بمساعدة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية التي كانت تراقب الأوضاع في العراق وكردستان.. وبقي خلال العقدين المنصرمين يداري شيخوخته بمساعدة أبنائه وبناته.. لغاية تدهور صحته قبل سنتين وعدم مقدرته على الحركة.. حيث بقي ملازما للفراش قبل ان يودعنا الوداع الأبدي.. ويرحل عن عالمنا الذي ما زالت تتحكم به الضباع.. رحل أبو جمال وهو محملاً بالكثير من الأحزان والهموم..
لم تكن هموماً شخصية ـ ذاتية تتعلق بالغربة ومعاناة الاغتراب.. ولم تكن نتيجة فقدانه لممتلكاته وخسارته المادية.. رغم أهمية ذلك لأي انسان مكافح يعتز بمسكنه وارضه وحارته التي نشأ فيها بين اقرانه وجيرانه.. والمدرسة التي تعلم اجوائها أولى الحروف..
رحل وهو ينظر من حوله بلا جدوى من خلال الصور وما تبثه محطات الفضاء من اخبار لاقتحام الدواعش لمناطق سنجار التي عاش فيها وارتبط بناسها بعلاقات ود واحترام.. وهو لا ييأس من توجيه الكادحين من أبناء سنجار لمواصلة العلم والتعليم والكفاح من اجل حياة أفضل تليق بالبشر في هذا العصر.. وتبعها بعد أيام دخول الدواعش لمسقط رأسه في بحزاني وبعشيقة وما رافقها من اخبار مروعة واحداث يندى لها الجبين..
كان العلم رايته التي راهن عليه.. وكانت المفاجآت في أكثر من موقف مرّ به حينما واجه تلاميذه الذين أصبحوا في الضفة الثانية من شط الحياة.. وانتسبوا وعملوا في أجهزة القمع ودوائر الأمن بينهم مدير أمن نينوى في زمن البعث.. وتلميذ ثاني له أًصبح مديراً لأمن دهوك.. وثالث وزيراً للداخلية.. ورابعا عضوا في البرلمان العراقي.. هكذا تمتحن الذكرى، ذكرى علاقة بين معلم مجتهد لم يبخل على تلاميذه بجهد.. ورجال دولة يديرون مؤسسات امنية اضطروا لخفض عيونهم امام معلمهم المعتقل في جولات التحقيق.. وهو يتخطى مراحل الموت ومحطاته من مفاجأة لأخرى..
مفاجآت لازمته بعد الخروج من المعتقل ووصول طبيبين شيوعيين من زملاء جمال ورفاقه عبر خط ملغوم كانت تلاحقهم أجهزة القمع بتاريخ23/8/1984في اعقاب يوم شهد مواجهة بين أنصار الحزب الشيوعي العراقي وقوات السلطة في سهل الموصل.. على الطريق الرابط بين القوش وتلكيف والمار بكند دوغات..
كان نتيجتها مقتل كوادر لحزب البعث في عملية بطولية نادرة من بينهم.. أبو رسالة – مسؤول قاطع القوش للجيش اللاشعبي، الذي امتاز بالشراسة والسمعة السيئة وملاحقته لأهالي المنطقة لتجنيدهم في صفوف الجيش السيء الصيت عنوة.. وأدت لاستشهاد النصير سنحاريب ـ فاضل أسطيفو قودا من القوش بعد اصابته بنزف شديد بتاريخ 22 آب 1984..
احداث ومفاجآت غير سارة ترافقت مع تحرك أبو جمال والطبيبين الملاحقين بعد وصولهم لـ بحزاني.. ولم يكن لهم خيار الا مواصلة المشوار للعبور من سيطرة الشيخان.. التي كان قد تمركز فيها عناصر الأمن وشددوا من إجراءات التدقيق والعبور.. وطلبوا من الدكتور جهاد والدكتور عامر النزول.. ولم ينقذهم الا إصرار أبو جمال على العبور وتخطي الحاجز الأمني مدعياً انهم متوجهين الى باعذرة..
ذكريات ومواقف كثيرة يصعب اختزالها في هذه السطور عن أبو جمال وما مر به من مواقف وحكايا وقصص ونوادر ومفاجآت على امتداد عمره وهو يواجه الأخطاء والظلاّم ويعبر عن رأيه بلا تردد او خوف.. مما كان يدفع بأم جمال لتنبيهه والطلب منه بتخفيض صوته.. فكان يجيبها ما قيمة اللسان ان لم ينطق بالحق ويدافع عن الكادحين ويواجه الظلم..
ليس هذا الا اليسير مما خزنته عنك الذاكرة يا أبا جمال.. فما زلت اذكر تلك الجلسة التي اختليت بها بأبي وانت تحدثه عن إعادة قراءتك للمادية الديالكتيكية لأكثر من مرة.. وانا ما زلت في الصف الثاني متوسط ولم ابلغ الخامسة عشر من العمر.. مما دفعني لالتقاط الكتاب في اليوم الثاني والبدء في تصفحه لأخرج بحصيلة صفر في الادراك لمحتواه.. الاً شيئاً واحداً بقي ليؤسس يقيناً فكرياً في ذهني يتعلق بالإله ونفي وجوده.. وان الفلسفة المادية لا تقبل المساومة على هذا اليقين..
استذكر كل هذا والكثير الكثير مما يذكرني بحضورك الإنساني في محطات بين بحزاني وبعشيقة وسنجار ودهوك وألمانيا.. حيث كان لنا بك آخر لقاء.. تلاه سماع صوتك الواهن وهو يحمل تعب السنين وذاكرة أتعبها الزمن من أجواء أمريكا عبر التلفون.. الى اللحظة التي نقل لي فيها جمال الخبر المؤسف عن رحيلك..
هذا الرحيل الذي قال عنه صديقك أبو آزاد ـ محمود خضر.. الذي مرّ هو الآخر بتلك المحطات من الطفولة في الحارة التي جمعت بينكم في بحزاني ومروراً بـ سنجار وما فيها من مشتركات وآلام ومحن تقاسمتم تفاصيلها..
الغربة هي موت.. انها موت غير معلن.. وهو يختزل التعليق على نبأ الرحيل الأبدي لصديقه وزميله أبو جمال ـ عبد الله سليمان النجار.. في أجواء أمريكا البعيدة والمشحونة بالوباء والصراعات المحتدمة..
رحلت ورحل معك ارثك الإنساني.. وانت تفصح وتتغافل وتبتسم بطيبة وصدق للصديق والزميل الذي اجبر على كتابة تقارير عنك في زمن الانحطاط لجهاز الأمن الفاشي وانكشف امره امامك.. لكنك فضلت الصمت وتكتمت عليه..
كما كنت تفعل الخير وتساعد الفقراء في أزمنة الجوع والفقر وانت تتفق مع احمد حسن بطوش صاحب مطحنة سنجار.. الذي كان يتقاضى ثمن طحن كيس الحنطة او الشعير مبلغ 25 فلساً.. ومن لا يملك المبلغ كان يقبل بما يأخذه من طحين بدلاً من المبلغ البخس الذي لا يملكونه..
فقلت له سجل أسماء من لا يستطيعون دفع الـ 25 فلساً.. ومن يجلب لك الشعير أضف اليه تنكة حنطة وسجلها عليّ ايضا.. واستمر الاتفاق بينكم ساري المفعول ومضمون الدفع طويلا.. كان لا يعرف أولئك الكادحون من يساعدهم ويقف خلف هذا الاجراء الذي يعفيهم من دفع ثمن الطحن ويتبرع بالحنطة لهم لتمتزج بالشعير طيلة ذلك الوقت..
وفي ذلك الزمن أيضا حدث وان توقف نزول الامطار ودب القحط في سنجار واضطر الناس لتناول الحنطة المسممة المهيئة للزرع ويقال كانت مخلوطة بالزئبق الأحمر وإنها لم تكن صدفة وتسبب تناولها وفاة الكثيرين من أبناء سنجار.. وشاهدت الشيخ حسين معلمك الذي تعلمت على يده في مدرسة بحزاني اول الحروف وحينما استفسرت منه عن سبب وجوده قال لك جئت لأدور على المريدين.. فاستفسرت منه بتهكم وهل هذا زمن الطواف على المريدين؟!
فضحك وهو يربت على كتفك.. نعم يا أبو جمال.. انه الوقت المناسب لزيارتهم وتفقدهم.. انهم يعانون من القحط والتسمم.. وحان الوقت لأعيد لهم جزء من الخيرات التي كانوا يدفعونها لأباءنا وأجدادنا.. فقررت زيارتهم وتفقدهم في هذه المحنة.. وسأمنح كل عائلة مبلغ 5 دنانير لمساعدتهم بدلاً من الأخذ منهم..
هؤلاء هم جزء من التاريخ الذي نعتز به في بحزاني..
هذا هو أبو جمال.. عبد الله سليمان النجار ـ عبد الله قطي.. الذي رحل وترك من بعده اولاداً وبناتاً يتابعون مسيرته الإنسانية ليتواصل معهم العطاء الإنساني.. كان آخر ما عرفته منهم اليوم انهم تبرعوا بخيرات العزاء المؤجل بسبب إجراءات الوباء الى الطلبة من أبناء الكادحين في قرى سهل نينوى الذين يواصلون دراستهم في جامعة الموصل.. ومنظمة ذوي الاحتياجات الخاصة في بحزاني وبعشيقة..
ـــــــــــــــــــ
صباح كنجي
22/1/2021