رأفت الهجان.. رفعت الجمال.. جاك بيتون.. وغيرهم، كلها أسماء لشخص واحد عاش حياته كلها بأكثر من شخصية عميلاً للمخابرات المصرية لدى جهاز الاستخبارات الإسرائيلية المعروف بـ «الموساد».
في أكتوبر/تشرين الأول 1963، أُقيم حفل عشاء بأحد الفنادق الألمانية، كان ضمن المدعوين فالتراود – الفتاة العشرينية الألمانية شديدة الجمال -، التي تلقَّت الدعوة حينها من إحدى صديقاتها وقبلتها، دون أن تعرف أن قبولها هذا سيتسبَّب في تغيير حياتها بالكامل.
سيجعلها أيضاً ودون أن تعلم طرفاً في مُغامرات مخابراتية بين مصر وإسرائيل، وستُعايش أحداثها لمدة 20 عاماً دون أن تعرف عنها شيئاً.
خلال حفل العشاء تُقابل فالتراود السيد جاك بيتون، وهو رجل أعمال إسرائيلي يملك وكالة سفر سياحية، يبدو لطيفاً جداً، وعندما تحدَّثت إليه شعرت كأنها تعرفه منذ زمنٍ طويل.
لم تكن ترغب في أن تتطور العلاقة، لأنها تعرف أنَّ الرجل أتى زائراً فقط.
بعد السهرة أوصلها جاك إلى منزلها، وعلى مدخل البناية قدَّم لها باقة ورد، وأخبرها برغبته في الزواج منها، وأنه سيسافر إلى فيينا لـ 10 أيام، سيعود بعدها إلى ألمانيا ليتلقَّى ردَّها.
حياة زوجية مُثيرة ومُطمئنة!
حينما استقصت فالتراود عن جاك وجدت أنَّ كلَّ شيء يبدو طبيعياً، وقد توصَّلت إلى اسم شركته التي يمتلكها في تل أبيب. قبلت فالتراود الزواج، وعاشت معه في تل أبيب، وأنجبت منه.
كانت حياتُها مثيرة، فكان يدعوها إلى أفضل المطاعم والفنادق، ولا يتردد في شراء أي شيء يعجبها من ملابس ومجوهرات.
كانا يلتقيان في زياراتٍ عائلية مع كثيرٍ من الشخصيات الإسرائيلية البارزة، مثل وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان، ولم يكن غريباً عليها أيضاً مُقابلة رئيسة الوزراء غولدا مائير في إطار علاقات زوجها.
حينما ذهبت فالتراود مع جاك في رحلةٍ إلى مصر قابلت أيضاً شخصياتٍ بارزة، ولم تُصدِّق نفسَها وهي مدعوَّة للقاء الرئيس المصري آنذاك أنور السادات.
وحينما سألت فالتراود زوجَها كيف يعرف شخصياتٍ بارزة كهذه في الدول المُختلفة، أجابها أن هذا هو حال رجال الأعمال.
بعد سنوات من الزواج: جاك لم يكن جاك!
أخبرها ابن أخيه بحقيقة أمره، لكنها لم تُصدِّق، فذهبت تبحث في كل الأماكن المُتاحة لتعرف حقيقة الأمر، حتَّى وصلت إليها مُذكراته التي كتبها إليها بخطِّ يده، ليخبرها بالحقيقة كاملة، ولتعرف منها أنها عاشت نحو 20 عاماً مع مصري مسلم، هو رفعت الجمَّال.
حينها فقط لفت نظرها مداومة زوجها على قراءة القرآن، الذي كانت تفسِّره حينها بأنه يعرف العربية جيداً، ومن الطبيعي أن يقرأ ما شاء، عرفت فالتراود أيضاً أن زوجها كان مُكلَّفاً بتأدية مَهمَّة سرية طوال سنوات زواجه منها، حيث عاش في إسرائيل جاسوساً لصالح المُخابرات المصرية.
قبيل سنواتٍ من مقابلة فالتراود وجاك في ألمانيا، لم يكن الوضع في مصر مُستقراً، هناك الكثير من أحداث الحرائق والاغتيالات المُتكررة، وهذا كان نصيب مصر من أهداف الشبكة التجسسية التي زرعتها إسرائيل في بعض الدول العربية.
تأسيس المُخابرات المصرية والحاجة لجاسوس
كان هدف إسرائيل من هذه الحرائق والاغتيالات هو إفساد العلاقات بين مصر من جهة وأميركا وبريطانيا من جهة أخرى.
من أجل تحقيق هذا الهدف زرعت إسرائيل في مصر جاسوساً مُتنكراً في شخصية ضابط إنكليزي، الصدفة وحدها هي التي أدَّت إلى كشف هذه الشبكة اليهودية. ففي مساء 23 يوليو/تموز عام 1954 كان الجاسوس الإسرائيلي يضع في جيبه عبوة كيميائية بهدف تفجير مكانٍ ما، لكن يلعب القدر دوراً في أن تنفجر العبوة في جيب الجاسوس قبل أن يصل إلى المكان المُستهدف، وهو ما يجعله ينكشف.
في هذه الأجواء كانت مصر تبحث في تأسيس جهاز استخبارات سمّاه مؤسِّسه زكريا مُحيي الدين بـ«المخابرات السرية»، وقد أخذ اللواء المصري عبدالمحسن فايق، وكيل وزارة التموين سابقاً، على عاتقه مهمة البحث عمَّن أصبح بعد ذلك أشهر جاسوس مصري.
وصل اللواء إلى بغيته، الجاسوس «رفعت الجمال»، المعروف شعبياً بـ«رأفت الهجان»، العميل 313، كما سمَّته المُخابرات المصرية.
أبحر الجمّال إلى إسرائيل من الإسكندرية عام 1955م، وخطى خطواته الأولى في تل أبيب، في شارع ابن يهودا، حيث تنتشر مكاتب شركات السياحة والطيران، وجد رفعت طريقه في التنكُّر والعيش داخل إسرائيل في جلباب شخصٍ آخر لمدة 20 عاماً، دون أن يستطيع أحد كشف أمره، حتى زوجته التي عاشت معه، فقد أصبح «جاك بيتون»، رجل الأعمال الذي يمتلك شركة سياحية في قلب تل أبيب، ويحمل جوازاً إسرائيلياً، لكنه مولود في مصر بمحافظة المنصورة.
قصته قبل وصول المُخابرات المصرية إليه
ولد رفعت علي سليمان الجمّال في العام 1927م، كفله أخوه بعد وفاة والده -وفقاً لمذكراته– لم يوفّق في الدراسة رغم كل محاولات أخيه، وظهر ميله الشديد للتمثيل والسينما، وقد أخذه الممثل بشارة واكيم معه بالفعل في ثلاثة أفلام، بعدما أقنعه بمواهبه الفنية.
عمل في شركة بترول أجنبية تعمل في البحر الأحمر، وقد وقع الاختيار عليه لإجادته اللغتين الإنكليزية والفرنسية، لكن بعد ذلك تم طرده بسبب اتهامه باختلاس أموال الشركة. ويقول هو عن ذلك إن مدير الفرع هو مَن اختلس وورَّطه في الأمر.
عمل بعدها الجمال ضابطاً لحسابات السفن، على إحدى سفن الشحن، وغادر لاحقاً إلى الولايات المتحدة، وأقام بها بشكل غير قانوني، فبدأت إدارة الهجرة تطارده، ووُضع اسمه في القائمة السوداء في أميركا.
غادر حينها إلى كندا، ومنها إلى ألمانيا التي فقد فيها جواز سفره فاتَّهمه القنصل المصري هناك ببيع جواز سفره، ورَفَض إعطاءه وثيقة سفر، وألقت الشرطة الألمانية القبض عليه وحبسته، ثم تمَّ ترحيله قسراً إلى مصر.
عمل الجمال بعد عودته بشركة قناة السويس، لكنه لم يكن يمتلك أي وثائق ولا هوية، فقام أحد المزوِّرين بتزوير جواز سفر وهوية له باسم علي مصطفى، وعمل في قناة السويس بهوية مزورة حتى قيام ثورة 1952 .
ترك رفعت العمل بعدما بدأ البريطانيون في فحص الهويات الشخصية بتدقيقٍ أكبر، وذهب للقاهرة وحصل على جواز سفر مزوَّر لصحافي سويسري، وبدأ ينتقل من اسمٍ إلى اسم حتّى تم القبض عليه، بعدما اشتبه به ضابط بريطاني في ليبيا، وتم تسليمه للمخابرات المصرية، وبدأ التحقيق معه على أنه شخصية يهودية!
اعترف الجمَّال للضابط الذي كان يستجوبه بكلّ شيء، وكيف انخرط في مجتمعات اليهود، وكيف تمثل سلوكهم وعاداتهم من منطلق الاهتمام بأن يصبح ممثلاً، من هنا تعرَّفت المُخابرات على الجمّال، وأدركت أن عليها استغلال مواهب الرجل لزراعته في إسرائيل بالفعل.
العميل 313
في شارع يوشع بن نون في تل أبيب، عاش العميل 313 باسمٍ مُستعار وشخصيةٍ مُستعارة ودينٍ مُستعار، ليتمكَّن من تأدية مهمته السرية.
وبالفعل، تمكَّن خلال هذه المَهمّة من وضع الموعد السري الذي حدَّدته إسرائيل لضرب العرب عام 1967 بين يدي القيادة المصرية.
هو أيضاً الذي تمكَّن من كشف الكثير من أغلى جواسيس إسرائيل، ويُقال إنه هو الذي كشف الجاسوس الإسرائيلي الشهير في سوريا إيلي كوهين، حيث رأى صورته مع يهودية بإسرائيل، وحينما سألها من هذا قالت له زوج أختي، هنا طارت رسالة من تل أبيب للقاهرة، ليتم فتح ملف إيلي كوهين، ويوضع بين يدي الرئيس السوري آنذاك أمين الحافظ، وهو ما ينفيه جدعون بن عزرا، النائب السابق لرئيس الموساد.
العميل 313 أيضاً هو الذي تمكَّن من نقل خرائط مُفصلة لخط بارليف، ووضعها بين يدي القيادة المصرية.
على شاشات التلفزيون المصري جُسدت شخصية رفعت الجمّال في عمل درامي، كتبه صالح مُرسي بترتيبٍ مع المُخابرات العامة المصرية. أورد خلاله كافة المعلومات الدقيقة والحقيقيّة حول شخصية رفعت الجمال، وقد قام بإخراج العمل يحيى العلمي، وقام ببطولته الفنان المصري محمود عبدالعزيز، تحت اسم «رأفت الهجان»، ومن هنا عرف الشارع المصري والعربي الجاسوس المصري والدور الذي قدَّمه، لاقى العمل نجاحاً جماهيرياً كبيراً، لتفوق شهرة رأفت الهجان كلاً من رفعت الجمال وجاك بيتون.
هل كان الهجّان عميلاً مزدوجاً؟
في عام 1993م، نشرت صحيفة معاريف صفحةً كاملة تقول فيها إن رفعت الجمال لم يكن جاسوساً لصالح مصر فقط، وإنما كان عميلاً مزدوجاً للدولتين، وقد عمل بشكلٍ أساسي لصالح إسرائيل، وأسهم في تمكين إسرائيل من الانتصار في حرب 1967.
ادعت الصحيفة أيضاً أنه حين أرسل الجمّال إلى إسرائيل اكتشفت المُخابرات الإسرائيلية أنه شخص غير عادي، وتم إلقاء القبض عليه ليعترف فوراً أنه من المُخابرات المصرية، وهددوه بأنه سيتعرض لمُحاكمة كبيرة جداً، وأنه إذا أراد الإفلات من العقوبة والمُحاكمة فعليه أن يصبح عميلاً مزدوجاً بين مصر وإسرائيل.
وفقاً للصحيفة فقد بدأوا في إعطائه معلومات دقيقة لينقلها إلى مصر، كي يبنوا مصداقيته أمام المُخابرات المصرية، لم يتوقف الأمر في الصحف الإسرائيلية عند هذا الحد، ففي عام 2014 تكرر الأمر مرة أخرى، تُصر إسرائيل أن تُبرز عبر صفحات من صحفها أن رفعت الجمّال كان جاسوساً مزدوجاً لصالح الدولتين.
وهي نفس الادعاءات التي يؤيدها اللواء رفعت جبريل، وهو أحد قيادات المُخابرات المصرية، في حواره مع جريدة المصري اليوم، الذي تحدَّث عن الكثير من الموضوعات، من بينها موضوع رفعت الجمال، يضع جبريل بعض القواعد والافتراضات حول رفعت الجمّال، التي عارضه فيها الكثيرون، حيث قال إن أي جاسوس أطول فترة يستطيع مكثها هي أربع سنوات، وبعد ذلك يُصبح عميلاً مزدوجاً، وإن الإسرائيلين قاموا بمساعدة الجمّال كثيراً، ولديه الكثير من الشركات والاستثمارات في أوروبا بسببهم، وإن المسلسل قدَّمه ببريقٍ مبالغ فيه.
كيف كان رأفت الهجان عميلاً مزدوجاً وهو يعيش في إسرائيل؟
معارضة الحجج التي أوردها الضابط المصري ردَّ عليها الإعلامي المصري أحمد المسلماني، بأن هناك الكثير من الجواسيس الذين طالت مدة عملهم عن السنوات الأربع، دون أن يكتشفهم أحد، ودون أن يتحولوا إلى عملاء مزدوجين، أما عن المساعدات الإسرائيلية التي كان يتلقاها الجمّال بشأن استثماراته فهذا كان أمراً طبيعياً؛ لأنه كان يتعامل كشخصية إسرائيلية بارزة وهامة ومُقربة من القيادات.
يستند المسلماني في دفاعه إلى حوارٍ أجراه الكاتب الصحافي سعيد الشحات مع فتحي الديب، وهو واحد من بين 8 أشخاص من أعمدة المُخابرات المصرية، بالتعاون مع زكريا مُحيي الدين، الذي تحدّث خلاله الديب بانبهار عن شخصية الجمّال، وكيف استطاع بذكائه الاستثنائي أن يعيش في إسرائيل 20 عاماً دون أن يكشف حقيقة أمره أحد.
وهو ما أكده أيضاً محمد نسيم، أحد أبرز رجال المُخابرات المصرية قائلاً: «تتحرك إسرائيل كردّ فعل لما أحدثه نشر قصة رأفت الهجان، ذلك البطل المصري الرفيع الكفاءة والمستوى، الذي عاش في إسرائيل 20 سنة دون أن يفتضح أمره، إلا بعد إذاعة المخابرات المصرية للقصة بنفسها، ولو كان الهجان عميلاً مزدوجاً كما يدعون، فلماذا ظلَّ في إسرائيل؟ ولماذا لم ينتقل للإقامة في مصر أو في إحدى الدول العربية؟ كيف يكون عميلًا للموساد وهو يعيش في إسرائيل؟
وفاة الجمّال ومعاناة أسرته من الاتهامات المُوجهة إليه
توفّي الجمّال عام 1982 بعد إصابته بمرض السرطان، دون أن تكتشف حقيقته، وأودع مُذكراته التي كتبها بخط يده لدى محاميه، وطلب منه تسليمها لزوجته بعد ثلاث سنوات من وفاته، حتى تكون قد تجاوزت الصدمة، وتكون مؤهلة لمعرفة الحقيقة، التي نشرتها جريدة الأهرام المصرية فيما بعد.
صدَّر الجمال مذكراته برسالة اعتذار وجَّهها لزوجته قائلاً: «حبيبتي فالتراود، عندما تقرأين هذه الكلمات سيكون قد مضى وقتٌ طويل منذ أن تركتكم، ربما تكونين الآن قادرة على قبول الحقيقة، أعرف قسوة الألم الذي تشعرين به، لن تعرفي ما كنت أعانيه من عذاب بسبب كذبة اضطررت أن أعيشها، أرجوكِ لا تستبقي الحكم عليَّ، فأنتِ تعلمين أنني لم أحب أحداً أبداً أكثر منكِ».
لم يتمكن رفعت الجمّال من تسجيل ابنه باسمه الحقيقي، فابنه إلى الآن هو دانيال جاك بيتون، الذي طالبت عائلته مراراً بأن يلقى مُعاملة تليق بما قدَّمه والده من خدمات للقيادة المصرية، وأن تكف الكتابات والادعاءات التي تتحدث عن كونه كان عميلاً مزدوجاً للبلدين، لأجل ابن الجمّال وحفيده، تقول زوجته أودّ أن يعرف ابني وحفيدي أن زوجي كان بطلاً، وأن المصريين يحبونه ولا يتهمونه بالخيانة.
قالت فالتراود في حوار مع فضائية أكسترا نيوز المصرية، إنها لم تكن تهتم بردود فعل جيرانها اليهود أو الإسرائيليين بعدما علموا بحقيقة زوجها، وأنه جاسوس مصري، وبعد عرض مسلسل رأفت الهجان توقَّفت كل علاقتهم بالإسرائيليين، كما خشي منها المسؤولون الألمان، وكانوا متحفِّظين في التعامل معها، وأضاف دانيال -ابن الجمّال- أنه تم إبلاغهم من قبل مسؤولين إسرائيليين، أنه لا ينبغي أن تسافر الأسرة إلى إسرائيل مرة أخرى بعد اكتشاف حقيقة والده.
هل كان هو بطل العبور المصري ؟ وإذا كان بطلاً فلماذ أُسر الجيش الثالث المصري بكامله ولم يُفرج عنه إلاّ بكامب ديفد ؟ ربما كان عميلاً حقيقياً للموساد لم يكتشفه المصريون, فجعلت منه السينما المصرية بطلاً مصريّاً , لا يزال الشرق الأوسط يعيش في الأوهام ………