ويلخص الدكتور الجومرد في بيان السبب الرئيسي للنكبة ما يلي: “أن الرشيد لم يكن غافلاً عن أعمال البرامكة التي توجب محاسبتهم، ولكنه أغمض عينيه فترة غير قصيرة عنهم؛ وفاء لخدماتهم، وحرصًا على صفاء الجو بينه وبينهم، وأملاً في أن يعودوا إلى رشدهم، ولكن أمر البرامكة تفاقم، وسلطانهم ظهر على سلطانه، والنعرة الفارسية والشعوبية تكالبت على قوميته، واستبد “يحيى بن خالد” بكل أمور الدولة، وتدخل “جعفر بن يحيى” في خاصة شؤونه، حتى أوقع بين وَلِيَّيْ عهده الأمين والمأمون، وغرس الحقد بينهما بما يهدد مستقبل الخلافة إذا تنازعا عليها، ومنع المال عن الرشيد بحجة المحافظة على أموال المسلمين، التي راح هو وجماعته يرتعون فيها بغير حساب.(دكتور جومرد ، هارون الرشيد، ج 2 ، ص 469). ويؤكد الجومرد بأن السبب الحقيقي لنكبة البرامكة، هو سبب سياسي، يرجع إلى أنهم استغلوا نفوذهم واستأثروا بالسلطة في أيديهم. تجاوز جعفر للسلطة المفوضة إليه. فكان يتجرأ أحيانا باتخاذ قرارات تخالف رغبة الخليفة.
وهناك من ذهب إلى القول بأن هارون الرشيد حينما عيّن الفضل بن يحيى سنة 178هجرية واليًا على الجانب الشرقي للدولة باتخاذ “خراسان” مقرًّا لولايته، كوَّن بها جيشًا عظيمًا من العجم، قوامه خمسمائة ألف جندي، دون أخذ رأي الرشيد وسماه “العباسية”، وجعل ولاء هذا الجيش للبرامكة وحدهم. ولما علم الرشيد بذلك الحدث الخطير، استقدم الفضل إلى بغداد من غير أن يعزله، فحضر إليها ومعه فرقة من هذا الجيش عددها عشرون ألف جندي مسلح من الأعاجم. (د. جومرد، نفس المصدر السابق)
ومَنْ يؤخذ على جعفر البرمكي قتله عبد الله بن الحسن أحد أفراد آل البيت بدون اذن الخليفة، وأهدى رأسه إلى الرشيد مع الهدايا. فلما نظر الرشيد إلى الرأس اقشعر جلده وقال: ويحك لم فعلت هذا؟ ويحك قتلك إياه بغير إذني أعظم من فعله. (البيهقي، لباب الأنساب ج1: 29، 44) بعد ذلك بأيام قلائل تغيّر عنده أحوال آل برمك. وعندما عاد هارون الرشيد إلى الأنبار بعث إلى جعفر بمسرور آمر حرسه ليقتله. (ابن الجوزي، المنتظم جزء 9 صفحة 133).
لكن مصادر قالت عكس ذلك بأن جعفر بن يحيى البرمكي قام بتهريب يحيى بن عبد الله بن الحسن من سجن الرشيد سرًّا؛ لأنه تعاطف معه كونه من نسل آل البيت. وقد اتهم البرامكة بالتشيع من قبل بعض المؤرخين. (المؤرخ أبو جعفر ابن جرير). هذا فضلاً هنالك البعض الذي اتهم البرامكة بالزندقة والمجوسية. إلاّ أني استبعد هذا السبب لأن مؤسسي الخلافة العباسية ومن ضمنهم هارون الرشيد كانوا يعرفون معتقد عائلة برمك القديمة، وربما كانوا هم أيضاً على ذلك المعتقد قبل دخولهم الإسلام حيث ولادتهم مدينة الري الإيرانية.
ملخص القول، ألقي هارون الرشيد القبض على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها، فلم يفلت منهم أحد، وحبس يحيى بن خالد في منزله، وحبس الفضل بن يحيى في منزل آخر، وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الأموال، والموالي، والحشم، والخدم، واحتيط على أملاكهم، وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته، ثم قطعت باثنين، فنصب الرأس عند الجسر الأعلى، وشق الجثة عند الجسر الأسفل، وشقها الآخر عند الجسر الآخر، ثم أحرقت بعد (ص 643) ذلك، ونودي في بغداد أن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم ، إلا محمد بن يحيى بن خالد، فإنه استثناه من بين البرامكة لنصحه للخليفة. ويذكر الطبري في تاريخه أن قتل الرشيد لجعفر كان بموضع يقال له العُمْرَ، من أعمال الأنبار، سنة سبع وثمانين ومائة. وأن الرشيد لما حج سنة ست وثمانين ومائة، ومعه البرامكة، وقفل راجها من مكة وافق الحيرة في المحرم سنة سبع وثمانين ومائة فأقام في قصر عون العبادي أياما. وقد كان مقتل جعفر في سنة سبع وثمانين ومائة هجرية، وكان عمره سبعا وثلاثين سنة، وكان لهم في الوزارة سبع عشرة سنة. وهنالك مصادر تقول انه قتل عام 803 بعد خلاف مع العباسة شقيقة هارون الرشيد. (الطبري، تاريخ الطبري، جمع الكرمي ج2: 1821-1822).
بعد كل الذي أقدم عليه الرشيد بحق جعفر بن يحيى وعائلة البرامكة التي قامت بتربيته وايصاله لمنصب الخلافة العباسية، فقد ندم وروي أنه قال: لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا راحة ولا رخاء، ووددت والله أني شوطرت نصف عمري وملكي وأني تركتهم على أمرهم. (ص 647).
تتبع الحلقة الرابعة
البرامكة: هل من علاقة بالديلم/ الدوملية والايزيدية
13