لماذا يقضي «كوفيد – 19» على الرجال أكثر مما يقضي على النساء؟ سؤال ما زالت الأوساط العلمية تحاول البحث عن إجابات مقنعة بشأنه بعد أن بيّنت الإحصاءات أن عدد الوفيات بين الرجال المتقدمين في السن والمصابين بفيروس «كورونا» المستجدّ يضاعف عدد الوفيات بين النساء من نفس الفئة العمريّة.
من الثابت علميّاً في حالات الإصابات بالعديد من الأمراض المزمنة أن نسبة الوفيّات بين الرجال تزيد على نسبتها بين النساء، لكن الفارق الكبير في حالة الإصابة بـ«كوفيد – 19» لا بد أن تكون وراءه أسباب أخرى، كما يؤكد فريق الخبراء الذي يهتمّ بهذا الموضوع في منظمة الصحة العالمية.
ومن المعروف أن جهاز المناعة عند الإناث هو أكثر فاعلية بصورة عامة منه عند الذكور. فقد بيّنت الدراسات، مثلاً، أن اللقاح ضد الإنفلونزا الموسميّة يولّد عند النساء مناعة أقوى من الرجال، وأن هؤلاء يحملون شحنة فيروسية أكبر من التي تحملها النساء عند الإصابة بمرض الإيدز، كما يؤكد الباحثان تاكيهيرو تاكاهاشي وآكيكو إيواساكي من جامعة «ييل» الأميركية بنتيجة بحث طويل نشرته عدة مجلات علمية، ويخضع حاليًا للمراجعة من خبراء منظمة الصحة وفريق من الباحثين المستقلّين.
وإذ يذكّر هذا الباحثان بأن قوّة المناعة عند الإناث تظهر منذ الأشهر الأولى من الحياة، حيث يلاحظ أن لديها مقاومة أكثر من الذكور ضد العديد من الأمراض، يشدّدان على أهميّة التوقف عند هذا الأمر، حيث إن الوفيات بـ«كوفيد – 19» ليست ناجمة عن الفيروس التاجي المستجدّ بقدر ما هي نتيجة الخلل الذي يصب جهاز المناعة بسبب من الإصابة.
وقد بات من المعروف أيضا أنه بعد أيام من الإصابة بفيروس «كورونا» يبدأ الجسم بإفراز كميّات كبيرة من المواد البروتينية الالتهابية التي من المفترض أن تكون هي التي تنذر «القوات الخاصة» في جهاز المناعة لمحاربة الجسم الدخيل والقضاء عليه، لكنها في الحالات الخطرة تضلّل أجهزة الدفاع فتعطّل الرئتين وتسبب الوفاة.
وتفيد آخر الأبحاث العلمية أن الرجال، خاصة في المراحل المتقدمة من السن، يفرزون كميات أكبر من هذه المواد البروتينية، ومن الخلايا الليمفاوية القادرة على تحديد الخلايا المصابة وتدميرها.
وفي دراسة نشرها باحثون من جامعة كولورادو الأميركية مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الفائت تبيّن أن بعض المصابين بـ«كوفيد – 19» يولّدون مضادات للأجسام شائبة تفاقم وضعهم وغالباً ما تؤدي إلى الوفاة، وأن بينهم 95 في المائة من الرجال، كما لو أن نظام المناعة عند الرجال في سنّ متقدمة هو الذي يضع العراقيل في طريقه عندما يفترض أن يتصدّى للأجسام الغريبة الغازية.
ومن المعروف بيولوجياً أن الرجل يحمل صبغاً، (الكروموزوم)، واحداً من نوع X موروثاً من الأم وآخر من نوع Y موروثاً عن الأب، فيما تحمل الأنثى صبغين من نوع X أحدهما موروث عن الأب والآخر عن الأم. وقد بيّنت الأبحاث الحديثة أن الكروموزوم X يحتوي على جينات أساسية لوظائف جهاز المناعة.
ومنذ أربعة أشهر أجرى فريق من الأطباء الهولنديين تحاليل وراثية على مجموعة أزواج من الأشقّاء، جميعهم من الذكور وفي العقد الثالث من العمر، تعرّضوا لإصابات خطرة بـ«كوفيد – 19» أدت إلى وفاة أحدهم. وتبيّن بنتيجة التحاليل أن لديهم جميعاً خللاً في الجينة TLR7 التي تنتج المواد البروتينية المتخصصة برصد الفيروسات التي تدخل إلى الجسم. ومن المعروف أن هذه الجينة موجودة في الكروموزوم X الذي لا يحمل الرجال منه سوى واحد مقابل اثنين عند الأنثى.
ويقول البروفسور فان در بروك رئيس الفريق الطبي الهولندي الذي أجرى هذه البحوث: «عادة لا تنشط سوى نسخة واحدة من الصبغ X لدى الأنثى، ما يعني أن حوالي نصف خلاياها يستخدم النسخ الموروثة من الأب، بينما يستخدم النصف الآخر النسخ الموروثة من الأم. وبالتالي عندما تعاني الأنثى من خلل في جينات جهاز المناعة، يمكن تصحيحه في الخلايا التي لا تستخدم النسخ المعطوبة».
يضاف إلى ذلك أن الكروموزوم X يحمل جينات أخرى قادرة على ضبط إيقاع ردة فعل جهاز المناعة عند الإناث أكثر من الرجال، خاصة في المراحل المتقدمة من العمر. وكبقية أعضاء الجسم يترهّل جهاز المناعة مع مرور الزمن، لكن الأبحاث الأخيرة بيّنت أن هذا الترهّل يبدأ عند الرجال في سن الثالثة والستين، بينما يبدأ عند النساء بعد ذلك بخمس سنوات.
ومن نتائج البحوث التي تبيّن أسباب تعرّض الرجال المصابين بـ«كوفيد – 19» لنسبة أكبر من الوفيّات مقارنة بالنساء، أن هرمون الأستروجين المقصور على الإناث يضبط وظائف العديد من الخلايا في جهاز المناعة، ويساهم في خفض معدلات البروتينات الالتهابية التي يؤدي نشاطها المفرط إلى تفاقم الإصابات الخطرة بفيروس «كورونا».
ويذكر أن دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة ميلانو أظهرت أن هرمون الأستروجين يزيد من إنتاج المادة البروتينية التي يستخدمها فيروس «كورونا» المستجدّ للدخول إلى الخلايا، لكن خلافاً للاعتقاد الذي كان سائداً بأن هذه البروتينات تزيد من خطورة الإصابة، تبين أن لها أيضا خاصيّات تساهم في خفض الالتهابات وضبط إيقاع جهاز المناعة. كما أن ثمّة مؤشرات على أن العلاجات المخفّضة لإنتاج الهرمونات الجنسية الذكريّة تساهم في الحدّ من مخاطر الإصابة بـ«كوفيد – 19».