على مر التاريخ تعتبر الإيزيدية احدى اكثر الديانات تعرضا للظلم والاضطهاد والمجازر والإبادات الجماعية (التي تسمى عند الإيزيدية بالفرمان ) التي وصل عددها الى 74 فرمان ( إبادة جماعية )حسب الذاكرة الجمعوية والشفهية للمجتمع الإيزيدي، نستنج من قرأة هذا التاريخ الملئ بالمأسي والويلات وجرائم الجينوسايد ،بان المجتمع كان في صراع دائم ومرير من الكيان المحيط به من اجل الحفاظ على هويته وكينونته ، لقد قال احد المؤرخين عن الإيزيدية مايلي ( مثّلَ وجود الإيزيدية ظاهرة متميزة في صلتهم وصمودهم وخوضهم اوجه الصراع ، مكنهم من البقاء طبيعة المنطقة الجبلية وقوة الشكيمة في مواجهة التحديات ) طوال فترات مضت تعرضت هذه الاقلية الدينية المسالمة الى الاظطهاد والتنكيل والتطهير العرقي التي تعود بداياتها ( بداية الفرمانات ) الى العهد الاسلامي واستمر الحال الى الان ،فالحكومات العراقية المتعاقبة ايضا لم تنصفهم واكثر الفرمانات عنفا كانت في زمن الدولة العثمانية ،حيث افتى وعاظ السلاطين في هذه الامبراطورية بكفرهم وتقدمت في اكثر من مرة الجيوش لقتلهم وإبادتهم .
استمرت سياسية شن الحملات على الإيزيديين وتهميشهم وقتلهم وتهجريهم وابادتهم ومسخ هويتهم التاريخية بطرق واسالبيب متعددة واخرها كانت جريمة الإبادة الجماعية التي لحقت بالإيزيدية في سنجار يوم 2014.08.03، وهي تعتبر جريمة العصر بشهادة تقارير دولية ذكرت بان مقاتلي تنظيم داعش ارتكبوا إبادة جماعية ضد الأقلية الإيزيدية في العراق ،حيث قتل وهجر وسبي واختطف الالاف من الإيزيدية ومورست بحقهم السبي والاغتصاب والاسلمة الاجبارية والاسترقاق والبيع والشراء في سوق النخاسة وتجنيد الاطفال والقتل الممنهج ……الخ.
كانت جرائم القتل والتشريد والاختطاف وسبي النساء والاسلمة الإجبارية والزواج القسري …الخ تتكرر في أغلب هذه الفرمانات ومنها فرمان الباسان ” جريمة إبادة عشيرة الباسان في تركيا الحالية “كون ابناء هذه العشيرة قد تعرضوا الى الإبادة الجماعية في 1916.05.14 بقرار من الحكومة العثمانية وبتنفيذ من العشائر الكوردية المسلمة وذلك اثر لجوء عوائل ارمينية الى قرى إيزيدية وخاصة قرية باسان ووصلت مجموعة من الناجين الى المناطق الإيزيدية في باعذرة وشيخدري ولاحقا استقروا في قرية قلعة بدري.
في هذا المقال لن نتطرق الى تفاصيل الجريمة وبواعثها وتداعياتها،فقط سنبحث في قضية الناجين والناجيات من السبي واليات تحريرهن ونوثق جانب من حياة أول ناجية ايزيدية في بداية القرن العشرين .
منقذ السبايا سمو بابير
لقد فكر السيد سمو بابير منذ الايام الاولى لوصوله مع مجموعة من الناجين بحدود 30 شخصا الى باعذرة في كيفية البحث عن اقاربه واهله وابلغ اولاد عمومته بالامر وعليه قرر ان يبذل كل ما في وسعه من اجل هذه المهمة الصعبة وكان لديه معرفة تامة بجغرافية وانثوغرافية الحياة لعشائر المناطق التي ارتكبت بحقهم الجريمة.
كان سمو بابير رجلا اشقر الشعر،ازرق العينين، طويل القامه مفتول العضلات وفي ذات الوقت كان رجلا جسورا ومجازفا وبارعا في لعب دوره التمثيلي لشخصيات دينية ومجتمعية كصوفي زاهد يتنقل بين القرى ويدعو بالخير للناس وكثيرا ما كان يتنكر في شخصية العطّار حيث كان يجوب بحمارهِ القرى المسلمة بالمنطقة يحمل معه أواني الفخار والبلاستيك والحناء والبسة واقمشة نسائية وغيرها من الأشياء البسيطة على ظهر دابته ،فتشتري النساء ما يحتاجونه من لوازم منزلية وشخصية فهي فرصة لهن لقضاء أغراضهن كما كان يُدّون العطّار احتياجات النسوة لجلبها في السفرة التالية ، كل ما تحتاجه الأسرة وأدوات الزينة والستائر واحتياجات المطبخ والتنظيف حسب مايتمكن من توفيرها وبهذا يوطد العلاقات ويعزز الثقة مع اهالي تلك القرى.
كان ينتحل مهنة العطار المتجول كون هذه المهنة توفر له الغطاء والفرصة في اللقاء بالاطفال وبنساء القرى و يتعامل مباشرة معهن على امل ان يعرف اخبار المختطفين والمختطفات والسبايا او يلتقي باحداههن وكان يعرفهم ويحاول بطريقته الوصول اليهن ومن ثم يقوم بانقاذ المختطفين والمختطفات دون ترك اي اثر خلفه .
استطاع سمو بابير خلال 13 سنة من البحث والتحري عن المختطفات في انقاذ مجموعة من السبايا وهن كل من( ريحان محمود ،حنا مراد ، مؤمن بابير، حبسىَ، عيشي مراد، خجي ليلا، هسبي ، عيشي جانكير، بيزار الياس وابنها الرضيع ، ريحان علو بالاضافة الى انقاذ ابنته عمرها ثلاث سنوات وابنه عمره سنة ونصف).
قدم سمو بابير الذي ولد في عام 1886 م حياته لقاء هذه المهمة المقدسة وضحى بأغلى ما يملك فداءً لاهله حيث استشهد في عام 1929 م وهو يحاول انقاذ ناجية إيزيدية ولاشك انه قد انتقم طوال هذه الفترة من بعض القاتلين لاهله .
مؤمن بابير أول ناجية إيزيدية في القرن العشرين
كانت مؤمن بابير امرأة إيزيدية تولد عام 1896، متزوجة من السيد ناصر ولديها ابن بأسم عبدو وعمره ثلاث سنوات واثناء جريمة الإبادة الجماعية التي ارتكتبت ضد إيزيديي منطقة باسان،كان عمرها 20 سنة يوم اختطافها وقتل زوجها ومن ثم تم سبيها مع ابنها الطفل.
امرأة جميلة وذكية بقيت في السبي لبداية عام 1918 حين انقذها شقيقها سمو بابير الذي كان يكبرها بعشرة سنوات وجاء بها من قرية (مندكرا) الى معبد لالش المقدس وضمن مراسيم دينية تم سكب مياهاً على رأسها من عين الماء المقدّسة “كانيا سبي” (العين البيضاء) في معبد لالش، كي لا تشعر بالإحباط ولتصفو نفسها من خلال تعميدها بحضور ومباركة الباباشيخ ” شيخ علي ابراهيم اوصمان ” والذي قال “ان الاخت الفاضلة مؤمن بابير وجميع الناجين والناجيات اطهر من الطهارة ولاغبار على إيمانهم ومكانتهم في المجتمع محفوظة ” وهي دعوة واضحة لأبناء المجتمع الإيزيدي إلى ضم واحتضان جميع الناجيات من ذلك الفرمان وتوفير الدعم لهن .
ثم تزوجت الناجية مؤمن بابير بعد نجاتها من ” علو قاسو ” ولها منه ولدان شمو وقاسو ووبعد ذلك بوقت قصير عادت مع زوجها الى قرية باسان وعاشت هناك لغاية 1973 وبعد ذلك رحلوا الى قرية قورخ التابع لقضاء بيشرية محافظة باطمان وبقت هناك الى توفت في عام 1975 عن عمر ناهز 79 سنة وقبرها موجود في مقبرة قورخ .
مؤمن بابير كانت شاهدة عيان على هذه الجريمة وعاشت فترة السبي والاسترقاق وتغيير الدين والتشريد وقتل زوجها والكثير من اهلها وكانت تعتبر ذاكرة قوية نقلت وقائع الإبادة الى الجيل ولد بعد الابادة وبهذا وثقت شفهيا خزين من السرديات والتي ستبقى في الذاكرة مورثة من جيل الى جيل.
في الختام
قبول المجتمع الإيزيدي في بداية القرن العشرين للناجيات العائدات من السبي اللواتي تعرضن الى الاسلمة الاجبارية والزواج القسري ليس بالأمر اليسير بل كان قرارا جريئا ونافذ البصيرة.
وبهذا الإيزيديون الباسيون وبالرغم من العادات والتقاليد الدينية والمجتمعية السائدة انذاك “قبل اكثر من عام ) الا انهم ضربوا أروع الأمثلة في التعايش والسلام والعفو واللين والإحسان والتسامح.
الهوامش والمصادر:
في هذا المقال لم نتطرق الى تفاصيل الجريمة كوننا قد نشرنا لاول مرة موضوعا عن هذه الإبادة بعنوان ” فرمانا باسيا ” باللغة الكوردية باسم مستعار ” كلش حجي الباسي ” في مجلة لالش العدد 16 ، دهوك 1996 .
نشر الباحث / داود مراد ختاري في موقع بحزاني نيت في مايو 2020 بحث من عشرة حلقات تحت عنوان ” الذكرى الرابعة بعد المائة لإبادة قبيلة باسان الإيزيدية”.
اللقاء لاكثر من مرة مع المرحوم شمو علو قاسو الباسي وهو ابن مؤمن بابير وكان مصدرا مهما للمعلومات عن هذه الجريمة وتوفي في المانيا بتاريخ 1 ديسمبر 2019.
التقينا بالسيد صديق خالد سمو بابير المعروف ب “صديق باسي” وهو حفيد سمو بابير لاكثر من مرة حول مجمل جزئيات هذه الجريمة وتحدث لنا مشكورا بالتفاصيل عن هذه الجريمة وتداعياتها .
انا احد احفاد الابادة الجماعية لعشيرة الباسان التي ارتكتبت في 1916.05.14 اثناء الحملة العثمانية لإبادة الأرمن والأشوريين والسريان المسيحيين واليونانيين ،والإيزيديين والاقليات الاخرى في تركيا الحالية وقد حملنا الصدمة الموروثة لإبادة ومجزرة لم نعايشها واصبحت مايسمى الصدمة المنتقلة عبر الأجيال (Transgenerational Trauma) او يُعرف بالصدمة النفسية بالإنابة (Vicarious Trauma) جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية لنا كافراد وعوائل وإمتداد متجذر لهويّتنا ،طبعا الحال ينسحب على جميع الإيزيديين لتعرض اسلافهم عبر مراحل التأريخ للإبادة ، ويدرس الصدمة العابرة للاجيال اوالصدمة بين الأجيال في مختبرات علم النفس وطبقت تجارب عديدة لنسل الناجين من المحرقة ” الهولوكوست ” من خلال وصف المشاكل السلوكية والسريرية فيهم وكانت النتائج على الصعيد النفسي والسلوكي والحياتي والشخصية ويصل الى المشاكل البايلوجية وتاثيرها على الجينات للجيل الثاني والثالث.
شكراً على هذا التعريف بتاريخنا لكن لديّ سؤالان أرجو الإجابة عن الثانية
1 ـ أسهل الفرمانات كانت فرمانات العهد العثماني لكنك على حق فالئيزديون لا يتذكرون شيئاً من عهد الخلافة العربية الإسلامية لأن الذين عانوها هم قد إنقرضوا ومن بقي منهم قد أسلم وإستعرب ( شيعة العراق) هل تعلم كيف كانت فرماناتهم ؟ ذبخ أو إسلام لا ثالث لهما وأرض وسط وجنوب العراق الساساني السنجاري كانت منبسطة مجال الهرب والنجاة كان محدوداً ومن يسلم تخلصاً من الذبح كان يتبع عشيرة عربية بالإسم والنسب واللغة والدين هكذا حتى نهاية العصر العباسي الأول وقد بدأ تحرر الموالي الساسان العبيد من العرب تدريجياً إعتباراً من ولاية الخليفة المأمون بعد 200 هجرية وكان على أثر ذلك تكوين المذهب الشيعي من المستعربين المتحررين
2ـ هل هناك باسان أسلموا وظلوا في قراهم ؟ وهل تعرفونهم الآن ؟
شكراً على الخبر والتوضيح حول الناجية:
لكن كل ما أقرأ واسمع أخبار حول الناجيات والمختطفات الأيزيديات أفكر بتوضيحكم حول الأخ الحقوقي ميرزا دنائي وموقفه من مشروع جلب أقربائه الى المانيا بدلاً عن الناجيات. هنا أود أن أسألك كناشط مطلع على التحايل والاختلاس بعض الناشطين اليزيدين ومنهم الحقوقي دكتور ميرزا الدنايي. حضرتك والكثير تتهمون ميرزا الدوائي بأنه جلب كل أقربائه تحت خطاء الناجيات والناجيين الى المانيا. والسيد دكتور ممو أتهمه بأنه أختلس مبلغ قدره ٣٠٠ ثلاثة مائة ألف يورو كان مخصص لمصاريف معالجة الناجيات في العراق. وقرأت في مقالك قبل سنوات بأن على دكتور ميرزا ملف في هيئة النزاهة في أقليم كردستان.
– هل هناك أمل أن تحاسب حكومة أقليم كردستان وحكومة بغداد من أستغل الناجيات واهل سنجار المسكين والبريئ؟
– ماذا ستفعل المراجع الدينية ضد هذه الظاهرة وضد المفسدين والمستغلين؟
مع جزيل الشكر والأحترام
حيدر مراد صالح
مخيم زاخو