في الرابع من شباط 2021، كان يوماً ليس ككل الأيام، بل كان يوم الأيام عندما تم في بغداد تشييع رفاة 104 جنازة لضحايا مجرمي العصر (عناصر دولة الخلافة الاسلامية المعروفة اختصاراً بداعش)، بعد أن تم تدقيق فحصها من قبل الامم المتحدة بحضور رسمي وشعبي مهيب حضره الدكتور برهم صالح رئيس جمهورية العراق والسيد مصطفى الكاظمي رئيس مجلس وزراء العراق وجمع غفير من الوزراء والبرلمانيين واعضاء السلك الدبلوماسي والشخصيات الرسمية وممثلي المنظمات الدولية والامم المتحدة في سابقة فريدة في تاريخ إبادات الإيزيديين. فكان للموقف صورة ليس ككل الصور ومنظر ليس كما هو بقية المناظر المألوفة من حيث الحضور والرهبة (رفاة الشهداء، صور المسؤولين، الحضور الايزيدي المهيب، جوقة الأرامل، أخرى لأولاد الشهداء الايتام، زوجات وامهات وبنات الشهداء ولكل منهم ألمه وحزنه، منهم مَن أظهر حزنه علانياً ومنهم مَن كبتها ليفجرها على قبور أحبابهم يوم يدفنونهم في مثواهم الأخير.
أما الشق الثاني من مهابة الموكب فهو محطتهم الأخيرة، العودة بهم إلى حيث تم الغدر بهم ظهر يوم 15/8/2014. هنا بدأت وبانت حقيقة الحقائق التي قد لا يعرفها الكثيرين وخاصة عندما بدت بعض القبور بدون زوار بعد الانتهاء من دفن الرفاة وبكل حسرة نقولها بأنه لم يبقَ من أصحاب هذه القبور أحد لكي يزوهم ويبكي عليهم سوى هذا الجمع الذي أصبح شاهداً على عصر لم تألفه البشرية حتى في وقت أعتى الدكتاتوريات في العصور الغابرة. فكانت لوحات تعبر عن دراما الهية لأرواح بريئة تنادي العرش العظيم وتسأل: بأي ذنب قٌتِلنا!! وبأي ذنب مثلوا بنا، حيث لم نكن طرفاً في ميزان سياساتهم أو كنا نمثل ثقلاً على كاهلهم سوى أننا نختلف عنهم في العقيدة.
مهابة الاحتفال كانت لائقة بحجم الضحايا في كل من بغداد وسنجار (كوجو). والكلمات هنا لا تكفينا للتعبير عن حجم الكارثة بالفرح تارة لأن أرواحهم ستنادي ربها الرحيم بأن تنتقم لهم ولعوائلهم وبراءتهم. وبالحزن تارة أخرى لفقدانهم لحياتهم التي كانت ليست ملكاً لهم فقط لكونهم آباء وأبناء وأجيال. لذلك كانت هذه السمفونية الالهية تمثل درساً بليغاً لمن يرعوى ليرى بأنه كان من الممكن أن تكون هذه هي نهاية الايزيديين حيث كان المخطط له، ولكن عزيمة الاخيار من الايزيديين كانت لهم بالمرصاد وحطمت غرورهم وأوقفهم عند حدهم وتجاوز الايزيديين حدود المعقول في الدفاع عن قضيتهم بحيث غزوا واقتحموا القلاع الحصينة التي انهارت أمام جبروت وقوة الايزيديين في جعل جينوسايدهم يزهو ويزدهر ويثمر من جديد عندما قاد السيد نايف جاسو وتجاسر ولم يكتفِ إلا بعد أن حقق ما أراد له من استحقاق يتناسب وحجم الكارثة.
فكان لهذا الموقف إعادة لكرامة الإيزيديين وكرامة الشهداء وحرائرهم وايتامهم وامهاتهم وبناتهم. وكانت إعادة لإرواء جذور شجرة الوجود الإيزيدي في سنجار بدماء كوكبة الشهداء وجَلَد وصبر وكفاح ونضال الإيزيديين لتخضر وتثمر وتتأقلم مع الواقع من جديد. وهنا نثمن عالياً كلمة الفاضلة نادية مراد عندما قالت: أي واحد حافظ على مقبرة جماعية يدعي بأنه له الحق في البقاء والمشاركة مع الايزيديين في أرضهم. كما نثمن عالياً ختام كلمة السيد نايف جاسو عندما قال : (أنا أتحدث إليكم وأمامي رفاة 104 شهيد من عائلتي وأقربائي وأهل قريتي، أيها الإيزيديين أفديكم بروحي بأن تكونوا يداً واحدة وأن تنسوا خلافاتكم فيما بينكم). هذه العبارات والكلمات المختارة هي بمثابة رصاصات في قلب العدو فيما لو تحققت على أرض الواقع. وهذا الذي يتخوف منه الآخر كي لا يتحقق، وعليكم أن تبحثوا عن تفكروا فيها أيها الوجهاء في سنجار.
فنقول بأن يرحم الله تلك الأرواح البريئة، وأن الشكر موصول لكل من ساهم وشارك في تحقيق تلك السمفونية وقدم المساعدة سواء كانت فنية أو مادية أو اعتبارية. ونشكر فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس الوزراء لرعايتهما الكريمة لهذا الاحتفال الذي يليق بهم ليكونوا مسئولين عن مواطنيهم ومشاركتهم في محنتهم. كل العرفان لموقف السيد نايف جاسو والسيدة نادية مراد ومَن معهم في هذه المساعي الذين ناضلوا على مدى سنوات لحين أن حقق حلمهم بإعادة رفاة اهلهم ليدفنوهم في أرض الحلم، أرض اجدادهم. وهنا نحث السيدات والسادة في أن لا يبقوا مكتوفي الأيدي تجاه رفاة البقية من شهداء المقابر الجماعية في كل مكان من أرض سنجار الطاهرة، لأنهم هم مَن رووا أرض سنجار بدمهم الطاهر وليس غيرهم. ومن الله التوفيق