الزعامة مهما كان الثمن !!
ان تتالي الأحداث التي يمكن مراجعتها فيما كتب ووثّق العديد من رجال السياسة والفكر والثقافة الأفاضل لتلك الفترة . . تجمع كلّها على ان الناس عشية ذلك الإنقلاب كانت تحسّ وتعي ان نذر احداث مشؤومة كانت في سبيلها للوقوع، من مؤشرات متعددة ومتنوّعة، سواءً من ثكنات الجيش والمعامل، من الدوائر والكليات والمدارس اومن الأحياء، بل حتى المواخير وعلب الليل عرفت ماسيحصل من رواّدها ايّاهم وخافت وحذّرت . .
وفي ظرف مضطرب عاشته بغداد بين (اضراب) ليس كالأضرابات لعدد من الكليات، وبين (الإحتجاج) الوحشي على زيادة سعر غالون البنزين فلسين فقط (!!)، الذي ادى الى تحطيم وحرق عدد من محطات تعبئة البنزين وعدد كبير من السيارات وقطع الشوارع، ثمّ تطوّر سريعاً الى محاولات فرض غلق محطات التعبئة ومنع سير السيارات، مؤدياً الى اشتباكات بالهراوات والرصاص مع الأهالي.
وتصاعد (الأضراب) بالشقاوات وبالسلاح الذي لم يكن يعرف مصدره آنذاك، وبتجاهل متعمد من دوائر الشرطة والأمن وتنمّر عدد كبير من منتسبيها على السياسيين والنقابيين والمواطنين حيث بدأت الأعتقالات من قبل الشرطة التي كانت في عدد كبير من القطاعات تحت أمرة الأنقلابيين من السابق، اضافة الى تصاعد التهديدات العلنية والمبطّنة لكلّ من لايتفق معهم، بصيغ (يومكم قريب)، ( ولك والله مايبقى منكم احد . . سترون !! ) . .
كانت كلّها وغيرها من المؤشرات التي تترقّب وقوع كارثة كان قادة البعث يسعون لها مستغلين سياسة (عفى الله عما سلف) من جهة، وسياسة ( ضبط النفس حفاظاً على الجمهورية) من جهة اخرى، وتفرّق القوى الوطنية، في ظرف وجدت فيه دوائر النفط والدوائر الكبرى، في البعث وسياسته حصانها الرابح آنذاك، الذي يذهب باحثون آخرون فيه، الى انها هي التي ربّته وشجّعته لذلك . . منذ تصريحات قائده ميشيل عفلق للصحافة، بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين اشار في خطاب ورسالة، ثم صلات مع عضو الكونغرنس الأميركي الأسبق مكارثي ، يعده فيها بان ” البعث خير عون لكم في الشرق الأوسط “(1)، في مرحلة الحرب الباردة، التي كانت ساخنة في العراق والمنطقة (2) .
من ذلك ومن غيره ( من قوائم الأسماء المعدّة التي شملت عشرات الآلاف من الرجال والنساء والاف اخرى لأقاربهم واصدقائهم التي اكدتها الوثائق الغربية التي كشف عنها وفق قانون الوثائق، وروايات وكتب رفاقه ذاتهم، و من سلاح و اذاعة كانت تحرّض للقضاء على الشيوعيين . .) فان رواية حازم جواد من ان المذابح لم تتم الاّ بسبب مقاومة الحزب الشيوعي، هي رواية محرّفة بشكل صارخ، فاضافة الى العادة التي لم يتخلص منها هو و امثاله، بوصم كل من لايتفق معهم بانه شيوعي، فانه يحاول بروايته للتاريخ تلك، انتزاع ابسط حق للأنسان في الدفاع عن نفسه امام من شرع بقتله وتصفيته، في ظرف ديس فيه القانون وتهزّأت فيه الأعراف علناً و لأول مرة في بلادنا منذ الإطلاقات الأولى للأنقلاب، التي استشهد اثرها قائد القوة الجوية الزعيم جلال الأوقاتي .
الاّ اذا كان هو و من على شاكلته لايزال يعتبر نفسه، انه هو القانون والمحكمة التي قررت قتل جحافل الوطنيين ، الأمر الذي فعله صدام ايضاً بعدئذ تاركاً بفراره المهين و حفرته كوارث ومآسي . . بل ويذهب ابعد في محاولة بائسة للنيل من سمعة الشهيد سلام عادل الذي لم يستطع احد من الأنقلابيين ان ينل ولو من خصلة ضئيلة من خصاله، فكرهوه وعذّبوه حتى الموت وضيّعوا جثمانه الطاهر كي لايكون مزاراً للوطنية وللتضحية بالنفس في سبيل قضية الشعب و الكادحين حتى الشهادة في العراق . . مخالفاً حتى الكبار من رعيله ذاك في اعترافهم وندمهم على ماجنوه .
لقد كان حكم البعث في شباط ـ تشرين 1963، معركة بين حزب البعث العفلقي وكلّ الشعب العراقي وحقوقه، بدأت باعدام الشهيد عبد الكريم قاسم في دار الإذاعة وتحطيم منظمات الحزب الشيوعي العراقي قتلاً وتعذيباً واخفاءً وتشريداً، ومرّت بمطاردة مناضلين تقدميين من القوميين العرب ثم بإعلان فصلٍ مأساويٍ اكثر تنكراً و وحشية مما سبق في الحرب ضد الشعب الكردي وكردستان، ثم مطاردة والتنكيل برجال الدين والمرجعيات من التي لم تنسقْ له ووقفت بوجهه . .
لتنتهي بهروب قادته الى الخارج والتسليم، والقاء السلاح والأعتكاف في المنازل بلا رقيب ولاحسيب، وكأنما كان عليهم انجاز مهمة انتهت بعد تعديل قانون النفط وغيره وبعد ان توهّموا بانهم قد كسروا شوكة العراقيين ولو الى حين. الأمر الذي كرره في الجوهر وتوهّم فيه صدام بعدئذ و لكن هيهات، و من المؤسف ان يتوهم به و يحمله سياسيون ممن يحكمون الآن . .
واذ يهاجم حازم جواد جميع الأحزاب ومنها حزبه لأخطائها، بدون تفاصيل ولامسوّغات ، ولاتحديد للأسباب ولااقتراح للحلول، ولا ذكر للظروف التاريخية ـ الأجتماعية المتغيّرة، وبدون ولو محاولة لتحديد حجم الأخطاء . . الأخطاء التي نسى انها لم تعد اخطاءً لدى حزب البعث العفلقي، الذي حكم في العراق بعد ان اغتصب السلطة بالقوة، وانما هي جرائم وطنية كبرى بعد ان وصلت بحجمها وبالأعداد الهائلة لضحاياها، حجم الجرائم ضد الجنس البشري.
انه لايتذكّر، ان حزبه الذي بدأ ببناء ارهاب واجرام الدولة بحق ابنائها وبناتها للمرة الاولى بشكل لافت علني بـ (قوانين تحكم بالإعدام في 200 مادة) او بلا قوانين . . و بحق المجتمع واحزابه وقوميّاته و اديانه و طوائفه وسائر فئاته، خالقاً نموذجاً سيئاً لمفهوم الحزب السياسي في العراق، الذي ادى الى تشويه وتسميم الثقافة السياسية بمزجها بالأجرام، وربىّ اجيالاً على الأنتهازية السياسية والفكرية والأجتماعية و النفاق و الكذب، التي صارت تسود كتلاً سياسية تحكم اليوم !
انه يحاول ان يسدل الستار حتى عمّا عاناه عدد غير قليل من اعضاء البعث، لمعارضتهم قيادتهم سواءاً في انقلاب شباط او في فترة البعث الثانية التي انتجت (القائد) المجرم صدام، بسبب آلية عمل الحزب وحاجتها لشقاواته، والتي اخذت تصفيّ وبشكل مستمر معارضيه داخل الحزب ايضاً، الأمر الذي ادىّ الى اعتقالهم وتعذيبهم وتغييبهم، واعدام عدد منهم بتهم لم تعرف حقيقتها، عوقبوا عليها بالموت وفق ( القانون ) الذي لم يعرف احداً لحد الآن ماهو نصّه . .
واذا كان حزب البعث العفلقي احد احزاب وفصائل النضال القومي العربي التحرري في فترات سابقة، الاّ انه وبسبب افكاره الأنتقائية واساليبه القسرية الدموية والأنقلابية العسكرية، وروحه الشوفينية المدمّرة وتعاليه القومي، كما جرّبته الناس طيلة سني حكمه، قد خرج على الرسالة الأنسانية النبيلة للنضال العربي التحرري وتحوّل الى اداة رئيسية للعسكرة والأرهاب في العراق والمنطقة العربية، منذ ان قام بانقلاب شباط 1963 وسخّر بكل الوسائل اعداداً من الشباب العربي للأنخراط في الحرس القومي و ما ماثله للقيام بمهماته القذرة (3).
لقد اهان البعث العفلقي الشباب العربي وخدعهم بإسم العروبة، وجنّد الافاً منهم في وحداته الدموية التي ابادت واعدمت ونزلت بالعراقيين ذبحاً عندما اضربوا وثاروا وانتفضوا، مزيّنا لهم ان ذلك من اركان النضال (العربي) ضد اعداء الأمة ! الأمة التي غيّرت مفاهيمها كتل حاكمة اليوم في ديماغوجيّاتها الجديدة و كأنها تسير على ذلك النهج ذاته.
وفي الوقت الذي لايوجد فيه نظام داخلي واضح معلن للحزب، للرجوع اليه في تسليط الضوء على تفاصيل آليات عمله ومناقشتها، عدا فقرات ومقولات كانت تعرض عند الحاجة، لم تكن سوى عبارات للدكتاتور البائد، فأنه في الواقع وطيلة عقود حكمه، اعتمد على اسلوب العنف والأكراه و التسقيط، في بناء منظماته . واعتمد على كلّ مامن شأنه تأمين سلطته وسلطة قائده فقط وكسر شوكة من اختلف معه ـ حتى داخله ـ دع عنّك من عارضه خارجه، مستعيراً الكثير من برامج واساليب الحزب النازي في تحقيق نظامه الشمولي، وعلى مقولات محرّفة من التراث العربي والأسلامي، لخلق دكتاتورية الفرد بالكذب والخديعة والديماغوجيا . .
التي صارت تُمارس الى اليوم من كُتل حكمت و تحكم في محاولة لتقليد الدكتاتورية للبقاء على كرسي الحكم لأطول فترة، و لم تبذل ايّ جهد في اعادة بناء ثقافة الشعب و اعادة بناء الإنسان العراقي، بقدر اهتمام قادتها بمصالحهم الأنانية و النهب .
ويرى كثيرون ان مصلحة البلاد وظروفها اليوم، تتطلّب من السيد جواد و رفاقه ان يتذكّروا جيداً ويتواضعوا ، في محاولة للتوصل الى تقييم علمي موضوعي، في وضع اليد على مكامن الأخطاء، ومكامن الجرائم، كما فعل عدد من ابرز رفاقهم، من اجل خدمة الحقيقة والتأريخ من ناحية، ومن اجل الوصول الى مصالحة بين من خُدع ومن اضطر ومن ندم، مع كل قوى الشعب الطامحة الى البناء والتقدم، وتقديم مجرمي الامس و مجرمي الفساد و الإرهاب الى القضاء، ومن اجل التوجه لأعادة البناء الثقافي، الخُلُقي، السايكولوجي والحضاري، ومعالجة مكامن التشوّه والخطر، والوقاية من الحلول العنفية والدموية و الفردية. في ظرف صارت تشكّل فيه المصالحة و الوحدة حاجة ملحّة للشعب و الوطن على اساس الهوية الوطنية المتساوية لكل ابناء الطيف العراقي. ( انتهى)
10 / شباط / 2021 ، مهند البراك
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1. من وثائق الخارجية البريطانية، التي كشف عنها مؤخراُ، عملاً بقانون الوثائق .
2. لقد وصف الرئيس الأميركي الاسبق جورج بوش، سياسة بلاده فيها آنذاك ، بانها كانت (اخطاءً
كبرى خلال الستين عاماً الأخيرة )، والتي غطّت مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية الى القرن
الحالي .
3. راجع التوثيق في ” كتاب العراق”، حنا بطاطو .