كان عليها حل مشكلة الكورد المجردين من الجنسية السورية
بغض النظر عن مخالفة السلطات السورية المتعاقبة قوانين هيئة الأمم المتحدة حول الجنسية، والتي خطت بنودها في اتفاقيتي عام 1954 و1961، ولم تتقيد بها ولربما لم تقم على دراستها، لئلا تعيد النظر في قضية الكورد الذين جردوا من الهوية السورية، مروجة لادعاءاتها؛ على أن إحصائية عام 1962 لم تكن مخطط بعثي، بل أقدمت عليها السلطات السابقة لها، وعلى خلفيتها كانت سلطة الأسد تخلق المبررات في ديمومة المشكلة، لحرمان أولياء الأطفال من الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية، وبالتالي التأثير على الواقع التعليمي والنفسي والمعيشي(الاقتصادي والصحي) لأطفالهم، وفي النهاية كانت غاية النظام خلق مجتمع كوردي جاهل ثقافيا، ومعدم اقتصاديا، وهزيل سياسيا.
وقد كانت تكلف سلطاتها المحلية، بدءاً من الإدارية إلى الأمنية، بهذه المهمات، وعلى أثرها ظهر جيلين من الأطفال بدون جنسية، معزولين بطريقة أو أخرى عن المجتمع السوري، وهو ما أدى إلى هجرة العديد من عائلاتهم، وكانت هذه من إحدى أهم مخططات النظام.
نعلم أن دساتير معظم دول العالم الحضاري وحتى في العالم الثالث، الأطفال يحصلون على الجنسية بحكم الولادة، إلا بعض الدول التي لا تزال تنتهج ثقافة إلغاء الآخر، وبينها سوريا البعثية والأسدية وبعض الدول العربية والمحتلة لكوردستان، وعلى أثرها فقد عانى أطفال الكورد في سوريا، من عامل نفسي مستدام، فعندما كان يرى أن والديه يعانون العديد من مصاعب الحياة، على خلفية عدمية الجنسية، ويلاحظون أن إمكانيات التنقل ممنوع ضمن الوطن بدون مراجعة المراكز الأمنية، فكان واقع مشابه للعيش في السجن، فترسخت هذه ذهنية الطفل مع مرور الزمن وتكرار حالات الطلب عند الاضطرار إلى السفر إما لمعالجة في أحدى مستشفيات الداخل، أو طلبا للعمل، فأصبح أطفال الكورد المجردين من الجنسية، يشعرون بعدمية الانتماء إلى الوطن، وأن الوطن ينبذهم، ولا حقوقهم لهم في هذه الجغرافية، وهذه أدت بدورها إلى أن الأطفال المعدومي الجنسية في الشارع أو في المدارس الابتدائية يشعرون بنوع من النقص.
أثر الواقع المعيشي لعديمي الجنسية على أطفالهم بشكل مباشر على سوية تعليمهم، وتقدمهم في المراحل الدراسية خاصة في المرحلة الابتدائية، لربما هذه المعاناة في المدينة كانت أشد منها في الريف، بحكم أن الأهالي في القرى كانوا يتعاملون بحكم القرابة، إلى جانب أن تعاملهم مع الإدارات الحكومية كانت أقل من أبناء المدن. وفي الواقع لم تتمكن العائلات من إيجاد حل لهذه المشاكل، مع وجود استثناءات، الذين تمكنوا من مراجعة الأمن بشكل متواصل، لتأمين الموافقة على نقل أطفالهم من المرحلة الابتدائية إلى المراحل الدراسية الأعلى، وتأمين الموافقة على العمل، إلى جانب الشريحة الثقافية الواعية بينهم، والتي تمكنت من خلق مفاهيم لدى أطفالهم على أنهم ضحية صراع قومي سياسي مع سلطات محتلة لوطنهم كوردستان، وقد لعبت هذه المنهجية دورا إيجابيا في نفسية الطفل، ساعدت على نقل شريحة من الإحساس بالنقص إلى الاعتزاز بالنفس وأنهم ينتمون إلى قومية تحاربهم سلطات دكتاتورية، وقد انتشرت هذه المفاهيم في العقود المتأخرة، وهي التي نبهت سلطات دمشق إلى النتائج العكسية التي خلقتها مخططهم، وعلى أثرها بدأت الحوارات مع الحراك الكوردي لإيجاد حل، وهو في الواقع لم يكن حل من أجل مصلحة الكورد، بل لإنقاذ الذات.
مع تغير المراحل العمرية، لأبناء الكورد عديمي الجنسية، اختلفت المشاكل، وازدادت صعوبة، انتقلت من الواقع النفسي إلى الواقع العملي، واجهها الطلاب المنتقلون من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية، وخاصة من الريف إلى المدينة، ومنها إلى الثانوية، وهنا تلكأت استمرارية الحياة حتى العادية منها، مقارنة بشباب المواطن العادي، وخلقت في مراحل عمرية، صدمات كبرى، كصدمة البعض عند محاولة الزواج من فتاة مواطنة، أو بالعكس، عندما كان يرغب طالب الزواج من فتاة عديمة الجنسية، وما رافقها من المشاكل عندما كان يتم عقد الزواج ويظهر الأطفال ما بين والدين يملكون المواطنة وعدمه.
والأهم عند الانتهاء من المرحلة الثانوية، وظهور الحاجز بين الشباب وطموحاتهم، ليس فقط في مجال الثقافة بل في المجالات الاقتصادية والإدارية، وحتى السياسية فيما لو أرادوا الانخراط في العمل السياسي ضمن الدولة، خاصة وقد كانوا معفيين من الخدمة الإلزامية، والتي رغم إيجابياتها على أنه لم يكن يخسرون أعوام من عمرهم، إلا أن هذه المعاملة كانت تلغيهم من جميع حقوق المواطنة، والتي هي الدراسة والعمل والحصول على المؤونة بأسعار الدولة المدعومة وغيرها من الخدمات الحكومية.
لم تتخطى هذا المعضلة إلا نسبة قليلة من الشباب، وهم أبناء العائلات الميسورة الحال، أو الشريحة الواعية سياسيا-ثقافيا، المذكورة سابقاً، والذين كانوا قد زرعوا نوع من الثقة بالنفس لدى أطفالهم وانتقلت معهم إلى مرحلة الشباب، هذه العائلات تمكنت من تحفيز شبابهم بالبحث عن الثقافة والعمل خارج سوريا، وهنا ظهرت الهجرة القسرية من الوطن، أو لنقل تهجير غير مباشر للشباب الكورد من جغرافيتهم الكوردستانية، وللأسف إمكانيات هذه العائلات كانت شحيحة بالنسبة لكلية الكورد عديمي الجنسية، وبالتالي كان صراع الأجيال المتلاحقة من الشباب، بدءاً من أعوام إلغاء الجنسية إلى قرابة العقد الماضي، ظلت ذاتها من حيث المعيشة والحصول على إمكانية الدراسات العليا، وهو ما أدى بالعديد من الشباب بالعمل في مجال الخدمات والأعمال اليومية، لتحسين الواقع المعيشي للعائلة بدل الصراع من اجل الحصول على الدراسات العليا والتي وإن تم فلا فائدة منها. ومن المؤسف أن شريحة واسعة من الشباب الكورد خسروا قدراتهم الثقافية، رغم ما كان لهم من الإمكانيات الذهنية والتفوق في المراحل الدراسية. وقد أدى هذا الواقع إلى عزل نسبة واسعة من شباب الكورد في سوريا وعلى مدى جيلين عن المسرح الثقافي، إلى جانب ما عانوه من الصراع مع الحياة المعيشية…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
6/2/2021م