“مُتعبٌ منّي،، ولا أقوى على حملي”.. أربع كلماتٍ نُشرت على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” كانت كافية ليختزل بها أحد أشهر شعراء العراق في العصر الحديث مظفر النَّواب معاناته مع المرض، مُراوغا إياه دون أن يملّ منه، وهو على أعتاب التسعين من عمره في عزلته الأخيرة ببيته الصغير بإحدى ضواحي العاصمة السورية دمشق.
ولادته وبداياته
ولد النّواب عام 1934 في الكرخ بالعاصمة العراقية بغداد، وهاجرت عائلة جده إلى الهند أيام حكم العثمانيين للعراق، وهناك تولت الحكم في إحدى الولايات الهندية، ثم عادت منها إلى العراق بضغط من سلطات الاحتلال الإنجليزي بالهند بسبب مقاومتها لها، وهو من سليل عائلة أدبية ثرية تنتمي إلى البيت الهاشمي، وكان جده لوالده يقرض الشعر بالعربية والفارسية.
تعود الشرارة الأولى لموهبة النّواب بإكمال بيت شعري أعطاه شطره الأوّل أحد أساتذته في المرحلة الدراسية الابتدائية، معتمدا على ما كان يحفظه من اختيارات جدّه في منزلهم من قصائد ومختارات أدبية، أهّلته رويدا رويدا لبناء عوامل بنائه الشعري، إلى أن بات ناظما للقصائد في المرحلة الثانوية، وناشرا لها في الدوريات والمجلات الجدارية المدرسيّة.
تمكّن النواب من صناعة شهرة أدبية لنفسه بكتابته الشعر باللغة العربية الفصحى إضافةً الى اللهجة العامّية المتداولة في العراق، معزّزا رصيد شهرته بانتقاده ومعارضته الأنظمة السياسية العربية عموما، والعراقية على وجه التحديد، وهذا ما جعله شريدا في المنافي في أغلب عقود حياته.
تغللت مبادئ الشيوعية إلى العمق الفكري للنواب، فدفعته للانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي وقدّم تضحيات كبيرة في صفوفه ولا سيما بعد الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958، وبقي على ما كان عليه حتى عام 1963، واضطر في تلك المرحلة إلى مغادرة بلده، متجها صوب إيران لاشتداد الصراع بين الشيوعيين والقوميين الذين تقلدوا الحكم بانقلاب نفذوه في 8 فبراير/شباط من العام نفسه.
لكن المخابرات الإيرانية آنذاك ألقت القبض عليه وهو في طريقه إلى روسيا وسلّمته إلى السلطات العراقية، فحكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام، لكن خفف الحكم إلى السجن المؤبد. وأمضى فترة فى سجن “نقرة السلمان” الشهير في محافظة المثنى جنوب العراق، ثم نقل إلى سجن الحلة الواقع جنوب بغداد، وهناك تمكن من الهرب والاختفاء بجنوبي العراق حيث عمل في شركة هولندية، وفي عام 1969 صدر عفو عن المعارضين فرجع إلى الوظيفة في مجال التعليم مرة ثانية بعد أن فُصل منها.
مشوار الشهرة
تُعتبر قصيدة “قراءة في دفتر المطر” التي نظمها النواب عام 1969 أولى محطات الشهرة لديه، لينتقل بعدها إلى مساحة أوسع في عالم الشهرة عند الجمهور العربي بنظمه ملحمة شعرية حملت عنوان “وتريات ليلية” الّتي كُتبت خلال 1972-1975، مؤكدا فيها التزامه التامّ بقضايا العرب القومية السياسية والاجتماعية، وأصبح تغنيه بها سمة ظاهرة في شعره.
ليشتهر بعدها أكثر في نظم الشعر السياسي المعارض والناقد للأنظمة العربية، دون أن تأخذه رحمةً بها بلجوئه إلى استخدام مفرداتٍ جريئة جدا، كما يقول في إحدى قصائده واصفا حكام العرب بها “أولاد القحبة! لستُ خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم، إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم”، ليطلق عليه بعضهم لقب “الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي”.
فرضت قصائد النواب السياسية الهجائية عليه أن يكون “شاعر الغربة والضياع”، فعاش نحو 5 عقود طريدا بين المنافي العربية والأجنبية، متوزعا في أسفاره بين دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم، وسلطنة عُمان، وإريتريا وإيران وكذلك فيتنام وتايلند واليونان، وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، فضلا عن فنزويلا والبرازيل وتشيلي.
دأب النواب على تنظيم ونشر أمسياته الشعرية بالعواصم الغربية وتحديدا لندن، وألقى فيها قصائده الكثيرة التي خصصها للقضية الفلسطينية وانتفاضتها (1987 و2000) والحثّ على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة قصيدته “القدس عروس عروبتكم”.
التفت القدر أخيرا إلى النواب بنظرة عطفٍ وحنان، ليمهد له الطريق في مايو/أيار 2011 وهو مصابٌ بمرض الشلل الرعاش بالعودة إلى بلده العراق بعد فراق عنه دام لأكثر من 40 عاما، متنقلاً في المنافي دون استقرار، واستقبله آنذاك الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني بمكتبه في قصر السلام وسط العاصمة بغداد.
الوطن المبتلى
يُمثل الوطن المبتلى بالطغاة وبالدكتاتوريات وترهيب الشعوب مشكلة النواب، لذلك أصعب ما يمكن أن يمرّ به الإنسان هو الرحيل عن وطنه، فكيف بالشاعر، والنواب لم يغادر بلاده اعتباطا إنّما التضييق المستمر على تحركاته ونشاطه الوطني دفعه إلى الخروج، ليصنع من صوته وكلماته ملاذات هائلة للثورة.
لو وجد النواب متّسعا صالحا للعيش في موئل طفولته وحياته لما غادر، ولظل مغروزا في تربته وطينه الأوّل، والمهم كما يقول هو: (للشاعر ألف جواز كي يصل القلب)، كما يقول عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عمر السرّاي.
ويُعلق السرّاي على اختيار النواب دمشق مستقرّا لعزلته الأخيرة بالقول، “منحته أمانا واطمئنانا، فهي المدينة المعطاء، فضلاً عن تناغم أجوائها المنفتحة والمدنيّة مع روح الشاعر الشفافة، وقد أُذِن لصوته أن يكون حرّا صادحا، ليعبر عن مكنونات قصائده، فإن علاقة النواب بسوريا هي علاقة أصيلة متجذرة، تنتمي للحب بأبهى صوره”.
وعن دور اتحاد الأدباء في متابعة صراع النواب مع المرض، ومن مثله من مبدعي العراق المغتربين، يؤكد السرّاي للجزيرة نت أنّ الّنواب زار الاتّحاد عندما رجع إلى العراق، فالاتحاد بيته وملاذه، وكان وقتها ما يزال قادرا على التحرّك ولو بصعوبة.
ويقول “أظنّ بأنّ الوطن كلّه سيكون مفتوحا للنواب ووفق خياره ليحل ليس في مشافي الوطن، إنما في قلوب كل العراقيين، لكن البيئة الصحية المهيّأة له في مشفاه الحالي هي بيئة مناسبة وجيدة، والأمل أن يتعافى ليعود لبريقه الأدبي والوطني، رغم تأثيرات السنين، وقسوة حالته المرضية”.
ثوريّة شعره
ما يميّز شعر النّواب باعتباره مواجها سياسيا وأنموذجا للتصدي والتمرد وكذلك المقاومة، لم يأت اعتباطا بل لأن المرحلة التي تكوّنت فيها شخصيته كانت تمور في المواجهات السياسية والاعتقالات وكذلك المطاردات بين اليسار السياسي بالخصوص والسلطة التي مثلتها الجهات السياسية ما قبل عام 1958 وما بعده وما قبل عام 1968 وما بعده وهي تحوّلات سياسية كبرى.
وكما يرى الناقد علي لفتة سعيد، فإن الشعر الذي كتبه النواب لا يخرج عن نطاق هذه المواجهة التي تعمل على تحفيز الجانب العاطفي الذي يحتاجه المواطن في تلك الفترة وليس المتلقي في الوقت الراهن حيث لم يعد الأدب مؤثّرا في المحيط كما كان مظفر النواب ومحمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وقبلهم عبد المحسن الكاظمي وجميل صدقي الزهاوي مثلاً في المراحل العراقية المهمة التي مرّ بها العراق.
ويضيف سعيد أن الشعر الذي كتب في تلك المرحلة هو شعر ثوري عاطفي مواجه لما هو سلطوي مؤثر بشكل سلبي على المجتمع، إضافة إلى أنّ المرحلة التي وجد فيها النواب كانت مرحلة البحث عن الهوية الثقافية مقابل طغيان الهوية السياسية والاستعمار والحكم التابع والأحلاف وغيرها. وساعدت هذه العوامل بتفاعل الكثير من المواطنين والقرّاء العرب معه في نصوصه التي كتبها باللهجة العراقية، كما يقول سعيد للجزيرة نت.
وعن سبب اختيار النواب للعزلة، يشير الناقد العراقي إلى أنها عزلة عمر وواقع سياسي لم تعد فيه المواجهة والتمرّد أساس التطوّر الشعري أو اللعب على العاطفة، ولهذا نجد أن التغيير الذي حصل في عام 2003 بالعراق كان يندرج ضمن المتغيرات التي تأثر بها المواطن العربي الذي لم يعد يفرح كثيرا بأي متغيّر لأن النتائج واحدة ما بين السابق واللاحق، ولم يعد يفكر مثل ما كان يفكر الشاعر أو الأديب في الخمسينيات وما تلاها من القرن الماضي.