بمناسبة قرب زيارة البابا إلى العراق ورغبته زيارة الناصرية باعتبارها مسقط رأس إبراهيم، وهو يعلم أن هذه اسطورة يعتمدها الغرب لأغراض سياسية عبرية، فإبراهيم يقول بنفسه في سفر التكوين 1:24-10، إن أرض ميلاده هي حارن-أور هاي، أي الرها أورفا، في تركيا الحالية، وكتبنا مقالاً مفصلاً 4 أجزاء، أن أور معناها مدينة، وكلدان: سحرة، منجمين، مشعوذين، فأور الكلدان معناها مدينة السحرة، مثل أورشليم مدينة السلام، ثم كتب عدد من المختصين أيضاً أن أور ليست في العراق، بل في حاران، ونضيف:
رغم وجود المادة التاريخية والجغرافية في الكتاب المقدس، فهو ليس كتاب تاريخ وجغرافية أكاديمي بحتٍ، بل هو كتاب ديني إيماني هدفه خلاص الإنسان وعلاقته بالله، خاصةً بعد اتضاح التاريخ والجغرافية التي أثبتتها الآثار والوثائق المكتوبة، نعم هناك مادة تاريخية وجغرافية في الكتاب المقدس صحيحة ومطابقة للعلم، ولكن في نفس الوقت هناك كثير من الأمور التاريخية والجغرافية فيه ليست حقيقية بل رمزية، وكثير من القصص رُتِّبت بصيغة إيمانية ورمزية ليتقبَّلها المؤمن بسهولة، ونتيجة انتشار الكتاب المقدس في العالم وبكافة اللغات تقريباً فقد ظل أكثر من 2000 سنة مصدراً مهماً تاريخياً وجغرافياً لكثير من رجال الدين والكتَّاب والرحَّالة في التاريخ، والسبب هو عدم وجود اكتشافات أثرية وكتابية علمية حقيقية، وفي التاريخ وخاصةً في القرنين الماضيين عندما ظهرت مسألة القومية، تم استغلال الكتاب المقدس سياسياً من قبل اليهود وبعض الطوائف المسيحية كالكلدان والآشوريين الحاليين الذين هم سريان، انتحلوا اسمي آشوريين وكلدان حديثاً، ثم بدؤوا باستغلال الأسماء والأماكن والقصص التي وردت في الكتاب المقدس، وتفسيرها بصورة خاطئة، وتحويلها (تجييرها) لصالح تعزيز أفكارهم ومشاريعهم السياسية.
لم يكن هدف كاتب السفر في الكتاب المقدس ومن اعتمد عليه فيما بعد من رجال دين ومؤرخين ورحَّالة في العصور القديمة التركيز بدقة لإيجاد تسميات قومية وسياسية لأجيال مقبلة ستختلف فيما بينها بعد آلاف السنين، إلاَّ إذا كان هدف المفسِّر والمؤرخ هو حصراً تحديد اسم وهوية شعب، وليس كلاماً جغرافياً أو تاريخياً عاماً، أو كلمة عابرة بدون قرائن تدعمها، فاختلاط أسماء الحضارات والأقوام مثل: الحثيين والحوريين، الميتانيين والميديين، الأرمن والآراميين، الكلديين والخلديين، أو إعطاء اسم واحد لمنطقتين أو اسم منطقة بدل أخرى، كالسومريين والأكديين، آشور وبابل، أو تسمية قوم باسم الدولة التي تسودهم، أو تسمية جغرافية، أو باسم دولة سقطت حديثاً، وبقي اسمها يستعمل بعدها بعض الوقت مثل، عثمانيين، سوفيت، يوغسلاف، فهذه الأمور طبيعية عند المؤرخين القدماء، فمثلاً الرحَّالة اليوناني سكيلابس استعمل اسم الآشوريين على كبدوكية نهاية القرن السادس وبداية الخامس ق.م، والعرب يُطلقون اسم الإفرنج على الأوربيين، لكنه حرفياً يعني الفرنسيين، ويطلقون اسم الروم على اليونان واللاتين معاً، حتى أن بعض الكُتَّاب المرموقين كالأستاذ طه باقر، وكيلا يختلط الأمر على القُرَّاء، يضع كلمة الروم (اليونان أو اللاتين) بين قوسين، وجميع الكُتَّاب الغربيين يُطلقون اسم بابل على بغداد، واسم الهند أُطلق على الحبشة وإندونيسيا وأفغانستان، بل على الجزيرة العربية كاليمن وسوقطرة وقطر (نجران واليمامة)، وغيرها من أمثلةٍ لا تحصى، كما أخطأ كثير من العلماء في تنسيب الأمم إلى الكتاب المقدس، فمصطلح اللغات السامية أطلقه الألماني شلوتسر سنة 1781م، ورغم أنه أصبح مقبولاً ومتداولاً، إلاَّ أنه ليس مصطلحاً علمياً، لأن شلوتسر في تقسيمه لغات أبناء سام اعتمد على سفر التكوين 10، لكنه استثنى العيلاميين والليديين رغم أن عيلام ولود هما ابنا سام، وفي نفس الوقت عَدَّ الكنعانية والحبشية لغات سامية رغم أن الكنعانيين والأحباش أي الكوشيين ليسوا من أبناء سام، بل من أبناء حام.
إن غالبية نصوص العهد القديم منذ زمن موسى (حوالي القرن الرابع عشر قبل الميلاد) بقيت متداولة شفهياً أكثر من ثمانمئة سنة إلى القرن السادس قبل الميلاد عندما بدأ اليهود بتدوينها، وعندما دونوها، ذكروا أسماء البلاد والمدن الموجودة في عصرهم، لكن تلك التسميات لم تكن موجودة في زمن أحداث السفر، وباختصار مثلما نقول اليوم إن مدينة تورينتو الكندية نُهبت سنة 1812م، بينما كان اسمها آنذاك، يورك، أو أن زقورة أور شُيَّدتْ قرب الناصرية، لكن في ذلك الزمان لم تكن الناصرية موجودة، ويقول المؤرخ طه باقر: عند حديثنا عن حضارات العراق القديم، نستعمل كلمة، عراق، مضطرين لشيوع المصطلح، لكن في واقع الحضارات القديمة اسمها، حضارات ما بين النهرين، ويقول جيمس برستد عن الهلال الخصيب وبلاد بابل قبل الألف الثاني قبل الميلاد: لا يوجد اسم جغرافي أو سياسي يُطلق على تلك البلاد في هذه الحقبة، ونحن مضطرون عند الحديث عن هذا الجزء تاريخياً كوحدة أن نجد اسماً له، ولهذا أطلقنا عليه في الكتاب المقرر لطلبة الثانوية اسم الهلال الخصيب، وأصبح منذ ذلك العهد شائع الاستعمال، ولم تكن بابل ذات أهمية في الألف الثالثة ق.م.، وسنستعمل الاسم عند الحديث عن العصور القديمة لتلك البلاد، لأن اسم بابل لم يُصبح علماً على الجزء الشرقي من الهلال الخصيب إلاَّ في بداية الألف الثاني ق.م، وإذا أصرِّينا على استعمال كلمة بابل، فإننا نكون كمن يُطلق اسم فرنسا عند حديثه على بلاد الغال أيام يوليوس قيصر (انتصار الحضارة، تاريخ الشرق القديم، ص151، 157) .
وفي محاضرة مطران الكلدان المتعصب للكلدانية الجديدة سرهد جمو في 19 /10/ 2013م، قال: إن أور الكلدان هي أكدية، ولأن العهد القديم كُتب في عصر متأخر أيام الدولة الكلدانية (612-539 ق.م.)، فسَمُّوها أور الكلدانيين، كمن يقول إن كريستوف كولمبس اكتشف أمريكا، بينما لم يكن اسمها أمريكا حين وصلها كولمبس.
والأمثلة على ذلك كثيرة في الكتاب المقدس، فمثلاً ذكر اسم بلاد آشور منذ الخليقة قبل نزول آدم من الفردوس إلى الأرض (سفر التكوين 2: 14) علما أن هذه المنطقة اسمها سوبارتو قبل آشور وقبلها لها أسماء أخرى، والكتاب المقدس يخلط أسماء ومناطق المدن مثل أور الكلدان، أورك الرها، حرَّان، كلنة، رحوبوت، ورحوبوت النهر، حيث أتى قسم منها مقروناً بمدن العراق التي بناها نمرود، لكنها تقع في سوريا وفلسطين، وسَمَّى مدينة بابل منذ الطوفان التي لم يكن اسمها بابل قبل عهد حمورابي في القرن 18 ق.م.، بل اسمها القديم: كا. دنكر. را. كي ki .ra .dingir .ka)، واسمها الكاشي: كاردونياش، وفي الكتاب المقدس اسمها: شيشك (إرميا 25: 26)، ولها أسماء سومرية: )تين تر كي tin-tir-ki)، ويعني موطن الحياة، يقابلها في البابلية القديمة، شُباط بلاطي shubat balati، وسُمِّيت بالسومرية) شو- انّا- كي shu-anna-ki) ومعناها، كف السماء، وهو اسم إحدى محلاتها، وسُمِّيت ) كيش كلاّ ( ويعني، البوابة أو المدخل، وسُمِّيت) نُن- ﮔي ( وهو نفس اسم مدينة أريدو جنوب أور. (طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ج2، ص237. ومعجم الدخيل في اللغة العربية، ص160-161، و د. عامر عبدالله الجميلي، المعارف الجغرافية عند العراقيين القدماء، ص161، وانظر جداول النصوص المسمارية التي يرد فيها اسم مدينة بابل كادنكر، مثل قائمة: كيش، تل حرمل نفر، ثنائية سومرية أكدية، وقائمة آشور بانيبال، ص234، 242، 254، 267، 270)، ومدينة دان زمن إبراهيم (تك 14: 14) لم تكن تدعى دان، بل “لاشَم”، واتخذت هذا الاسم في زمن يشوع بن نون أو بعده (يشوع 19: 47، القضاة 18: 29)، ومدينة رعمسيس التي شيَّدها رمسيس الثاني +1213 ق.م، لم تكن موجودة زمن يوسف (تك 47: 11)، ومدينة سيحون اسمها حشبون.
وأور الكلدانيين زمن إبراهيم سنة 1900 ق.م. تقريباً..إلخ، في الترجمة العبرية الأصلية هي أور الكسديم، وفي السبعينية 280 ق.م. بُدلت إلى أور الكلدانيين، وسواءً كانت أور الكلدانيين أو الكسديم، فهي ليست في العراق، إنما هي اور هاي (أورفا)-حاران، وفي التوراة السامرية مولد إبراهيم في هورسان قرب أرمينيا، وإبراهيم نفسه ذكر أن مسقط رأسه في آرام نهرين-حاران، وذكر العهد القديم أخباراً ومدناً قديمة أو مقرونة بموسى لم تكن موجودة في عهدها أو في عهد موسى، وجاء في سفر إرميا (13: 23) العبري: هل يغير الكوشي جلده، وفي الترجمة السبعينية اليونانية 280 ق.م. والفولجاتا اللاتينية: هل يغير الأثيوبي جلده، لكن في الترجمة السريانية في القرن الثاني الميلادي: هل يغير الهندي، ويقول البطريرك السرياني يعقوب الثالث: المقصود هنا بالهندي هو الحبشي وليس ساكن الهند المعروفة اليوم، وذكر العهد القديم سفر يونان (النبي يونس) أنه في نينوى العراق عاصمة دولة آشور الأخيرة، ثم ثبت بما لا يقبل الجدل أنه إما أنه سفر رمزي غير حقيقي وشخصية يونان رمزية، أو في أحسن الأحوال المقصود بنينوى هو مدينة أخرى لعلها حماة أو دمشق، فنينوى أصبحت معروفة ومهمة وعاصمة بلاد آشور سنة 691 ق.م.، أي بعد يونان بحوالي قرن ونصف.
ولا يقتصر ذلك على العهد القديم، إنما على العهد الجديد أيضاً المُتقدم تاريخياً على القديم، بل الإنجيل أيضاً حيث يخلط أسماء الأمم، فالعهد القديم دائماً يستعمل اسم لبنان على مناطقه كصور وصيدا، وأرض كنعان على فلسطين، ويفرق بين الاسمين دائماً، بينما الإنجيل يستعمل اسم فينيقية على لبنان، وفي الإنجيل المرأة من مدينة صور، يُسَمِّيها مرقس الإنجيلي (7:26) فينيقية، بينما يُسَمِّيها متى (15:22) كنعانية.
وحتى السيد المسيح نفسه استعمل أسماء يختلف عليها التاريخ، فذكر أن ملكة التيمن جاءت إلى سليمان لتسمع حكمته (متى12: 42، ولوقا 11: 31)، وعَنى بها ملكة الجنوب، وملكة التيمن مذكورة في سفر ملوك 1، إصحاح 10، أنها ملكة سبأ، وهي نفسها المعروفة عموماً في والروايات خاصة عند العرب، بلقيس، لكن لا أحد يعلم من هي ومتى عاشت بالضبط، والأثيوبيون (الأحباش) يَدَّعون أنها ملكتهم، وأن الملكة كنداكة الواردة في سفر أعمال الرسل (8: 27)، هي خليفة ملكة التيمن المقصودة في قول السيد المسيح، وهي من نسل سليمان حسب الآية 13 أعطى الملك سليمان لملكة سبأ كل مشتهاها الذي طلبت)، ويقول المؤرخ البطريرك السرياني يعقوب الثالث: إن الخصي الذي عَمَّدهُ فيلبس المذكور في (أع 8: 27) إنه حبشي ةوزير كنداكة ملكة الحبشة، بالحقيقة كان عربياً من بلاد سبأ، وليس من الحبشة، وأيَّد ذلك مار أفرام السرياني +373م ويعقوب الرهَّاوي +708، وابن الصليبي+1171م، وكنداكة هي ملكة سبأ في اليمن (بلقيس عند العرب) أو خليفتها، وليست ملكة الحبشة.
وكثير من رجال دين خلطوا وسَمَّوا بلاد الحبشة، الهند، فذكر أوسابيوس القيصري +340م أن القس بنتينوس الإسكندري بَشَّرَ في الهند، ويقصد اليمن لأنه يكمل القول: إن بنتينوس وجد عندهم نسخة من إنجيل متى العبراني التي تركها لهم الرسول برثلماوس، والثابت أن برثلماوس بَشَّرَ في الجزيرة العربية واليمن، لا في الهند (القيصري، تاريخ الكنيسة، ك 5 فصل10)، وذكر المؤرخ الشهير البطريرك ميخائيل السرياني الكبير +1199م أن إيديسيوس وفرومنتيوس بَشَّرا في الهند في القرن الرابع الميلادي، وقال بوضوح: المقصود بالهند هو الحبشة وهي الهند الداخلية، بينما يُسَمِّي الهند الحقيقة التي بَشَّرَ فيها توما، الهند الخارجية، وحين تكلم عن الحميريين في اليمن ربطهم بالهند والحبشة، وقال: ممالك الهند ثلاث والأحباش أربع، وتحيط ببحر أوقيانوس (المحيط الأطلسي)، (تاريخ ميخائيل السرياني، ص131 سرياني، وعربي، ج1 ص183-184، ج2 ص65-68)، ويُسَمِّي ابن الصليبي، بلد الحميريين العرب، الهند، ويُعلِّق الفونس منكانا الكلداني ناشر الكتاب: الهند عند ابن الصليبي هي بلد الحميريين العرب (A. Mingana Woodbrooke Studies, V. I, Cambridge 1927، ابن الصليبي، الرد على الربان يشوع، ص26)، وأُطلق اسم الهند على دولة قطر كما في قصة الربان يونان التي كتبها في القرن الرابع الميلادي القس زادوي رئيس دير مار توما في قطر، باسم رئيس دير مار توما في الهند الواقع في بلاد القطريين (الأب بيدجان اللعازري الكلداني، سير القديسين 1890م، سرياني، ص466، والبطريرك يعقوب الثالث، تاريخ الكنيسة السريانية الهندية، 1951م ص10-11. مستنداً على الكتاب المقدس، ومصادر سريانية) .
أمَّا استعمال أسماء عديدة أو رمزية على مناطق مختلفة في الكتاب المقدس، فهو أمر شائع، كما ذكرنا عن اسم نينوى أنه استعمل بشكل رمزي في سفر يونان (يونس)، وفي الكتاب المقدس وكل التفسيرات المسيحية سُمِّيت مدينة روما، بابل، لأن روما كانت مثل بابل رمزاً للوثنية والفسق، وأم الزواني (رؤيا 17: 3–5)، ويقول مطران الكلدان سليمان الصائغ بخصوص رسالة بطرس الأولى (5: 13) التي ورد فيها اسم بابل: (تُسلِّم عليكم التي في بابل): غالبية المفسرين من لاتين ويونان يعتقدون أن الرسالة صدرت من روما الوثنية، باسم مستعار هو، بابل، التي عُرفت بأصنامها وآلهتها الكاذبة ورجاساتها كما وصفها سفر الرؤيا 17، 18 (تاريخ الموصل، ج3 ص99)، ويقول الأب الكلداني ألبير أبونا: مدينة بابل المذكورة في رسالة بطرس ليست سوى إشارة إلى العاصمة الرومانية التي وجَّه منها رسالته، وسَمَّاها الرسول بابل لأنها يومئذٍ كانت مركزاً لعبادة الأوثان والفواحش والموبقات، شأن بابل الوثنية القديمة (تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، ج1 ص8)، ويقول الأب بولس الفغالي الكاثوليكي: بابل في العهد الجديد هو الاسم الرمزي لروما كما يرد في رسالة بطرس الأولى 5 :13، وسفر الرؤيا 14 :8 (المحيط الجامع في الكتاب المقدس ص227)، (يرى بعض الأقباط أن الرسالة كتبت في معسكر روماني في مصر اسمه بابليون)، ويقول معجم اللاهوت الكتابي الكاثوليكي ص140-142، عن بابل أي روما: مدينة الشر ونموذج للوثنية المحكوم عليها بالخراب التي اتخذت وجه روما الإمبريالية منذ اضطهاد نيرون، التي يصفها الكتاب المقدس بالزانية السُكرى بدماء القديسين، وسارت برفقة الشيطان، وستسقط..إلخ، ويقول قاموس الكتاب المقدس ص152: بابل المذكورة في سفر الرؤيا هو اسم رمزي يشير إلى روما، فقد أسهبت روما بابل في بذخها وامتداد إمبراطوريتها وفي زناها وفي اضطهادها شعب الله، وقد قصد بذلك النطق بالدينونة على روما تحت اسم مستعار هو “بابل”، أمَّا دائرة المعارف الكتابية، ج2 ص19، فتفرد فقرة بعنوان (المعنى الرمزي لمدينة بابل) وتقول: المقصود ببابل في كثير من نصوص العهد الجديد، هو روما، وهذا التفسير يعود لعصر ترتليانوس، وأقرَّهُ القديس أوغسطينوس وجيروم، وقبلتهُ الكنيسة بصورة عامة، وتوصف روما أنها بابل في الأقوال السبليانية (5: 143)، والأرجح أن هذا الجزء يهودي من عصر مُبكر، ومقارنة روما مع بابل أمرٌ شائع في الكتابات الرؤوية اليهودية، مثل سفر أسدراس الثاني، ونبوءة باروخ الأبوكريفي، وتضيف: هناك حقائق مذهلة تؤيد أن روما هي المقصودة ببابل.
وقد لعب الكتاب المقدس واليونان واليهود في إعطاء شهرة لبعض الأسماء على حساب غيرها في نفس المنطقة أو خارجها، كما لعبت الترجمات من اللغات الأصلية دوراً سيئاً في استخدام الأسماء الواردة في العهد القديم، فمثلا النص الأصلي لسفر تك 10: 11: من تلك الأرض خرج آشور وبنى نينوى، استغلها الآشوريون الجدد، وفسروها أن آشور بنى نينوى، بينما النص الحقيقي هو: خرج الأثوري وليس آشور، والأثوري معناه الطاغية أو المتمرد أو الهائج، والمقصود نمرود (وهناك ترجمة أخرى خرج إلى آشور، وليس خرج آشور، والمقصود خرج نمرود إلى بلاد آشور الجغرافية وبنى نينوى، والمهم في كلتا الحالتين هو نمرود وليس آشور، ويقول الأستاذ حامد عبد القادر: حين ترجم اليونان الكتاب المقدس سنة 280 ق.م من العبرية إلى اليونانية (السبعينية)، ترجموا كلمة كسديا، كسديم العبرية، إلى كلديا أو كلدان، وأطلقوا على بابل، بلاد الكلدانيين، لكن الكلدانيين أنفسهم لم يكونوا من سكان بابل الأصليين، ويُرجِّح العلاَّمة الألماني هوك ونكلر أن نبوخذ نصر وعائلته القوية هي التي أعطت الكلدان مكانة رفيعة في بابل، وطغت على غيرها من الأسماء القديمة، بحيث أن مؤرخي اليونان والرومان لم يعتدوا بسواهم من حكام بابل، فكانوا يطلقون اسم الكلدان عليهم، وبذلك أحيوا اسم الكلدان، وأماتوا أسماء غيرهم من سكان بابل (مصادر تاريخها وحضارتها، ص80-81)، ويقول المؤرخ ديورانت: طغى اسم بابل على اسم غيرها من الحضارات كمصر والهند والصين بفضل اليهود، خاصة بعد أسرهم في بابل، فاليهود ببراعتهم الأدبية الفنية وقصصهم الساحرة الجميلة عن بابل، جعلوا منها جزءاً لا يتجزأ من قصص أوربا الديني (قصة الحضارة، ج8 ص262).
وشكراً/ موفق نيسكو