يجري الحديث في الاوساط السياسية وفي سائل الاعلام عن رسائل في اتجاه واحد ، لا رجع صدى لها في الولايات المتحدة ، تتحدث عن حسن نوايا الفلسطينيين واستعدادهم لتقديم شهادات حسن سلوك لفصائلهم ، التي تستعد هذه الأيام لاستقبال المحطة الاولى في الانتخابات العامة الفلسطينية وهي انتخابات المجلس التشريعي باعتباره الغرفة الآولى في مبنى المؤسسة التشريعية الفلسطينية الأم ، المجلس الوطني الفلسطيني ، والمقدر أن يتم التوافق بشأنها نهاية آب القام
شهادات حسن السلوك تمتد على مساحة واسعة من الالتزامات الفلسطينية كالالتزام بمعايير القانون الدولي والالتزام بدولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وبمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها المظلة السياسية والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وببرنامجها وقرارات هيئاتها ومؤسساتها وبمبدأ التداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات فضلا عن الالتزام بالمقاومة الشعبية السلمية دون غيرها
ولهذا الحديث وهذه الالتزامات لا نجد رجع صدى في عواصم صنع القرار باستثناء تكرار المكرر ، الذي اعتاد الفلسطينيون عليه من هذه العواصم ، وهو تكرار لا يملك رصيدا يتجاوز إعلانات الحرص على بقاء ما يسمى حل الدولتين قيد التداول ، ليس حبا بالفلسطينيين بالدرجة الاولى وحقهم في العيش في أمن وسلام في حدود دولتهم العتيدة ، بعد تبادل أراضي متفق عليه بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في اتفاق تعاقدي ونهائي بينهما ، بقدر ما هو حرص على الحفاظ على اسرائيل دولة ديمقراطية ويهودية في الوقت نفسه .
هذا هو الحال على ضفاف الأطلسي في الشرق ، وعلى ضفافه في الغرب يقع الاهتمام بالصراع الفلسطيني – الاسرائيلي في أدنى سلم اهتمامات الادارة الاميركية الجديدة . فالحل بعيد المنال وعلى الفلسطينيين ان ينتظروا دورهم ، الذي قد لا يحين وقته في عهد هذه الإدارة ، فقد وقف الفلسطينيون في قاعات الانتظار عشرات السنوات ، عاشوا فيها حروبا وعانوا منها أشد المعاناة على أيدي دولة مارقة وجيش عدواني يستسهل الضغط على الزناد في كل ما يتصل بحياة الفلسطينيين .
وفي محطة الانتظار الجديدة تعد الادارة الاميركية الجديدة وفق افضل التقديرات بالتركيز على اتخاذ خطوات ملموسة على الأرض وأخرى دبلوماسية يكون من شأنها ” تحسين الحرية والازدهار والأمن لجميع من يعيشون بين البحر المتوسط ونهر الأردن ، مع تهيئة الأجواء من أجل التوصل إلى اتفاق مستقبلي على أساس حل الدولتين يتم التفاوض عليه من قِبل الطرفين ” . فهي تعد باستئناف المساعدات إلى السلطة الفلسطينية ، دون ان تضعها تحت مقصلة قانون تاكس فورس ، وبفتح مفوضية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن ، في ظل إجراءات قانونية قد تبعد شبهة الإرهاب عن المنظمة او تبقيها على حالها كما كانت في عهد إدارات سابقة ، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية ، بعد تسوية العقبات القانونية ، التي طرأت بعد اعتراف إدارة الرئيس دونالد ترامب بالقدس الموحدة عاصمة لدولة اسرائيل ما قد يعني خفض مستوى التمثيل الى ( مكتب اتصال ) وباستئناف المساهمة في تمويل وكالة الغوث في ظل اشراف على برامج التعليم في الوكالة ومدى تطابقها مع ما تسميه قيم التسامح بين الشعوب ، وما يترتب على ذلك من تشويه لمنهاج التعليم في جانبه التربوي وتجريده من المحتوى الذي يعزز لدى اطفال فلسطين هويتهم الوطنية ، باعتبارهم لاجئين ضحية لمشروع صهيوني
ندرك طبعا ان كل هذا ما زال مجرد وعود تعيد الأمور الى ما كانت عليه في إدارات سابقة بما فيها إدارة بوش الابن ، صاحب مشروع خطة الطريق وما يسمى حل الدولتين . وهي وعود بعيدة كل البعد عن الاعتراف بالحقوق المشروعة لشعب فلسطين ، كما تقرها وتكفلها القوانين والشرعية الدولية وقرارات قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة سواء في الجمعية العامة أو في مجلس الأمن وبقية مؤسسات وهيئات الامم المتحدة ، لم تتحول في الماضي ولا يتوقع لها ان تتحول على أيدي الادارة الاميركية الجديدة الى قوة ضاغطة على إسرائيل تدفعها لاحترام القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية
وفي مقابل هذا فإن الادارة الاميركية الجديدة لا تفكر بالتراجع عن الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل وهي لن تعيد سفارتها إلى تل أبيب كما يؤكد ذلك وزير الخارجية الاميركي الجديد انتوني بلينكن ، هذا الى جانب أنها رحبت بعمليات التطبيع التي جرت بين دولة الاحتلال الاسرائيلي وعدد من الدول العربية تحت ضغط غير مسبوق على حكومات هذه الدول ووعدت بتشجيع هذه العملية ، ليس على طريقة ترامب بالقفز عن الفلسطينيين بل بأخذ دورهم ومصالحهم بعين الاعتبار في التسوية بعيدة المدى ، التي تتوقعها هذه الادارة وعدم الوقوع في أخطاء مقاربات وصفها أحد المساعدين السابقين للوزير جون كيري في عهد الرئيس باراك اوباما عندما أشار باستخفاف إلى خطة ترامب لتسوية الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي فكتب يقول : في العقود الثلاثة والنصف من خدمتي في الدولة لم أعرف في أي يوم رئيساً تنازل عن هذا القدر الكبير جداً في فترة قصيرة جداً مقابل القليل جداً .
وإذا كان هذا هو الحال على الجانب الأميركي فإن الصورة تبدو قاتمة تماما في كل ما يتصل بالجانب الاسرائيلي ، الذي ما زال يعيش على حلم توراتي وجد بعض تعبيراته في صفقة القرن . هنا قد يتوارى دونالد ترامب عن الانظار وتصبح خطته للتسوية السياسية شيئا من الماضي في مواقف الادارة الاميركية الجديدة ، غير ان صفقة القرن التي طرحها بداية العام 2020 ، ما زالت تعطي حكومة اسرائيل قوة دفع في اتجاه تحقيق حلمها بفرض السيادة الإسرائيلية على المناطق المصنفة (ج) في الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي . وقد تتعثر موجة التطبيع مع الدول العربية غير أن إسرائيل سوف تواصل مخططها قبل ان تبلور الادارة الاميركية الجديدة سياسة بديلة لسياسة الادارة الاميركية السابقة.
هنا تبدو الشواهد والمؤشرات كثيرة ويجدر تحديدا بالجانب الفلسطيني أن يضعها على جدول أعماله وعلى نار حامية ، حتى وهو يعد لمحطات الانتخابات بمشاغلها ، فالانتخابات كما هو واضح أصبحت أولوية ، غير أن التصدي لسياسة حكومة اسرائيل يجب أن تبقى أولوية الاولويات ، سواء بقي نتنياهو في الحكم أن انتقل الحكم الى اولئك الزعماء الذين يقفون على يمينه أمثال جدعون ساعر ونفتالي بينيت . وعلى كل حال فمن الواضح أن حكومة نتنياهو تبذل كل ما في وسعها وجهدها لتوفير البيئة ، التي تساعدها على المضي قدما في مخطط ضم مناطق (ج) ، وهي بذلك تعمل في من المسارات بشكل متزامن بهدف تقويض فرص قيام دولة فلسطينية .
فمن جهة يجري تعميق الضم الفعلي بالدفع قدماً بتشريعات في الكنيست حيث تم سن 8 قوانين وتعديلات قوانين لتسري على الضفة الغربية ، من بينها تلك التي تمت المصادقة عليها كقانون التسوية لشرعنة البؤر الاستيطانية وقانون المحاكم للشؤون الإدارية ، الذي نقل معالجة التماسات تتعلق بمجالات التخطيط والبناء من المحكمة العليا إلى محكمة الشؤون الإدارية في القدس وقانون مجلس التعليم العالي ليصبح متاحا تطبيقه على مؤسسات أكاديمية قائمة في المستوطنات وقانون منع التمييز في المنتجات ، الذي يسري على المستوطنات مثلما يسري على البلدات في إسرائيل والمصادقة بالقراءة التمهيدية على قانون “تسوية الاستيطان الشاب
ومن جهة ثانية تعمل الحكومة الاسرائيلية على توسيع المستوطنات القائمة بشيء من التركيز على تلك ، التي بناها الاحتلال في عمق الضفة الغربية بعيدا عن خطوط الرابع من حزيران وعلى شرعنة البؤر الاستيطانية المنتشرة في طول الضفة الغربية وعرضها. هنا تجدر الاشارة بأن 64 في المئة من الوحدات السكنية التي تمت المصادقة عليها في السنوات الاخيرة وخاصة العام 2020 تقع خارج الاقتراح الذي طرحته إسرائيل في مؤتمر أنابوليس في العام 2008 ، والذي استهدف الحفاظ على 85 في المئة من الإسرائيليين الذين يعيشون خلف الخط الأخضر تحت السيادة الاسرائيلية ، هذا الى جانب تلك الوحدات السكنية المخطط لها في حي “جفعات همتوس” الى جنوب القدس و” مبسيرت أدوميم ” أو منطقة (إي1) في “معاليه أدوميم ” و”جفعات عيتام” في أفرات ، التي تستهدف فصل القدس بأكملها عن الفضاء الفلسطيني.
ومن جهة ثالثة يجري العمل دون توقف في مشاريع شق طرق الفصل العنصري ، التي من شأنها أن تمزق الضفة الغربية وتربط جميع المستوطنات القائمة بما في ذلك المستوطنات المعزولة بشبكة الطرق العامة في اسرائيل دونما حاجة للمرور في مناطق سكن فلسطينية . وقد أصبح ذلك واضحا بعد أن أغلقت سلطات الاحتلال عددا من المناقصات ، لشق نفق أسفل حاجز قلنديا مصمم للسماح بانتقال المستوطنين من مستوطنات رام الله في بيت ايل وعوفرا إلى إسرائيل، دون المرور عبر الاختناقات المرورية على حاجز قلنديا ، ووقعت عقدا للمخطط التفصيلي لطريق الزعيم-العيزرية ، الذي من شأنه ان يعزل منطقة ( E1 ) ويحولها الى مجال حيوي للنشاطات الاستيطانية وبما يهدد التجمعات البدوية في المنطقة بخطر التهجير . هذا الى جانب مناقصة لمشروع التفافي حوارة لتسهيل حركة مستوطنات منطقة نابلس في يتسهار ، براخا ، ايتمار ، ايلون موريه فضلا عن البؤر الاستيطانية المنتشرة في المنطقة وتحويل حركتهم الى شارع التفافي مخصص للمستوطنين دون المرور بالقرى والبلدات الفلسطينية في المنطقة والمصادقة على شوارع فصل عنصري اخرى كشارع التفافي اللبن الغربية وشارع موديعين عيليت – لبيد بكلفة اجماية تتعدى 400 مليون شيقل وغيرها
وفي مسار رابع تمارس اسرائيل سياسة وحشية في التضييق على الفلسطينيين من خلال هدم منازلهم وتشريدهم وتهجيرهم ، فقد قامت سلطات الاحتلال بهدم نحو 184 مبنى فلسطينياً ومنشأة في الضفة الغربية منذ مطلع العام الجاري ، ما أدى إلى تهجير اكثر من 300 شخصًا ، بمن فيهم نحو 160 طفلا . وكانت السلطات الإسرائيلية قد هدمت العام الماضي نحو 650 منزلا فلسطينيا ومبانٍ أخرى في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، ما أدى إلى تهجير اكثر من 800 شخصا. وجرت عمليات الهدم بحجة افتقار معظم المباني إلى تصاريح بناء إسرائيلية ، والتي يكاد يستحيل الحصول عليها.
وبالعودة الى الرسائل المشار اليها وصلتها بالانتخابات العامة التي باتت تفرض نفسها كاستحقاق ديمقراطي طال انتظاره فإن نظرة فاحصة لما يجري حولنا في الاقليم وسياسة واشنطن وأولويات اهتماماتها وما تتركه من بوابات واسعة تتيح لدولة الاحتلال مواصلة مخطط الضم كما رسمته حكومة نتنياهو مع إدارة دونالد ترامب ، فإن الضرورات الوطنية تفرض عدم الارتهان لنفس السياسة الانتظارية ، التي انتجت ما نحن فيه ، والانتقال الى سياسة جديدة تجمع بين الاهتمام بالاستحقاقات الديمقراطية لتجديد شرعية الهيئات والمؤسسات والاهتمام بمواجهة سياسة الادارة الاميركية برفع سقف المطالب والحقوق والمواقف الفلسطينية من جهة ومواجهة سياسة دولة الاحتلال من جهة ثانية بالعودة الى الهيئات واحترام دورها ومكانتها وتمكينها من الاضطلاع بمسؤولياتها في ترجمة قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في دورة انعقاده نهاية نيسان مطلع ايار عام 2018 وقرارات الدورات المتعاقبة للمجلس المركزي وقرارات اللجنة التنفيذية للمنظمة وخاصة تلك التي دعت الى إعادة بناء العلاقة مع اسرائيل باعتبارها دولة احتلال كولونيالي استيطاني ودولة ابارتهايد وتهجير وتطهير عرقي وما يترتب على ذلك من مهمات تضع تجديد بنية وشرعية النظام السياسي الفلسطيني في السياق الصحيح .
*** عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
*** عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين