الأحد, نوفمبر 24, 2024
Homeمقالاتمن ذاكرة التاريخ انتفاضة الشعب العراقي عام 1956 حامد الحمداني   

من ذاكرة التاريخ انتفاضة الشعب العراقي عام 1956 حامد الحمداني   

كان موقف الشعب العراقي، وحكومة نوري السعيد من العدوان الثلاثي على مصر، على طرفي نقيض، فلقد اتسم موقف الحكومة السعيدية بالتشفي من مصر وعبد الناصر بشكل علني وصريح، وراحت الإذاعة العراقية تحاول صرف أنظار الشعب عن العدوان الذي دعته [التطورات والملابسات السياسية ] ، كما راحت الإذاعة تبث الأغاني الممجوجة، التي كان التشفي ينبعث منها، مما أثار سخط واستنكار وتقزز الشعب منها ومن الحكومة المتواطئة مع الإمبريالية، والتي سخرت مطاراتها للطائرات البريطانية، ومستشفياتها لجرحى المعتدين، وضخت النفط إلى ميناء حيفا في إسرائيل لتجهيز طائرات وجيوش المعتدين بالوقود .(4)

يقول السيد [ناجي شوكت] أحد رؤساء الوزارات السابقين في مذكراته عن موقف الحكومة السعيدية من العدوان ما يلي : { كانت إذاعة بغداد تذيع تسجيلات خليعة، وإن نسيت،لا أنسى مدى عمري ذلك المذيع الوقح الذي كانت آثار الشماتة والاستهزاء بكل القيم الإنسانية تنطلق من فمه المسعور، في الوقت الذي كان الشعب العراقي برمته يغلي كالبركان، ويطلب مساعدة مصر في محنتها، ووجوب مساندتها بالأرواح والأموال}. (5)

 

أما نوري السعيد، الذي كان في لندن حينما أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس، فقد اجتمع مع رئيس الوزراء البريطاني [ انطوني إيدن ] حاثاً إياه على ضرب مصر، وبرهنت الحوادث على أن نوري السعيد كان على علم مسبق بقرار الهجوم على مصر، وعاد إلى بغداد مسرعاً، ليقوم بدوره المرسوم في دعم العدوان، ولإحكام سيطرة الحكومة على الغليان الشعبي الذي اجتاح العراق من أقصاه إلى أقصاه. (6)

 

وما كاد العدوان الثلاثي يبدأ على مصر الشقيقة حتى سارع عبد الإله إلى عقد اجتماع لمجلس الوزراء في البلاط، لبحث الوضع في مصر، واعتقدت السلطة الحاكمة في بغداد أن النظام في مصر على وشك الزوال، وكان المجتمعون يتطلعون إلى الأخبار ساعة بعد ساعة، منتظرين استسلام مصر، وقد أتخذ مجلس الوزراء قراراً بإعلان الأحكام العرفية في 1 تشرين الثاني، وتشكيل أربعة محاكم عسكرية في محاولة منه لمنع الشعب من التحرك ضد النظام العميل للإمبريالية، بسبب مواقفه الخيانة من القضايا العربية، وفي مقدمتها العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة . (7)

 

كما أجرى نوري السعيد اتصالاً مع الحكومة الأردنية، وتقرر على أثرها إرسال قوات عراقية إلى الأردن، في 14، و15 تشرين الثاني، وكان واضحاً أن الغرض من إرسال القوات كان لتهديد سوريا التي وقفت إلى جانب مصر، وقطعت مرور النفط عبر أراضيها وقامت بنسف المضخات، ولم يكن قصد الحكومة إسرائيل، كما ادعت، فقد أجرى نوري السعيد اتصالات سريعة مع حكومتي واشنطن ولندن لإفهام إسرائيل بأن العراق ليست له نية بالتحرش، أو الاعتداء على حدودها، وقد سُرت الولايات المتحدة وبريطانيا لهذه المبادرة، كما ُسرت إسرائيل واطمأنت .

 

وفي الوقت الذي كان الجيش المصري يتصدى للمعتدين بكل قوة وبسالة، كان نوري السعيد يضخ النفط إلى إسرائيل، عبر أنبوب حيفا، كما كانت الطائرات البريطانية المعتدية تقلع من قاعدتي الشعيبة والحبانية، لتضرب أهدافها في بور سعيد و السويس، وفي الوقت الذي قطعت سوريا، والسعودية علاقاتهما مع بريطانيا وفرنسا احتجاجاً على العدوان الغاشم على مصر، فإن نوري السعيد رفض أن يفعل ذلك، مدعياً أن القرار سيكون كارثة على العراق ‍‍‍‍‍. (8)

 

هكذا استفز النظام العراقي مشاعر الشعب العراقي، وداس على كل القيم العربية، ليثبت ولائه وخنوعه التام للإمبريالية، مما دفع الشعب العراقي للانتفاضة ضد النظام رغم كل الاحتياطات التي اتخذها، وفي المقدمة منها إعلان الأحكام العرفية، وتشكيل المحاكم العسكرية لإخافة المواطنين ومنعهم من التحرك.

 

ابرق السيد [كامل الجادرجي] زعيم الحزب الوطني الديمقراطي  والذي كان موجوداً في مصر لمتابعة تنفيذ قرارات المؤتمر الشعبي العربي، حينما وقع العدوان، إلى رئيسي مجلسي الأعيان والنواب، في 14 تشرين الثاني، البرقية التالية:

{ إن لجنة الاتصال للمؤتمر الشعبي العربي تستنهض ضمائركم لتبادروا بإنزال العقوبة بحق المتآمرين الذين ارتكبوا الجناية العظمى، بالسماح للبترول العربي في العراق أن يتدفق إلى حيفا، لتستخدمه إسرائيل  والإنكليز والفرنسيين، للقضاء على الأمة العربية. إن التاريخ سيسجل موقفكم، وإن الأمة العربية بأجمعها تنتظر ما سوف تتخذونه على هذه المؤامرة الاستعمارية المنكرة، وعلى المتآمرين من أعوان الاستعمار، وفقكم الله سبحانه وتعإلى لما فيه رضاه، ومصلحة الأمة العربية } (9)

 

وقد استخدمت تلك البرقية دليل إدانة ضد الأستاذ الجادرجي فيما بعد، وقد رد رئيس مجلس الأعيان على البرقية ببرقية جوابية يستنكر فيها ما جاء في برقية الجادرجي، ويدافع عن حكومة نوري السعيد وقدم 61 أستاذاً جامعياً مذكرة مسهبة إلى الملك، استنكروا فيها سياسة حكومة نوري السعيد المعادية لمصالح الأمة العربية، وسياسة القمع الذي مارسها ضد الطلاب والأساتذة، وجماهير الشعب، وانتهاكه لحرمة المدارس والكليات، وطالبوا باحترام الحرم الجامعي، وضمان حرية الفكر، وإطلاق سراح الطلاب المعتقلين، وإجراء تحقيق عادل في تجاوزات الحكومة، وغيرها من المطالب الأخرى .(10)

كما قدم 35 شخصية سياسية ودينية ووطنية مذكرة مسهبة إلى الملك، في 20 تشرين الثاني شرحوا فيها تأمر وخيانة نوري السعيد، وطعنه للامة العربية في الصميم، ودعت الملك إلى معالجة الأمر قبل فوات الأوان . (11)

كما قدم نقيب المحامين [ سعد عمر ] مذكرة احتجاج أخرى في 29 تشرين الثاني، إلى رئيس الوزراء، بسبب قيام الحكومة باعتقال العديد من المحامين، واستنكر تلك الإجراءات اللا قانونية، وطالب بإطلاق سراح المعتقلين على الفور .

لكنّ النظام أصرّ على السير في ركاب الإمبريالية، وتحدي مشاعر الشعب، التي انفجرت بركاناً انتشرت حممه في طول البلاد وعرضها، واندفعت جماهير الشعب،  غير هيابة من حكومة العمالة، وجهازها القمعي، ومجالسها العرفية ومراسيمها الموغلة في العدوان على الدستور، وحقوق وحريات المواطنين، وعمت المظاهرات جميع المدن العراقية، ووقعت الاشتباكات العنيفة بين الجماهير وقوات الحكومة القمعية.

 

ففي بغداد أندفع أساتذة وطلاب الكليات والمعاهد العالية، والمدارس، الذين هزهم العدوان الثلاثي الغاشم على الشقيقة مصر، والموقف الخياني لحكومة نوري السعيد من العدوان،  يومي 3 و 4 تشرين الثاني في مظاهرات عارمة  متحدين الأحكام العرفية، وقوات القمع السعيدية، حيث وقع صدام عنيف بين الطرفين أسفر عن استشهاد طالبين وفتاة صغيرة، ووقوع عدد كبير من الجرحى وتم اعتقال أعداد أخرى من الطلبة.

 

لكن المظاهرات الطلابية استمرت دون توقف، حتى بلغت أوجها يوم 21 تشرين الثاني 1956، حيث أعلن طلاب المدارس والكليات الإضراب العام عن الدراسة، وخرجوا في مظاهرة ضخمة، اصطدمت مع قوات القمع السعيدية، وقد أبدى الطلاب بسالة منقطعة النظير في تصديهم لقوات القمع، وأوقعوا فيها [58 إصابة] كان منهم مدير الشرطة، و3 ضباط شرطة، ومفوضان، و54 شرطياً، كما وقعت إصابات كثيرة في صفوف المتظاهرين من الطلاب والأهالي الذين انضموا إلى المظاهرة .(12)

 

وعلى أثـر ذلك أعلنت الحكومة إغلاق كافة الكليات، والمعاهد العالية، والمدراس الثانوية والمتوسطة، واعتقلت [378 طالباً] من الإعدادية المركزية، وثانـوية الكرخ، وتم طـرد 37 طالباً من مدارسهم . (13)

وفي الوقت نفسه، أصدر وزير المعارف [ خليل كنه ] أمراً وزارياً بإلغاء تسجيل كافة طلاب المدارس، وإعادة تسجيلهم من جديد،بعد حصولهم على كتاب موافقة من مديرية التحقيقات الجنائية [الأمن العامة] ومنع قبول أي طالب في الكليات والمعاهد والمدارس، إذا لم يحصلوا على موافقة الجهات الأمنية، لكن تلك القرارات لم تثنِ الطلاب عن التظاهر، بل على العكس أدى تصدي قوات الأمن لهم إلى انتشار المظاهرات في معظم المدن العراقية، واشتباك المتظاهرين مع قوات القمع السعيدية. حيث وقعت معارك دامية بين الشعب وقوات الحكومة القمعية .

 

وكان أشد تلك المعارك، المعركة التي خاضتها جماهير مدينة [الحي] والتي استفزتها مواقف حكومة السعيد الخيانية، والجرائم التي اقترفتها قوات الحكومة القمعية في النجف الأشرف، فانتفضت هذه المدينة الباسل التي كان سكانها يشكون من ظلم الإقطاع، واستغلالهم البشع، وتفجرت تلك التراكمات ثورة عارمة ضد الطغيان السعيدي، وقامت المظاهرات الصاخبة التي تصدت لها قوات الشرطة القمعية، لكن جماهير الحي استطاعت هزم تلك القوات في 18 تشرين الثاني، بعد معارك دامية سقط خلالها العديد من الشهداء و الجرحى .

وفي اليوم التالي جاءت السلطة بحوالي 1500 فرد من قوات الشرطة السيارة إلى المدينة، حيث دارت معارك عنيفة بين الطرفين، وقامت قوات الشرطة بانتهاك حرمة البيوت وبأسلوب وحشي، حيث أخذت تقلع أبواب البيوت بالقوة وتجري التحري فيها، وتلقي القبض على كل من تشك في اشتراكه في المظاهرات، مما دفع سكان المدينة إلى إعلان الإضراب العام، أغلقت جميع المدارس والمحلات أبوابها، احتجاجاً على الأساليب البطش السعيدية، وسيق العديد من أبناء الحي ا لى المجالس العرفية التي أخذت تصدر الأحكام الجائرة بحقهم، وكان من جملة تلك الاحكام، حكم الإعدام الصادر بحق الشهيدين[ علي الشيخ حمود ] و[ مهدي الدباس ]، فيما حكم على الكثيرين بمدد مختلفة تراوحت بين السجن المؤبد، والسجن لبضعة سنوات.                                                        .                                                                                             

وقد حاول لفيف من السياسيين إنقاذ حياة الشهيدين حمود والدباس، حيث قابل السيد [حكمت سليمان ] أحد رؤساء الوزارات السابقين ، والشيخ [محمد رضا الشبيبي ] من الوزراء السابقين، الملك فيصل الثاني، والتمساه عدم الموافقة على تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقهما، ووعدهما الملك خيراً، لكن الذي جرى أن الشهيد مهدي الدباس تعرض في سجنه، بعد الحكم عليه بالإعدام، لتعذيب وحشي شديد على أبدي الأجهزة الأمنية، وتوفي على أثرها تحت التعذيب، وقامت الحكومة على الأثر بنقل الشهيد الدباس مع الشهيد علي الشيخ حمود إلى الساحة العامة في الحي، حيث تم نصب مشنقتين لهما، على الرغم من أن الدباس كان قد فارق الحياة داخل السجن، ومع ذلك علق جسده على حبل المشنقة لتوهم السلطة المجرمة أبناء الحي بأنه قد تم تنفيذ حكم الإعدام به وبرفيقه، لكي لا تنكشف الجريمة، ولابد لي أن أشيد هنا بالموقف البطولي للشهيدين، فلقد قضى الدباس تحت التعذيب دون أن تنتزع منه السلطات الأمنية أي أسرار تتعلق بنشاط الحزب الشيوعي، بينما وقف الشهيد علي الشيخ حسين شامخاً فوق مشنقته وهو يهتف بحياة الشعب العراقي، والحزب الشيوعي، ويلعن المستعمرين وأذنابهم الخونة.                 .                                               

ورغم كل ما فعلته السلطة الحاكمة، ورغم كل إجراءاتها القمعية، فإن ذلك لم يجدها نفعاً، بل على العكس أنتشر لهيب الانتفاضة في مدن الكوفة والديوانية، والشامية والحلة وكربلاء والناصرية والنجف والبصرة والعمارة والكوت، والموصل وأربيل وكركوك والسليمانية وعانه بالإضافة إلى بغداد.

 

ورغم أن السلطة الحاكمة زجت بكل قوات الشرطة وقوات الجيش للحيلولة دون قيام المظاهرات، ورغم زجها بالآلاف من المواطنين رهن الاعتقال، وتقديمهم إلى المجالس العرفية، وإصدار الأحكام الجائرة بحقهم، إلا أن المظاهرات والاحتجاجات تصاعدت ضد السلطة الحاكمة وكانت أشد المعارك قد وقعت في مدينة النجف الاشرف، مدينة البطولات الوطنية، فقد التهبت الأوضاع فيها عندما انطلقت تظاهرة طلابية من مدرسي [ الخورنق ] و[ السدير ]،حيث تصدت لها قوات الشرطة المدججة بالسلاح والمزودة بالسيارات المسلحة بالرشاشات، وبدأت بإطلاق النار على المتظاهرين، حيث أصيب [ 42 طالباً ] بجراح، وكانت جراح 11 منهم خطيرة، واستشهد الطالب [ عبد الحسين ] حفيد العلامة المعروف [ سيد فهمي الحمامي ]، كما استشهد طالب آخر من مدرسة السدير، وأخر من الأهالي، مما أدى إلى حالة من الهياج بين المواطنين الذين أعلنوا الإضراب العام، حيث أغلقت الحوانيت، والمحال التجارية، والمطاعم والمخابز، والصيدليات  احتجاجاً على الأعمال الإجرامية للسلطة، كما أضرب رجال الدين عن أداء واجباتهم الدينية، فلم يخرجوا لصلات الجماعة . (15)

 

وإزاء تطور الأحداث، وتصاعد موجة المظاهرات، أقدمت الحكومة على سحب شرطة المدينة، واستبدلتهم بإعداد غفيرة من الشرطة جاءت بهم من مناطق أخرى، من أطراف الموصل، خوفا من تهاون شرطة النجف في قمع المتظاهرين، ومع ذلك فلم تستطع السلطة السيطرة على المدينة، مما دفع بالحكومة إلى إنزال قوات الجيش إلى الشوارع، واحتلال المدينة .

لكن الإضراب استمر أسبوعاً كاملاً، وسط تحدي الشعب لقوات القمع، وواصلت التظاهر والتصدي لقوات القمع التي سارعت إلى إطلاق النار على المتظاهرين الذين لجئوا إلى مرقد الأمام علي عليه السلام، ولاحقتهم قوى الأمن، مواصلة إطلاق الرصاص عليهم، مما أدى إلى استشهاد أثنين من المتظاهرين هما الشهيدين [ عبد الأمير ناصر ] و  [أموري علي ] ووقوع العديد من الجرحى.أدى الهجوم الوحشي على مرقد الإمام علي، عليه السلام، إلى تصاعد موجة التظاهرات والاحتجاجات، حيث خرجت المدينة عن بكرة أبيها تحاول انتزاع جثث الشهداء من المستشفى فيما أصرت الحكومة على عدم تسليمهم .

 

أدت الأحداث الدامية في النجف إلى قيام موجة من الاحتجاجات الموجهة من قبل كبار رجال الدين إلى الملك فيصل، حيث احتج كل من الشيخ [ عبد الكريم الجزائري ] والسيد [حسين الحمامي ]  والشيخ [ محمد كاظم الشيخ راضي ] و السيد [ محسن الحكيم ] والسيد [محمد صالح بحر العلوم ] إضافة إلى عدد من المحامين منهم [ موسى صبار ] و[ احمد الجبوري ]، في برقيات بعثوا بها إلى الملك فيصل، ونددوا فيها بإجراءات الحكومة، وطالبوا بإنزال أشد العقوبات بالمسببين باستشهاد أبناء النجف، وجرح العديد منهم.

 

أحدثت مصادمات النجف إلى رد فعل عنيف في بغداد، حيث أعلن المواطنون الإضراب العام، وأغلقت كافة المحال التجارية، والمطاعم والمخابز والصيدليات، وقامت الحكومة على الأثر بإصدار بيان في 28 تشرين الثاني، هددت المواطنين بإنزال اشد العقاب بهم إذا ما استمروا في إضرابهم.

أدرك البلاط الملكي أن الأمور أخذت تسير من سيئ إلى أسوأ، واستمرت الأحوال الأمنية بالتدهور، مما كان يهدد العرش بالذات، وعليه فقد دعا عبد الإله والملك فيصل الثاني رؤساء الوزارات السابقين، بالإضافة إلى نوري السعيد، ورئيسي مجلسي النواب والأعيان، والوزراء، وبعض الساسة، للتداول في التطورات الخطيرة التي تشهدها البلاد، وُطرح خلال المداولات موضوع استقالة حكومة نوري السعيد، وفسح المجال أمام العرش لتأليف وزارة جديدة تستطيع تهدئة الأمور، وتنقذ الموقف، وقد اتهم أحد الحاضرين نوري السعيد بأنه قد شجع [ انطوني إيدن ] عند وجوده في لندن، على شن العدوان على مصر بدلاً من أن يحذره من مغبة القيام بمثل هذا العدوان.(16)

غير أن نوري السعيد أصرّ على موقفه، وتحديه للشعب، ومشاعره الوطنية، وحذر الملك وعبد الإله من خطورة التراجع أمام تحدي الشعب، مدعياً أن هذا الموقف قد يؤدي بالعرش، وهكذا انتهى الاجتماع دون اتخاذ أي قرار حول الوضع، لكن عبد الإله أجرى مشاورات أخرى بعد الاجتماع مع عدد من السياسيين، كان من بينهم [ جميل المدفعي ] و[علي جودت الايوبي ] بغية تأليف وزارة جديدة، وقد اقترح المدفعي إبعاد نوري السعيد عن الحكومة، إشراك [حسين جميل] و[ مهدي كبه ] في الوزارة القائمة، أو تشكيل وزارة جديدة .

 

ثم استدعى عبد الإله بعد ذلك كل من السيد [ كامل الجادرجي ] و[حكمت سليمان]  و[ محمد رضا الشبيبي ]، وطلب رأيهم في سبل حل الأزمة وإعادة الهدوء إلى البلاد، وقد أجمع الجميع على ضرورة إقالة حكومة نوري السعيد، وتشكيل حكومة جديدة، وحذر حكمت سليمان عبد الإله من مغبة استمرار الأوضاع على ما هي عليها .(17)

 

لكن نوري السعيد، وبدعم  أسياده الإمبرياليين البريطانيين، تمادى في غيه، وأصدر أمراً باعتقال قادة  الأحزاب السياسية الوطنية، وكبار الشخصيات المعارضة، فقد تم اعتقال السادة كامل الجادرجي، وحسين جميل، وصديق شنشل، وفائق السامرائي، وعبد الرحمن البزاز، وجابر عمر بالإضافة إلى العديد من رجال الدين، واحالهم إلى المجلس العرفي العسكري في 16 كانون الأول، حيث صدرت الأحكام، في 19 منه،بحقهم، وصبت الحكومة جام غضبها على الأستاذ الجادرجي، حيث حكم عليه بالسجن الشديد لمدة ثلاث سنوات بعد أن اتخذت الحكومة برقيته التي أرسلها إلى رئيسي مجلسي النواب والأعيان كدليل اتهام، وتم إيداعه السجن .

كما حكمت المحكمة على صديق شنشل،وفائق السامرائي بالمراقبة لمدة سنة، وعلى حسين جميل وسامي باش عالم بكفالة شخص ضامن بمبلغ 5000 دينار، لمدة سنة، وتم نقل شنشل إلى الإقامة الجبرية في [ قلعه دزه ]، وفائق السامرائي إلى [ حلبجة ] في السليمانية، وتم إبعاد عميد كلية الحقوق [عبد الرحمن البزاز] و [ جابر عمر ] و[محمد البصام ] و[ فيصل الوائلي ] و[ حسن الدجيلي] الأساتذة في كلية الحقوق،إلى [ بنجوين ]. كما أبعد رجال الدين إلى قرية [ شثاثة ] في كربلاء، وجرى فصل أكثر من 10 آلاف طالب من كلياتهم، ومدارسهم، والعشرات من أساتذة الكليات بقرار جماعي.(18)

 

وهكذا استطاع النظام قمع الانتفاضة الجماهيرية الكبرى بالحديد والنار، مستخدماً كل ما توفر لديه من الوسائل القمعية، وزج بالجيش ليقمع الانتفاضة، بعد أن هزمت قوات الشرطة القمعية أمام غضبة الجماهير، وعزمها على التصدي للنظام الخائن والعميل للإمبريالية وهذا ما أرادته بريطانيا عندما أسست الجيش العراقي، عام 1921، فقد أرادته لحماية السلطة الحاكمة المؤتمرة بأوامرها، وليس لأي هدف آخر، لكن بذور الثورة كانت تنمو في أحشاء هذا الجيش الذي هو جزء من الشعب، مهما عملت السلطة الحاكمة لإحكام سيطرتها عليه وتوجيهه نحو معاداة الشعب وقواه الوطنية.

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular