بعد وئام دام لسنوات بين الوجود العسكري لطهران وأنقرة، أعلن وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف رفض بلاده لوجود تركيا في سوريا والعراق، واصفا سياستها بـ”الخاطئة”.
ويبدو أن “التوافق” الإيراني – التركي انتهى في قضاء سنجار، حيث ألمحت تركيا إلى شن هجوم على المنطقة، بينما تستعد الميليشيات الموالية إيران لتصعيد محتمل مع تركيا، حسبما يقول خبراء.
وعبر حدودها مع شمال العراق، نفذت تركيا عدة عمليات مستهدفة حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي يشن منذ عام 1984 تمردا في جنوب شرق تركيا، حيث تعيش أغلبية كردية.
وتصنف تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الحزب منظمة إرهابية.
ومنتصف فبراير الجاري، خاطب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنصار حزبه الحاكم، قائلا: “لا (جبال) قنديل ولا سنجار ولا سوريا- من الآن، لم يعد هناك مكان آمن لهؤلاء الإرهابيين”، في إشارة إلى مناطق في شمال العراق توجد فيها قواعد لحزب العمال الكردستاني.
وتقول كارولين روز، كبيرة المحللين في مركز السياسة العالمية (CGP) لموقع “الحرة”: “ألمحت تركيا فقط إلى شن هجوم على منطقة سنجار. ومع ذلك، فإن تلميح إردوغان إلى حدوث تصعيد عسكري محتمل ضد حزب العمال الكردستاني بدأ بالفعل في تغيير المشهد الأمني في سنجار ومحافظة نينوى بشكل عام”.
وأضافت “رأينا عددا من ميليشيات الحشد الشعبي المتحالفة مع إيران تتحرك إلى سنجار لتشكيل جبهة غير رسمية مع متمردي حزب العمال الكردستاني، إلى جانب رسائلها العلنية التي تهدد أنقرة إذا شنت عملية في المنطقة”.
وبحسب تقارير، فقد انتشر 10 آلاف عنصر إضافي من الميليشيات، بمن فيهم مقاتلون من عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، في سنجار في الأسابيع الأخيرة.
ما دور الحشد الشعبي؟
وفي أكتوبر الماضي توصلت الحكومة العراقية مع إقليم كردستان شبه المستقل في شمال البلاد إلى اتفاق بشأن تسوية الخلاف على إدارة منطقة سنجار (كواحدة من أربع مناطق متنازع عليها) عبر نظام إدارة مشتركة، ونشر قوات شرطية اتحادية لفرض الأمن.
وشمل الاتفاق إنهاء وجود حزب العمل الكردستاني في سنجار وكافة الكيانات المرتبطة به.
لكن المعضلة التي تواجه الحكومة المركزية في بغداد، بحسب المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية، هي اندماج عناصر حزب العمال الكردستاني مع وحدات مقاومة سنجار التي تندرج تحت الحشد الشعبي منذ عام 2015.
وتعلق كارولين روز، قائلة: “لا تسيطر إيران على الجماعات التابعة لحزب العمال الكردستاني، مقارنة بنفوذها الكبير على فصائل الحشد الشعبي التي تتعاون مع هذه الجماعات في سنجار، ولاسيما عصائب الحق وكتائب حزب الله”.
وهذا الشهر، هددت حركتا عصائب أهل الحق والنجباء القوات التركية في شمال العراق، وأعلنتا “الاستعداد” للوقوف بوجه “قوات الاحتلال التركي” المتواجدة شمالي البلاد، في حالة “غزو مناطق جبل سنجار”.
كما أعلنت مجموعة “أصحاب الكهف” أنها هاجمت قاعدة عسكرية تركية عند الحدود مع العراق. ويعتقد مسؤولون عراقيون وغربيون أن مجموعة “أهل الكهف” هي “واجهة” لجماعات أخرى، بحسب ما نقلت فرانس برس.
وتقول روز إنه ليس جديدا أن نرى خططا متباينة لتركيا وإيران في دول عربية تشهد وجودهما العسكري مثل سوريا والعراق، و”رغم ذلك، حاولت الدولتان (وكثير من وكلائهما على الأرض) تجنب التصعيد الكبير، مع الحفاظ على مسافة لمواصلة أجندتيهما المنفصلة”.
لكنها تعتقد أن الصدام المحتمل بين القوات التركية من جانب والميليشيات المدعومة من إيران مع حزب العمال الكردستاني من جانب آخر سيمثل مستوى أكثر خطورة من العداء في العلاقة التركية الإيرانية.
صراع مباشر في سوريا؟
وعن تأثير هذا الصراع المحتمل على وجودهما العسكري في دول عربية أخرى، يقول سام هيلر المحلل المستقل لشؤون سوريا والمستشار السابق بمجموعة الأزمات لموقع “الحرة”: “في كثير من الأحيان، يبدو أن إيران وتركيا تتقسمان النفوذ فيما بينهما في دول عربية”.
ففي سوريا، يوجد لدى كل من إيران وتركيا شركاء سوريون ووكلاء محليون يعتبرون الدولة الأخرى عدوا، بحسب ما يقول هيلر.
وفي 2013، أغلقت كافة المعابر الشمالية إليها وبدأت تركيا بناء جدار حدودي في منطقة القامشلي، معقل الأكراد السوريين. ومنذ ذلك الحين وسّعت هذا الحاجز على طول الحدود الشمالية بأكملها. وكان أحد الأهداف وراء ذلك منع تسلل حزب العمال الكردستاني.
وفي أكتوبر 2019، شنت تركيا هجوما عبر الحدود في الشمال، مما دفع القوات الأميركية إلى الانسحاب من معظم الأراضي في “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” التي يسيطر عليها الأكراد.
ولا تبتعد الميليشيات الشيعية العراقية عن معظم هذه المناطق، حيث يخضع الجانب العراقي من الحدود الشرقية لسوريا لمسؤوليتها منذ خريف 2017، عندما فقدت حكومة إقليم كردستان سيطرتها على الأراضي المتنازع عليها بين كركوك وسنجار.
ومقابل هذا الوجود التركي في الشمال، يسيطر حاليا حزب الله وميليشيات شيعية أخرى مدعومة من إيران على عدة مناطق سوري، من بينها حوالي 20 في المئة من حدود البلاد.
لكن يبدو أن إيران وتركيا لا تهتمان بالصراع المباشر في سوريا، حسبما يقول هيلر، مضيفا “على العكس من ذلك، هما يجتمعان بانتظام كجزء من محادثات آستانا، إلى جانب روسيا، حيث تفكك الدول الثلاثة خططهم المتعارضة في سوريا.
وكانت روسيا وإيران وتركيا بدأت إجراء محادثات منتظمة بشأن الصراع الدائر في سوريا في آستانة، عاصمة قازاخستان، بداية عام 2017.
“قوة سنية” في لبنان
وأمام النفوذ القوي الذي تتمتع به إيران في لبنان عبر “حزب الله”، يقول هيلر إن “تركيا قد نجحت في ترسيخ تأثير القوة الناعمة في لبنان من خلال المشاريع التعليمية والثقافية والتنموية”.
وأضاف “يبدو أيضا أن هناك أعدادا كبيرة من اللبنانيين السُنة الذين يعجبون بتركيا ويتعاطفون معها كقوة سنية حازمة على الصعيد الإقليمي”.
وفي تحليل لمعهد واشنطن، قال فراس إلياس، المتخصص في شؤون الأمن القومي والدراسات الإيرانية، إنه من المفارقات أن النموذج السياسي الإيراني الذي يسعى إلى إنشاء ما يسمى بـ”الهلال الشيعي” قدم خدمة كبيرة لتركيا.
وأوضح “في الوقت الذي تطرح فيه الدولتان نفسيهما، بأنهما يمتلكان مشروعا سياسيا إسلاميا (شيعي ثوري – إسلامي صوفي)، نجد أن نجاح المشروع السياسي التركي جاء على حساب إخفاقات المشروع السياسي الإيراني”.
وأضاف “الصورة الطائفية التي قدمت بها إيران نفسها، أدت إلى عزلها إقليميا وزيادة عدم الاستقرار داخليا .ومن ثم، سمح ذلك لتركيا بأن تدخل هذه المجتمعات من الباب الواسع، لتطرح نفسها بأنها البديل السياسي الناجح، والقادر على تبني القضايا الإسلامية والعربية”.
وفي الأسبوع الثاني من 2021، التقى رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري في إسطنبول بإردوغان. ووفقا لبيان صادر عن الرئاسة التركية، تناولت المباحثات سبل “تعزيز العلاقات الثنائية العميقة” و”التعاون في القضايا الإقليمية”.
ووصف فادي عكوم، المحلل السياسي، توقيت زيارة الحريري بـ”المريب”، قائلا إنها تأتي في وقت تحكم فيه تركيا سيطرتها على مناطق شاسعة في سوريا ولبنان.
وفي حديث لموقع “الحرة”، قال: “التدخلات التركية في الداخل اللبناني أصبحت مكشوفة في مناطق الشمال اللبناني والبقاع، يبدو الأمر وكأنه تقاسم نفوذ بين تركيا وحليفتها إيران”.
ويرى عكوم أن الطائفة السنية في لبنان “شبه فاقدة” لقيادة حقيقية وداعم خارجي.
وأضاف “تركيا تحاول لعب دور الداعم للطائفة السنية مقابل حزب الله الداعم الأساسي للطائفة الشيعية، وذلك لإحداث نوع من التوازن الداخلي”.
وعاد عكوم للحديث عن لقاء إسطنبول، قائلا: “في ظل الأزمة الحالية، زيارة الحريري تعني وكأنها اعتراف ضمني بالدور التركي السياسي الداخلي في لبنان، وقدرته على إحداث تغيير، ربما بسبب علاقتها مع إيران”.
ويعتقد المحلل السياسي أن العلاقة بين تركيا وإيران قد تمكنهما من تقاسم النفوذ السياسي والمناصب الحكومية والسيطرة على الأرض والمشاريع الاقتصادية والاستثمارية التي المتوقع أن يحتاجها لبنان خلال الفترة المقبلة.
ولا يرى عكوم إمكانية لفصل الوضع اللبناني عن السوري، مشيرا إلى “اتصالات سورية – تركية لإرساء أوضاع جديدة في شمال سوريا”، معلقا بقوله: “هذا يمكن ربطه بما يجري في لبنان”.
وأوضح “تركيا أصبحت لاعبا أساسيا في سوريا، وتشق طريقها لتكون لاعبا سياسيا في لبنان وهو ما قد يظهر خلال الفترة المقبلة في محادثات تشكيل الحكومة”.
وبحسب عكوم، فإن تركيا قد تعبأ الفراغ الداخلي “ربما قد تقدم ضمانات للولايات المتحدة بأنها ستحاول وقف المد الإيراني في لبنان، وربما يحصل ذلك، لكن سيحدث في مناطق غير خاضعة أصلا لسيطرة حزب الله”.
وأشار إلى أن “تركيا تريد تقديم نفسها على أنها، ورغم تحالفها مع إيران، حائط الصد الرادع سياسيا وعسكريا لحزب الله”.