يجب ان اعترف للأسف إنني لا اعول كثيراً على اقناع الكثيرين هنا، لأنني على قناعة بان الأولوية الأخلاقية في العراق متدنية كثيراً، خاصة فيما يتعلق بإيران. فمن يكره إيران لأي سبب، سيجد ألف مبرر للتخلي عن الموقف الأخلاقي معها. ومع ذلك يجب ان نقول كلمة في هذا.
في رأيي أن المشاركة في الحصار على إيران هو اكبر خطأ أخلاقي يمكن للشعب العراقي ان يتخذه. خطأ لن يمكن إصلاحه أبداً. فالحصار، كما يعرف جميع العراقيين من تجربة مرة، وكما يعترف الذيل الأمريكي حيدر العبادي بكل صلافة- ودون ان يردعه ذلك عن موقفه المخزي- موجه لتجويع الشعب الإيراني ولا يؤثر على الحكومة الإيرانية، إلا بقدر كونها تمثل الشعب الإيراني بالفعل! إن التحجج بمختلف الحجج لتبرير هذه الذيلية المطلقة، وتحويل البلد إلى هراوة أمريكية إسرائيلية لضرب من يريدان ضربه، سيكون جرحاً أزلياً ليس فقط في الضمير الإيراني الذي توجه الضربة اليه، إنما في الضمير العراقي الذي لن يفلت من الإحساس بالعار، عندما تأتي الإحصاءات عن أثر هذا الحصار على هذا الشعب، الذي سبق له ان تحمل حرباً عدوانية بشعة لتحطيم بلاده، قتلت الملايين من أبنائه، ولم يكن له ذنب سوى أنه طرد السفارة الإسرائيلية من بلاده، وفاءاً لالتزامه المبدئي الإسلامي والأخلاقي.
إن الموقف اللاأخلاقي للعراق يجد تعبيره الأقصى في رد رئيس حكومته العبادي، على سؤال حرص على جدولته كآخر سؤال يطرح عليه لكي ينهي مؤتمره الأسبوعي بأقل احراج ممكن. لقد بدا العبادي كالمهرج الذي يتقافز بين الكلمات ليخفي الموقف اللاأخلاقي الذي أمر باتباعه، وعبثا حاول ان يقنع الناس بأن ذلك “من اجل الشعب”!
ولأخذ فكرة عن قيمة الاخلاق للعبادي، لا حاجة بنا الى ان نذكر بأننا امام رجل قبل ان يكون تعيينه رئيسا لوزراء العراق بأمر من السفارة، وبالانقلاب على رئيس حزبه الذي طالما دافع عن سياسته.
كذلك أكد العبادي مدى أولوية الالتزام الاخلاقي عنده، عندما دعا النائب “عبد الرحمن اللويزي” الى الانضمام الى كتلته ودعمها، ووافق الأخير. لكن الوزير الذي امسك متلبسا بأوضح جرائم الفساد، “خالد العبيدي” ابدى استعداده للانضمام إلى كتلة العبادي، مشترطا أن يطرد اللويزي منها! وحين قدر العبادي أن العبيدي اهم له من اللويزي، نسى كل شيء وقام بكل بساطة بطرد اللويزي من كتلته، واضعا إياه في موقف محرج جدا.
هذه الحادثة الصغيرة تقول لنا من هو هذا الرجل، وما قيمة الاخلاق والكرامة عنده. فما الذي تقوله كلماته تجاه ايران اليوم؟
إنها تقول: “نحن ضد العقوبات الدولية في المطلق، فالعراق دفع أكبر ثمن للعقوبات الظالمة، التي فرضت عليه لمدة 13 سنة، ودفعنا ثمنها الباهظ”.
“العقوبات فرضت على أساس إضعاف النظام السابق، لكنها أدت لإضعاف شعبنا، وتمزيق مجتمعنا، وأبرزت ظواهر لم تكن موجودة ودمرت النسيج الاجتماعي، ولم تقض على النظام، بل ظل يستبد ويقتل، وصار أقوى، لأن المواطنين ضعفوا”.
“الحصار والعقوبات تدمر المجتمعات ولا تؤدي هدفها، ولدينا موقف مبدئي ضد العقوبات، ولا يمكن لمجرد هدف سياسي أن تضعف شعبا كاملا وتجوعه، وكون أن دولة أقوى تفرض عقوبات ضد الآخرين، فهذا في منهج العدالة مرفوض”.
“نعتبر العقوبات خطأ جوهريا واستراتيجيا، ولن نتعاطف ولن نتفاعل مع العقوبات، نحن نرفضها…”
..”….. لكننا سنلتزم بها لحماية شعبنا”!!
“…لأن دولا أكبر ستلتزم”.
وشرح: “لا نستطيع أن نتعامل بالدولار إلا من خلال الفيدرالي الأمريكي، كبقية دول العالم”.
وأضاف العبادي: “..وفي النهاية، إذا لم نلتزم، أنت تخسر، وأنا لست راضيا عن العقوبات، لكن هذا لا يعني أن أقدم لك خدمة وأوذي نفسي، وهذا غير مقبول”
“لا يجوز لي كرئيس وزراء العراق أن أتخذ موقفا يضر بمصالح المواطنين”.
“أرى بعض الدعوات للوقوف مع المستضعفين، ونحن مع المستضعفين، لكن شعبنا أيضا مستضعف، والبعض يريد مصلحة الغير فوق مصلحة الشعب”، مضيفا: “دول الجوار لا نعتدي عليها، ولكن مسؤوليتنا الأولى هي شعبنا، وموقفنا هو أننا ضد العقوبات”.(1)
في مواقف أخرى كثيرة سابقة، عبر العبادي عن كونه تابع امريكي، وهو ليس ملام في ذلك لأنه لم يفز إلا بأصوات السفارة… لكنه هنا يذهب خطوة أبعد. إن استبعدنا الحركات البهلوانية التي لا تنطلي حتى على متخلف عقليا، في القفز بين الرفض المبدئي القاطع والقبول الفعلي، نجد إنه يقول بصراحة انه إنسان لاأخلاقي وانه مستعد لأية مواقف غير أخلاقية خدمة لأميركا. وفوق ذلك فأن العبادي يقول للعراقيين في الحقيقة أن عليهم ان يطيعوا أميركا حتى حين تأمرهم بموقف لا أخلاقي، وإلا فلن يكون ذلك في مصلحتهم! ماذا يبقى من “السيادة” وبقية الخرافات؟ العبادي اختار ان يطرح السؤال عليه في نهاية خطابه لكي لا يحرجه احد بمثل هذا.
ومادام الكذب جزء من الأخلاق، فلا بأس من كشف كذب العبادي فيما يتعلق بأن الدول الكبرى ستلتزم بالعقوبات. من المعلوم أن الصين وروسيا لن يلتزما بالعقوبات وهما يعدان العدة لتعاون يحمي ايران من آثار العدوان الاقتصادي الأمريكي. وهذا ليس مدهشاً بحد ذاته، لكن المدهش انضمام الهند وتركيا ودول أخرى اليهم. والأكثر دهشة هو بالتأكيد موقف اقرب حلفاء أميركا اليها: الاتحاد الأوروبي! ونلاحظ ان حكومات اكبر ثلاث دول فيه، هي التي تقود حملة المعارضة، رغم ان هذه الدول تحكمها حكومات قد تكون أكثر تبعية لأميركا من أية حكومات سابقة وصلت إلى تلك البلدان!
ولم يكن ذلك بشكل دبلوماسي مجامل. فصرحت المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي سيسمح للشركات الاوروبية المتضررة من العقوبات الامريكية على ايران بجرجرة الحكومة الامريكية الى المحاكم ومطالبتها بالتعويضات. وحسب قانون الاتحاد الأوروبي المسمى “التعطيل”، والمقر في تسعينات القرن الماضي فأن الشركات الأوروبية ليست مجبرة على التوافق مع العقوبات الامريكية. كما اصدر الاتحاد الأوروبي قرارا بمنع الشركات الأوروبية العاملة في إيران من الانسحاب منها دون موافقة المفوضية الأوروبية، والتي اكدوا انها لن تعطى إلا في حالات الضرورة الخاصة، وضمن قائمة شروط محددة، وعدا ذلك فستتعرض تلك الشركات الى الملاحقة القانونية من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ويبحث الاتحاد الأوروبي طرق تأمين استمرار التدفق المالي إلى ايران بالدفع المباشر إلى البنوك الإيرانية.(2)
وقالت الممثلة العليا للمفوضية الأوروبية “موغريني” أن من حق أوروبا ان تقرر بنفسها مع من تتاجر، وانه يجب حماية “السيادة التجارية”. بل وذهبت مورغيني إلى القول “نحن نشجع الشركات المتوسطة والصغيرة بشكل خاص لزيادة تعاونها الاقتصادي مع ايران وفي داخلها، واننا نعتبر ذلك من أولويات الامن الأوروبي”!(3)
وذكرت الغارديان ان العقوبات ليست الطريقة المناسبة لمعاقبة النظام بل الشعب الذي يعاني.(4)
وسواء كانت هذه المواقف مبنية على أساس مبدئي او مصلحي، فإنها تضع الموقف العراقي تحت ضوء فاضح ومهين! ويزيد الإهانة موقف الخارجية المختلف المحير، حيث رات الخارجية العراقية أن “العراق يرفض مبدأ الحصار على أية دولة والذي يلحق الضرر بالدرجة الاساس على الشعوب بمختلف شرائحها الاجتماعية”… “كما ويستحضر العراق مواقف الجارة ايران المشرفة في الوقوف الى جانبه في الازمات” وأن “ما من ضرر يلحق ببلد من البلدان الا وينعكس سلبا على أمن واستقرار المنطقة برمتها”، واخيراً “في الوقت الذي تشيد فيه الوزارة بموقف الجمهورية الاسلامية مع العراق في مواجهته ضد الإرهاب ودعمها له”.(5)
ما الذي يعنيه هذا؟ إنه يعني أن موقفنا الأخلاقي والمبدئي وقناعاتنا لا قيمة لها ولا تعني شيئا.
إنه يعني اننا حتى لو كنا نعرف ان قراراتنا “تدمر المجتمعات ولا تؤدي هدفها” فإننا قد نرضخ ونقررها.. وأنه لا يهمنا أن “نضعف شعبا كاملا ونجوعه”، وإذا كانت الأوامر من الأقوى تأتينا لنفعل ذلك، فسنفعله..
وهو يعني أننا يمكن ان ندوس على من يقف معنا المواقف “المشرفة في الازمات” وأننا نطيع أميركا رغم علمنا أننا ندمر “امن واستقرار” منطقتنا، ويمكن ان ندمر الشعب الذي وقف “مع العراق في مواجهته ضد الإرهاب ودعمه” وقدم الشهداء من اجلنا.
إنه يعني أن ما نفعله لا علاقة له بما نؤمن به.. ولا بموقف المقابل منا… إننا نطيع بلا مناقشة …. انه يعني اننا عبيد…
إنني اتبرأ من هذا الموقف المخجل إلى الأبد، ومن كل من يتخذه… حتى لو كان اعز الناس.. أنا لست عبداً
(1) العبادي يعلن موقف العراق من العقوبات الأمريكية على إيران –
https://arabic.sputniknews.com/arab_world/201808071034442664-
(2) EU launches counter-measures against US sanctions on Iran
https://www.ft.com/content/be32d010-9973-11e8-9702-5946bae86e6d
(3) Iran Deal: EU to shield EU companies from re-imposed US sanctions
(4) The Guardian view on Iran and sanctions: the EU stands firm
(5) السومرية الشبكة الفضائية العراقية