الزهاوي وهو يدافع عن المرأة وحقوقها، ويغوص في الفلسفة والعلم والإختراعات ليعبّر عنها شعرا، كان العراق كما بقيّة شعراء البلد في قلبه وضميره وشعره. وإني هنا لا أريد أن أغوص في مواقف الزهاوي السياسيّة، ولا مواقفه من أحداث عاصفة هامّة كثيرة مرّت في فترات حياته، قدر ما يهمّني الإستفادة ممّا جاء به من قصائد يحثّ فيها الناس على الثورة وطلب العلم ونبذ الجهل والعصبيّة. إننا في العراق اليوم لبحاجة ماسّة الى هدم القديم وبناء الجديد، الى قبر التخلف والجهل وإشاعة التقدّم والعلم، الى منح العقل حرية التفكير وفك إساره. فأغلال العقل أشدّ أثرا من أغلال وأصفاد اليدين، فالأوّل هناك صعوبة في كسره ويقبل العبودية والذلّ كأمر لا بد منه وأحيانا كأمر مقدّس كما عندنا اليوم، أمّا الثاني فإننا بحاجة الى عضلات قويّة ومطرقة لتحطيمها أو قانون يمنعه وهو أمر ممكن. والوعي هو من يناصبه رجال الدين العداء على مرّ العصور، لأنّ بعدائه حياتهم وترفها وسلطتهم وسطوتها.
والآن لنرحل مع بعض أبيات شعر الزهاوي من قصائد مختلفة، تلك التي خاطب به العقل العراقي محفّزا إياه على إسترداد عافيته من خلال إسترداد وعيه، وليدغدغ من خلالها مشاعر وطنيّة وإنسانيّة يتمناها أن تكون موجودة ولو في العقل الباطن للجمهور، عسى أن يستعيدها الجمهور ويخرج من قمقم اللاوعي الذي أدخلهم إليه رجال الدين وأضاعوا طريقة فك طلاسمه عمدا.
في قصيدته “عن بغداد” والتي خاطب فيها أعداءه، نستطيع أن نرى فيها واقعنا اليوم، حيث الصعاليك هم من يقودون البلد، ولا أعتقد من أنّ الزهاوي يعني بهم اولئك الصعاليك من أشباه (عروة بن الورد)، الذي كان يسرق ليطعم الجياع والفقراء، بل يعني بهم صعاليك المنطقة الخضراء الذين يسرقون ليجيعوا الفقراء. كما أنه يشبّه الأسلاميين وغيرهم من قاطني الخضراء بالغربان، وأظنّ هنا أنّ تشبيههم بالغربان كان دقيقا للغاية كون الغراب رمز للتشاؤم عند العرب.
بعصر به الأقوام تنشط للعلى ……….. أرى البعض لايزداد غير جمود
صعاليك سادوا ثم سيدوا بجهلهم ………. فأذمم بهم من سائد ومسود
أشاهد غربانا بأوكار أنسر …………….. وألقى ذئابا في عرين أسود
ليقول بحق زعيم الذئاب التي تنهش العراق وشعبه علما من أننا اليوم نعيش تحت ظل أكثر من زعيم وأكثر من قطيع للذئاب، الا أنّ أغلبهم كما قال الشيخ وبغضّ النظر عن شكل زعامتهم دينية كانت أم سياسية ليسو سوى جواسيس للأجنبي.
تجسس من بعد الزعامة للعدى ….. وما كان منهم أجره بزهيد
ثم تراه ينتقل الى وصف هو الأقرب الى وصف شعبنا اليوم، وهو يسير نحو حتفه لجهالة وطائفية وعشائرية. فيتناول بالنقد عادات وتقاليد ورثناها وجعلناها نتيجة ضياع القانون والدولة، جزء من عصبيتنا العشائرية التي أستفحلت اليوم وهي في طريقها لتدمير ما تبقى من دولة وموتها، فيقول:
وليس الذي في القوم من عنجهيّة ……… سوى إرث آباء لهم وجدود
إذا كان مشي المغمّضين الى الردى …… وئيدا فمشي القوم غير وئيد
ليقول واليأس يملأ قلبه من شعب نسى ثوراته وأنتفاضاته يومنا هذا وهو يقاسي الأمّرين بعد أن إستسلموا لمفهوم القدر، فيقول :
ولكنّ قومي فوّضوا الأمر كلّه …… الى قدر من ربهم وجدود
لقد خمد الثوّار بعد شبوبهم …… وقد لا تشبّ النار بعد خمود
في قصيدته ” طاغية بغداد” ومن خلال دعاء عن لسان نوح، وكأنه ونوح حاضرين اليوم والعراق يجتاحه الطوفان الإسلامي بطاعونه وكوارثه، ودون أن يكون هناك (جودي) لتقف عليه سفينة النجاة اللهم الّا قمة جبل ” البرز” كي يُغرقها وليّ الفقيه ، أو قمّة في سلسلة جبال روكي عند العم سام ليجعلها تسير نحو شواطئه كونها حمولتها نفط وليس شيئ آخر. أقول في قصيدته هذه يصف الطواغيت من ساسة العراق وعمائمهم وأحزابهم وميليشياتهم وعصاباتهم ولصوصهم وما أكثرهم، من أنّهم ليسو سوى منافقين وفي ضلالة ولا يعرف الحقّ اليهم طريقا، فنراه يقول:
ربّ أنّ المنافقين ببغدا …………. د كثير وقد أتوا ضرارا
ربّ إنّي نصحتهم أن يتوبوا ……. ثمّ إنّي أنذرتهم إنذارا
حتّى يقول متوسلا بالله وداعيا عليهم بالفناء، كونهم لا يخلفون في الحكم الا أمثالهم من المجرمين:
أن قومي قد أفسدوا لا تذر ….. ربّ على الأرض منهم ديارا
إن تذرهم يا ربّ في غيّهم لا ………… يلدوا الا فاجرا كفّارا
إنهم من ضلالهم في تبار ……….. لا تزدهم يا ربّ الا تبارا
وكأنّه ينتقل بنا الى ذُل العبيد وهم يقبلون أيادي السادة كما اليوم، نراه يلهب ظهورهم بأبيات من نار كي ينتفضوا إمّا ألما أو بحثا عن حرّية باعوها، ولكنّ العبيد غافلون وفي بحر جهالتهم نائمون وفي محيط ذلّهم قانعون، فيكتب في قصيدته (حتّام تغفل):
وتلطمنا كفّ الإهانة منهم ………………. فنلثمها من خشية ونقبّل
شريف ينحى عن موطن عزّه …………… وآخر حرّ بالحديد يُكبّل
لقد عبثت بالشعب أطماع ظالم ……….. يحمله من جوره ما يحمل
فيا ويح قوم فوّضوا أمر نفسهم …… الى ملك عن فعله ليس يُسأل
أيأمر ظل الله في أرضه بما ……….. نهى الله عنه والكتاب المنزّل؟
بماذا نهى الله في كتابه المنزّل؟ هل نهى عن الفساد، فلمَ أنتم فاسدون؟ هل نهى عن قتل النفس، فمالكم تقتلون النفوس؟ هل نهى عن السرقة، فمالكم تسرقون؟ هل نهى عن الخيانة، فمالكم تخونون “بلدكم“؟ أمّا إن كان الله ” حاشا الله” قد حلّل كل هذه الموبقات فنراكم تتسابقون ساسة وعمائم لتحقيقها، فأن إله كهذا ليس جدير بالإحترام، كونه قاتل وفاسد وسارق وخائن.
وكأنّه يخاطب معمّم ذو سطوة وجاه ليقول له مكذّبا إياه في محاربة الفساد رغم حديثه عنه لسنوات طوال، نراه يقول:
تقول إذا عمّ الفساد فأنني ……. بإصلاحه في فرصة متكفلّ
أبعد خراب الملك وذلّ أهله ….. تهيء إصلاحا له أو تؤملّ؟
فهل يعي شعبنا ما قاله الزهاوي، وما هي السبل التي علينا ولوجها والأبواب التي علينا طرقها كي يعي شعبنا ما يعيشه من ذل وعبودية وجهل وتخلف؟
الزهاوي في قصيدته ” قضى الله” يقرأ واقعنا المخزي قراءة حقيقية وصادقة وكأنه يعيش عصر العمامة والخضراء، عصر تهديد الثوار والأحرار وقتلهم غيلة وعلانية، عصر ضياع الفضيلة وإنتشار الرذيلة، عصر ضياع كل ما هو وطني وشريف، فيقول:
قضى الله أن تشقى بلاد بربّها …………. فيكرم ذو نقص وينكى صَمَيْدَع
قضى أن يعيش الحرّ فيها مهددا ……… مهانا، وهل مما قضى الله مفزع؟
بلاد بها قد ضاع من كان فاضلا …………. وللملك من أهل الفضيلة أضيع
حملنا الأذى حتى حنى من ظهورنا …… ولم يبق في قوس التحملّ منزع
ويبدو أنّ الزهاوي كان حيّا وهو يرى الخونة يسلمّون ثلث أراضي العراق للإرهابيين الدواعش، وليستمروا في السلطة دون أن يحاسبهم أحد ليقول:
رعى الله شعبا أهملته رعاته …….. وملكا كبيرا ركنه متزعزع
تُقْطَع منه كل يوم مدينة ……. ” وما الكفّ الا أصبع ثم أصبع“
وفي الأبيات التالية، لا نستطيع أن نتساءل إن كان الزهاوي حيّا حينما نظّمها أم ميْتا، بل نستطيع أن نراه في مقهاه اليوم، مقهى الزهاوي الكائن في ما تبقى من شارع الرشيد جالسا على إحدى ” الكرويتات” وهو يدخّن سيجارته ويرتشف (إستكان) شاي أسود كسواد نهار العراق الإسلامي، وينظر بأسى لحال الشارع الذي هو جزء من حال البلد بنظرة فيلسوف، الى المارّة وروّاد المقهى والموت يسير معهم جنبا الى جنب (الموت في مدينة كبغداد يسعى الى الناس في كل خطوة يخطونها)”1″ فيقول بأسى والدموع تبلل شيبته:
قد سكنّا وليتنا ما سكنّا ……….. في بلاد كثيرة الأزمات
في بلاد نُسام فيها خسفا …… ونطيل السكوت كالأموات
فكأنّ الأحرار فيها عبيد ………….. وكأنّ الأُباة غير أُباة
حتّى يقول :
يا إبنة القوم قد أصابني الضّر ……….. فأسبلت للأسى عبراتي
لا تلومي على البكاء حزينا ….. قومه أخضوضعوا لحكم العداة
لا يرى ثورة لهم قد تميط ……… الضر عنهم وتذهب الويلات
الزهاوي على ما يبدو يتابع عن كثب مهزلة الحكومة والأنتخابات، والناخبين الذين لجهالتهم لا ينتخبون الا اللصوص في كل إنتخابات، يدعو الى تغيير شامل وليس الى إصلاح من خلال ثورة عارمة، وعدم الركون الى أشخاص بإعتبارهم حبال نجاة لما تمر بها البلاد وشعبها، مذكّرا الشعب بحقوقه وظلم الحكومة، فيكتب:
فهناك أهل يجهلون حقوقهم …………. وحكومة تعتو ودهر عادي
هم أيّدوا الحكّام في تدميرها ………….. فكأنّهم لو يجهلون أعادي
وقد ألتقت فيها الجهالة والردى …………… فكأنما كانا على ميعاد
نظرت الى الأحرار من أبنائها ….. ” نظر المريض بأوجه العوّاد“
ليس النجاة لأمة من أسرها …………………. ممّا يتم بهمّة الأفراد
لا أملك كلمات لأقولها للزهاوي، وهو ينظر الى الأحرار نظرة مريض بأوجه عوّاده، متمنيا منهم دواء لشفاءه ممّا هو فيه وهي ثورتهم لتغيير واقع البلد الا: عذرا أيها الشيخ الجليل، فقد بعنا حريتنا وبتنا نشعر بلذة عارمة من عبوديتنا ولثم أيادٍ لا تريد الخير لشعبنا ووطننا تحت حجّة المقدّس، وأزيدك من الشعر بيتا لأقول: من إننا لم نكتفي بتقبيل الأيادي و (المدِسْ)** بل نقبّل اليوم حتّى إطارات ( الجكسارات) “3” . عذرا، فالجهل والتخلف هو لباسنا، فهل يثور الجاهل والمتخلّف؟. أيها الشيخ الجليل والوقور، لقد منحنا عقولنا أجازة مفتوحة ورغم ذلك رفض المعممّون منحها الإجازة، وأصّروا على قتلها.. فلنقرأ عليها الفاتحة سوّية.
وفي مصر وهو يحييها بقصيدة ( يا مصر) كان العراق معه في حقيبته، يحمله رغم ثقله “العراق” ووهن عوده، يبحث فيه عن العقل والوعي، ناسيا على ما يبدو وأدهما من قبل أبناء قريش من السادة وعلية القوم فيهم. فتراه يصف العراق وإضطرابه وصراعات الساسة فيما بينهم والناس، ليصف وعن حقّ أنّ بغداد على سعتها أمست مقبرة، ويبدو أنّ القافيّة الشعريّة منعته من وصف العراق بأكمله بالمقبرة، أو أنّه كان يرمز للعراق من خلال بغداد فيقول:
وأنّ العراق اليوم كالبحر مائج ………… به تعبث الأنواء والمدّ والجزر
طغى ثم غاض البحر من بعد ما طغى ….. وليس بما في نفسه يعلم البحر
حتى يقول:
يلومون من يأبى سوى العقل هاديا ….. ويرمون بالكفر لإمرأ ما به كفر
وضاقت بنا بغداد حتى كأنها ……………… على رَحِبٍ فيها لأبنائها قبر
نستطيع أن نرى الزهاوي يجوب مدن العراق الخربة، ويلمس جهل الناس وغرقهم في الأوهام والغيبيات، ودور المؤسسات الدينية في تكريس واقعهم المزري هذا من أجل هيمنة الطبقة السياسية الحاكمة التي تربطهما علاقة مصيرية سويّة مع المؤسسة العشائرية. كما نستطيع أن نرى أنّه لا يحمّل وزر مأساتنا عليهم وحدهم، بل يحمّل الجزء الأكبر منه للشعب الذي خدّرته العمائم والمناسبات الدينيّة التي هي كما الحروب، ما أن تنتهي أحداها حتى تبدأ الأخرى وهكذا يضل شعبنا يسير من مناحة لأخرى، ومن مأتم لآخر. مطلّقا الحياة طلقة بائنة لا عودة فيها، فيقول:
أبناء دجلة والفرات نيام ………… عن حقّها وتسرها الأحلام
وإذا الحقائق لم تجد في أمّة ……….. سندا تقوم مقامها الأوهام
إنّ العراق به يعيش لشقوة ……….. شعب يُسام الذُلّ ثم يُسام
ألفوه حتى صار فيهم طابعا ……. من طول ما صفعتهم الأيّام
لو كُلّفوا مشيا على أرآسهم ………. لمشوا كأنّ رؤسهم أقدام
أيها الشيخ الجليل ، لو كان القوم يستطيعون المشي على أرآسهم لرأيتهم يمشون فرادا وجماعات، لكنني أخبركم من أنهم يمشون اليوم على بطونهم وعلى صدورهم وعلى إلياتهم وعلى أيديهم وأرجلهم كما الكلاب، ويفتخرون كونهم كلاب. وليبكي في آخر القصيدة العراق وخلّوه من رجال ذي همّة لإنقاذه من براثن الجهل والتخلف الغارقين فيه ببحر الإسلاميين المتلاطم أمواجه ليقول:
عن كل مملكة يذود همامها ….. أمّا العراق فليس فيه همام
في إلتفاتة الى جوع الشعب وتُخمة الحكّام والمعممّين يشير الى ضياع الناس، مطالبا إياهم ضمنا بالثورة على واقعهم البائس، فهل سيثور الجياع؟
لقد أشبعوا بالطيّبات بطونهم ………… على مشهد منّا لهم وأجاعونا
وقد حفظوا حقّ الحياة لنفسهم …… بما إغتصبوا من حقّنا وأضاعونا
من خلال حال البصرة التي ثارت من أجل الماء، والسكوت المخزي لباقي العراق شعبا بأغلبيته وأحزابا “الا القليل” ومؤسسات دينية عن جرائم قتل المتظاهرين و إغتيال الناشطين وتهديدهم وإتهامهم بشتى الأتّهامات الباطلة، وعدم التظاهر لنصرتهم لتموت إنتفاضتهم البطوليّة. أقول للزهاوي: لن يثور شعبنا إن جاع، وسيثور عندما يستعيد وعيه، فهل هناك إمكانيّة لعودة الوعي والسلطة ومعها المؤسسات الدينيّة تعمل على تكريس الأميّة والجهل والتخلّف من خلال قتل التعليم والثقافة والفكر؟
إننا هنا لا نخاطب الزهاوي بشخصه، والبصير والجواهري والرصافي وبحر العلوم، ولا نازك والسيّاب وبلند، ولا النوّاب وعريان وغيرهم العشرات من شعراء العراق ، بل نخاطب كل شعراء العراق من الذين تهمهم مصلحة شعبهم ووطنهم، ليثوّروا الناس ضد سلطة الإجرام والرذيلة. نخاطب كل كاتب يحمل قلما حرّا لنصرة شعبه ووطنه في فضح الفاسدين وبياعي الوطن، إننا هنا نخاطب كل مثقف وفنان ومسرحي ونحّات ورسّام في عكس آلام شعبهم بأعمال تقضّ مضاجع المجرمين المتخلفين وتنشر الوعي بين الجماهير. شعبنا ووطننا تقودهما المؤسستين الدينية والعشائرية والأحزاب المرتبطة بهما الى مقبرة مفتوحة، فلنهدم هذه المقبرة بالكلمة والشعر والنحت والرسم والغناء والتمثيل والقصّة والرواية، ولنبني على أنقاضها حدائق ومدارس ورياض أطفال ومسارح ومكتبات.. العراق يموت، فلنعيد إليه الحياة بالعمل المتفاني ودون كلل، فالحريّة لا تأتي بالتمنيات.
1 – من مقالة ( عودة من المنفى) للشهيد كامل شياع.
2 – المِدِسْ جمع مْداس باللهجة الجنوبية، وهي أشبه بالنعال منها الى الحذاء، وينتعله رجال الدين والعاملين في المقامات الدينية بالعراق.
3 – الجكسارة، مصطلح يُطلق على سيّارات مصفّحة يستقلها الساسة ورجال الدين بالعراق خوفا من غضب الجماهير.
زكي رضا
الدنمارك
22/10/2018