محاولة تجريبة مبدعة في تقنيات ادوات تداعي السرد الحر . ان يعطي أهمية بتناول احداث المتن الروائي بنطق الشخوص المحورية , والكشف بما يحملون في جعبتهم من تجربة حياتية ومعاشية في سياق احداث النص الروائي , ضمن الاطار العام للأوضاع في المرحلة الزمنية والمكانية . وفي منعطفاتها الدالة وخاصة ان النص الروائي يقف على عتبات مراحل العراق السياسية في أزمنتها المتعاقبة , في غمار الصراع المحتدم على عصب الحياة العامة , التي تقف على ثلاثة أعمدة رئيسية وهي ( الدين . السياسة . الحب ) وتجلت هذه الاعمدة على عتبات ابواب بغداد في موروثها الشعبي , والتي رسمت صورة الاكبر للعراق بكل ميادينه الدالة . وكما تناولت رواية ( منعطف الصابونجية ) فأن رواية ( عند باب الازج ) هي مكملة لتناول الاحداث في المراحل التي مرت على العراق , واذا كان الجزء الاول تناول المرحلة العهد الملكي . فأن هذا الجزء يتناول فترة معينة من بداية الستينيات من القرن الماضي حتى انقلاب البعث عام 1963 . التي أتسمت هذه الفترة السياسية بالصراع الملتهب والعاصف , ضمن الصراع العام , الذي أتسم بالتخبط والفوضى والخلافات الحادة , لجميع اطراف الصراع من الاحزاب ( اليمين واليسار ) والقيادة السياسية أيضاً . التي فقدت الرؤية السياسية الواضحة . فكانت تحمل ضبابية لا تفرق بين صديق وعدو , وتجاهلت قاعدتها الشعبية التي ترتكز عليها , واحتضنت من يخطط لايقاع بها وغرقها بالدماء . لقد ادارت القيادة السياسية بوصلتها أو ادارت ظهرها لقاعدتها الشعبية , وراحت تضيق عليهم الخناق والمحاصرة عليهم , حتى الاعتقال والسجن , وخاصة من زعيمها ( عبدالكريم قاسم / ابو الفقراء ) .مما خلق التشويه الفكري والفوضى والتخبط , بأنها فقدت حاضنتها الشعبية من خلال ممارسات الخاطئة التي سلكتها ( اغتيالات على قدم وساق ؟ عبدالكريم قاسم نكث عهده وانقلب على الشيوعيين , يطارد البعض ويقبض على البعض الآخر . أصبح مثل ورقة تهزها الريح حيثما تشاء في يوم عاصف , لا أعتقد هناك هناك مستقبل إلا هذه الفوضى ) ص15 . والمتن الروائي يغوص الى الاعماق في هذه الفترة الحرجة بالفوضى . من خلال هذه التقاسيم الثلاث ( الدين . السياسة . الحب ) على مسرح الاحداث . نجد انها تغوص في الزيف والفشل والاحباط والاخفاق والازمة , لم نجد اي واحد منها , لم يصل الى مرامه وحقق النجاح . فمن ناحية الدين فقد أنشغل بالمسائل الثانوية والهامشية في تخدير الناس دون ان يقدم الدعم والانقاذ في معاناتهم . في الجانب السياسي تحول الخلاف السياسي الى ارقة دماء ومجازر , الذي توج في انقلاب دموي عام 1963 . في الحب الفشل والاحباط والخيبة تلاحقه , نجد في وكما عرفنا في رواية ( منعطف الصابونجية ) الشقيقات الثلاث ( بدرية . صبيحة . مديحة ) أصابتهن العنوسة بسبب الاهل , الذين وضعوا شروط لطالبي الزواج , أن يكون من طبقتهم الغنية والباشوية والاستقراطية . مما دفع ( بدرية ) ان تنجرف الى دور البغاء , بعد فشل حبها من الفنان وعازف الكمان ( كرجي اليهودي ) لتنهي حياتها بالقتل على يد ابن عمها ( مرهون ) من اجل شرف العائلة وغسلاً للعار . و( أحمد مسلماني / يهودي ) في هذا النص الروائي ( عند باب الازج ) يتقمص دور رجل الدين المسلم , حتى اعتبر من اولياء الله الصالحين في جبته الدينية , واصبح خادم حرم مقام ( عبدالقادر الكيلاني ) احد مريدي الحلقات الصوفية , لكنه فشل في الحب في كسب أمرأة يود الزواج منها . هذا يعطي دلالة بليغة , بأن الحب اليهودي غير صالح للبقاء ( كرجي وأحمد مسلماني ) رغم مواقعهما المميز .
الشيء الذي يجب الاشارة اليه . بأن براعة الاديبة ( نيران العبيدي ) قدمت بانوراما بغدادية في تراثها الشعبي ومناطقها ومعالمها الشعبية , وهي تقدم خدمة الكبيرة الى الجيل الجديد , في التعرف على هوية بغداد القديمة . ومن أجل تسليط الضوء على أحداث المتن الروائي , لابد من استعراض ادوار شخوصها المحورية وهم :
1 – أحمد مسلماني : اليهودي الذي تقمص دور رجل الدين المسلم حتى اصبح من أولياء الصالحين في مساعدة الفقراء والمتسولين واطعامهم , ونال احترام الناس , واصبح خادم حرم مقام ( عبدالقادر الكيلاني ) ومن المريدين في الحلقات الصوفية . كأن شخصيته تقمصت شخصية عازف الكمان والمطرب ( كراجي ) الذي هام حباً ب ( بدرية ) التي انزلقت الى دور البغاء , وفي هذه الرواية , يقوم بدوره ( أحمد مسلماني ) , يعيش من عرق جبينه في بيع بضائع بسيطة ( خردة فروش ) ينادي على بضاعته في لهجته أو لكنته الخاصة في اللازمة , التي يكررها في المناطق والشوارع الشعبية ( اصيح يا سامعين الصوت .
ابيع لكم
خردة فروش
تعالن يا حلوات
شوفن شكو عند عمو مسلماني
أحلى قلادة من البصرة
عطور دهنية من الهند
بخور عطر بيتك ) وملازمته بهذا النداء :
تعالن يا حلوات , تعالن يا بنوات
التمن على عمكن الذي اضاع بدر البدور وذبها بهبية
تعالن على المسودن
مسودان الي يحب بهذا البلد
مسودن البهرزي ( يقصد صديقه الحميم ( حسين البهرزي اليساري الذي أحب ضحى )
الناس جميعاً مسودنين
يولوا هذا العراق مسودن مسودن
رددوا معي ) ص53 ( مسودن / يعني مجنون )
وهي اختصار عميق للواقع السياسي المتسم بالفوضى العارمة والتخبط , وان كلمة مسودن هي كناية اطلقها الناس على ( عبدالكريم قاسم / ابو الفقراء ) في التناقض السياسي الصارخ بالسياسة العمياء التي لا تفرق بين الصديق والعدو . هذا التخبط ادى الى مقتله بأسوب وحشي . من الذين وضع ثقته بهم , وهم يحفرون في الايقاع به , عكس قاعدته الشعبية , الذين يكيلون الحب والاعتزاز بشخصيته المحبوبة , فقد صعد في بداية الثورة , الحزب الشيوعي , احد اركان الداعمة للزعيم عبدالكريم , وهو يملك شعبية عارمة حتى اشتهرت احد أغاني تلك المرحلة ( يا أم الفستان الاحمر / فستانك حلو مشجر ) وجاهر في تنظيم المظاهرة المليونية دعماً للثورة وقائدها الزعيم , ورددت الجماهير الحاشدة ( الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي ) ص59 ولكن حدث العكس شدد الخناق والتضييق على الحزب بالاعتقال والسجن , وفتت وشتت القاعدة الشعبية المناصرة له , وحتى في ساعة انقلاب البعث , هبت جماهير الشعبية والفقراء الى مقر قيادته للدفاع عنه وطالبته بالسلاح لقمع الانقلابيين . وهي تهتف بحماس ( يا كريم انطينا سلاح باسم العامل والفلاح ) ص143 .
وفي صباحات احد الايام المشؤومة في تاريخ العراق , سمع ( احمد مسلماني ) اناشيد وعزف موسيقى عسكرية من المذياع , فهرول مرعوباً يأكله الخوف الى صيقه ( حسين البهرزي ) وقال بصوت مرتجف :
( – أستاذ حسين أتعرف نشيد لاحت رؤوس الحرابي
– قلت : نعم تلمع بين الحرابي
– قال : أستاذ هذا نشيد حركة مايس وانا أعرفونه جيداً
ينشدون نشيد النازية لابادة اليهود
بهذا النشيد قتل أبناء عمومتي
بفرهود اليهود ) ص139 .
2 – حسين البهرزي : اليساري من عائلة فلاحية , بعد ما اشتد الخناق والملاحقة البوليسية في مدينته ( بهرز ) , لانه من النشطاء اليساريين , اضطر الى الهرب الى بغداد , لكي يتخلص من المضايقات .التجأ الى بيت ( احمد مسلماني ) ورحب به , حين صرحه بالحقيقة بأنه مطارد من قبل الشرطة بسبب آرائه السياسية , وقد , واصبح صديقه الحميم . لكن وجد في بغداد اتعس حالة من مدينته , في المطاردة والملاحقة , من اشقياء السياسة في تخويف الناس والاعتداء عليهم , والمضايقة الطلبة اليساريين , فأضطر الى الانقطاع عن كليته الجامعية . أحب ( ضحى ) الطالبة الجامعية في كلية التجارة والاقتصاد , ومن عائلة غنية ومن سلالة الباشواتية من الاستقراطيين , ورغم الفارق الطبقي بينهما . هو ابن فلاح فقير وهي من عائلة غنية , لكن ارتبطت به بعلاقة حب قوية وتأثرت بافكاره اليسارية . وان حبهما الحقيقي أذابت الفوارق الطبقية فتقول له ( احببتك لانك ابن ديرتنا وهوايات مشتركة كثيرة تجمعنا , أمامك لا أشعر بأدني من البنت البغدادية , أنا امرأة سومرية أمام فارسها
يقول : أنت لي وحدي واقول : لوحدك ياحشاشة الروح ) ص41 .
رغم انها تحمل ذكريات سوداوية من خالتها ( بدرية ) من قاتلها ( مرهون ) لكن تجد في هذا الحب سنابل ترقص في الحقول الذهبية . وفي عشية الانقلاب عام 1963 . ضاعت اخبار( حسين ) كما ضاعت آخبار الآف من المغيبين والمحتجزين عند سجون مليشيات ( الحرس القومي ) المنتشرة في الاماكن العامة والطرقات وهي تحمل بنادق بور سعيد , تقيم الحواجز ونقاط التفتيش للمارة , بحثاً عن المطلوبين من اليسار . وفي أحد الايام وهي تبحث عن حبيها ( حسين البهرزي ) مع أمه , التي جاءت الى بغداد تبحث عن ابنها, بعدما انقطعت أخباره , لتقف ( ضحى ) مع عدوها القديم , الطالب الجامعي ( احمد ابو شامة ) الذي كان باخلاق سافلة ومنحطة , وكان عدواني تجاه الطالبات والطلاب , وكان منبوذاً من الجميع , وفي أحد المرات تحرش بها , لكن صدته , لتجده أمامها مع مجموعة من الحرس القومي على أذرعهم الشرائط الخضراء , ليتطلع اليها بعدوانية كأنه وجد صيد ثمين , ويأمرها بالوقوف ويقول :
( – ست ضحى أنتِ تحت الاحتجاز , بتهمة التخريب والتآمر على الثورة )ص168 .
3 – مرهون ابن نسيبة : هو الذي اقترف جريمة قتل بنت عمه ( بدرية ) بحجة الدفاع عن الشرف وغسلاً للعار , وحكم عليه بالاحكام الثقيلة . ولكنه اختلط مع السجناء الشيوعيين وتعلم القراءة والكتابة , وتثقف بالوعي السياسي , حتى اصبح واحداً منهم , وبعد خروجه من السجن , كان أنساناً جديداً آخر , انتبه الى جريمته وشعر بالخجل العار بما تلطخت يديه , واصبح ناشطاً سياسياً وحزبياً واقتنعت به ( مديحة ) شقيقة ( بدرية ) بسلوكيته الجديدة , ووافقت على الزواج والارتباط به , وجدته مدافعاً عن المرأة التي تعاني من الظلم الاجتماعي . عانى من الملاحقات البوليسية , حتى وجد نفسه محاصراً ومطوقاً من قبل افراد من ( الحرس القومي ) مطلوباً لهم كمعارض يساري عشية الانقلاب . تيقن ان حياته انتهت الى هذا الحد , ونظر الى بغداد بالنظرة الوداع الأخيرة , وهو يندب حظه من الخيبات والخسارات , وقال بتحسر وقهر في لحظات حياته الاخيرة ( خيبة حبي حين أحببت بدرية خاتون , وخيبة حين قتلتكِ بكلتا يدي وخيبة حين تعلمت الابجدية وعرفت واقعي بين البشرية , وخيبة آخرى حين دخلت الحزب , وخيبة حين أنجبت على كبر من أختكِ مديحة ) ص152 .
هكذا تحولت بغداد الى مدينة الرعب , لم تنقطع رشقات الرصاص والانفجارات , وصبيحة الانقلاب كانت الطائرات تحوم حول مقر قيادة ( عبدالكريم ) وتدكه بالحمم النارية , واجهضت الثورة من المتآمرين في الداخل والخارج , ولعب ( جمال عبدالناصر ) في تجهيز افرد الحرس القومي بالبنادق بور سعيد , ويشترك بالتآمر على الثورة والعراق , ويركب القطار الامريكي البريطاني لاغتيال الثورة (لقد فعلها عبدالناصر ) .
× الكتاب : رواية . عند باب الازج
× المؤلف : نيران العبيدي
×عام الاصدار : عام 2021
× عدد الصفحات : 172 صفحة
جمعة عبدالله