الجمعة, نوفمبر 29, 2024
Homeمقالاتقنديل لم ينطفئ : عبدالرضا المادح

قنديل لم ينطفئ : عبدالرضا المادح

كانت الأصوات المتداخلة وضحكات الرجال ترتفع بوتيرة عالية في جوٍ من المرح والانسجام قد ملأت صخبها غرفة الضيوف، هكذا تناهت الى سمعي عند دخولي المنزل. اختلست النظر من فتحة باب غرفة الضيوف، فانساب بريق رؤيتي على جمهرة من الرجال يبدو عليهم في غاية الاناقة، ببدلاتهم الرسمية، و منهم مَنْ كان يرتدي نظارات طبية. ومن ضمن تلك الجمهرة الواسعة لمحت أبي وأخي الكبير زاهر.
دلفت الى الغرفة المجاورة حيث كانت امي لوحدها جالسة على وشك انتهائها من حياكة الليفة التي وعدتني بها، سألتها:
من هم هؤلاء؟.
قالت امي:
انهم هنا من اجل خطوبة أختك سهاد.
لأول مرة ارى وميض الرضا يشع من وجه اخي زاهر الذي كان دوما من أشد الرافضين لزواج سهاد كلما تقدم رجل من أجل طلب يدها.
وعند خروجهم إلى فناء المنزل ألقيت التحية على الجميع، وإذا بحازم يتوجه نحوي ويمدّ يده للمصافحة وانا بدوري قمت بالمثل. عندها شعرت بقبضته تشد راحتيَّ بكلتا يديه والضحكة العريضة على وجهه وقال:
انت نضال مو.
اكتفيت من الجواب عليه بإيماءة وابتسامة. كنت خجلا او اقدر اقول محرجاً. ولكن لاحظت من إمارات وجهه قطعة مبهجة طافحة بالحياة والانشراح.
كان قوي البنية ثقيل الجسم، متوسط القامة، باسم الثغر، شعره يميل الى اللون الذهبي، ذو وجه جاد وعينين واسعتين ذكيتين تشعان منهما انوار الصدق. كان في الخامسة والثلاثين من عمره. بالرغم من صفته المرحة الى حد الكوميديا، إلا انه كان عصبي المزاج نوعا ما.
كان من نوع الأشخاص الذين يحسنون ايجاد كلماتهم، كما انه يتمتع بسرعة البديهة، ويسمح لنفسه بإطلاق نكات ساخرة في اوقات غير ملائمة، هذا ما كان سببا في إيقاعه بعض الأحيان في مشاكل وهو في غنى عنها.
قررت هيئتهم على عقد اجتماع حزبي في بيت رفيقة اسمها عالية. بينما كانت الرفيقة على وشك تقديمه الى والدتها، التي كانت هائمة في المطبخ منغمسة في تنظيف السمك. دخلا معا، وبعد برهة. رفعت الوالدة رأسها حتى بادرت عالية بالقول :
ماما اقدملج حازم.
مدّ حازم يده مصافحا.
الوالدة سحبت يدها واعتذرت وقالت:
اسفة ايدي زفرة.
التفت حازم إلى الرفيقة وقال لها بسرعة:
لعد هاي انتِ طلعتِ بنت الزفرة؟ مع ضحكته المعتادة.
أغضبت الأم بشدة. بينما حاولت الرفيقة ان توضح لوالدتها بان حازم له روح فكاهية ولا يقصد الاساءة. وانتهى الأمر هذه المرة بسلام.
أصبح حازم نسيبي ونَمتْ بيننا علاقة متينة. كان يتمتع بشعبية كبيرة في وسط عائلتنا بفضل ما تحمله تلك الشخصية من قدرات مؤثرة في خلق جو من البشاشة والابتهاج مع الجميع.
كان منزلهم في نفس منطقتنا يبعد عن منزلنا حوالي 300 متر مشياً على الأقدام. كنت دوما ازوره. وكنا نتبادل النكات والأحاديث الشيقة. احيانا كان يطلب مني ان اتركهم لوحدهم عندما تزوره بعض الضيوف طالبا مني ان اعود الى البيت. لم افهم في البداية ولكن علمت لاحقا بانها اجتماعات حزبية.
مع مرور الزمن عرفت عنه معلومات اخرى، بانه مناضل عنيد وكان من الضباط الأحرار. وخلال الانقلاب شباط الاسود، اقتيد حازم إلى سجن نكرة السلمان مع رفاقه الآخرين بما يسمى قطار الموت. هذا السجن كان عبارة عن منفى يقع في منطقة نائية صحراوية على الحدود العراقية السعودية في ناحية السلمان التابعة الى مدينة السماوة.
كان حازم المسؤول العسكري داخل الحزب و ساهم بشكل فعلي في دعم وتطوير هذا القسم المهم من خلال نقل خبراته السابقة كضابط في الجيش. كما كان له مساهمات كبيرة في الحركة الطلابية.
بعد ان أفرغ النظام الجبهة من محتواها، لم يدرك حازم انه تحت المراقبة المشددة وان عيون التربص تلاحق خطواته، بل ان ظله كان فعلا رهن الاعتقال.
وفي ذلك الصباح من عام 1978، كان الهواء بارد ليس كالمعتاد. بينما يسترخي سكان المنطقة من وطأة العمل الشاق، خرج حازم لشراء بعض ما تقتضيه الحاجة لتناول فطور الصباح، لم يكن يعرف سبب ذلك الصمت الجنائزي في الطرقات وسكون تغاريد العصافير واختفاء حفيف الأوراق. وإذا بسور من رجال الأمن حفوا به من كل جهات، مطالبين منه عدم اثارة اية جلجلة ومن ثم حثه على الجلوس في السيارة، التي انطلقت به مسرعة باتجاه اقبية الامن العامة.
وبينما زوجته سهاد التي كانت حامل في الشهور الاولى تطعم ابنها ماجد الذي كان في عمر سنتين، اقتحمت رجال الأمن منزلهم بحثا عن ادلة اخرى. بعد التفتيش، وجدوا حقيبة سوداء متوسطة الحجم فيها بعض النقود وجواز السفر. تم مصادرتها، ثم غادروا المكان.
وفي اقبية الامن العامة جرت له حفلات التعذيب الوحشي بتعليقه بالمروحة السقفية من أرجله وبينما قفاه متدلى الى الأسفل. علاوة على استخدام الأساليب النفسية حينا والاغراء حينا آخر، بغية إخضاعه. وبعد فترة الانتهاء من طقوس التعذيب، اقتيد حازم الى ضابط التحقيق.
نظر المحقق الى حازم وقال بنبرة تصالح:
– اسمع ابو ماجد راح احجي وياك كأصدقاء.. راح اقترح عليك شغلة تفتح أبواب السماء لك ولعائلتك.
ثم يتوقف لبرهة عن الكلام ويتمعن في وجه حازم مع ابتسامة مصطنعة وكأنه ينوي الكشف عن ردة فعل ما سوف يبوح به من كلام على ملامحه، بينما حازم كان ينظر اليه بعيون ثاقبة وابتسامة يتجلى فيها الرفض المسبق.
احنا مستعدين ننطيك أي منصب اتريد عدا الوزير وما فوق بشرط ان تترك جماعتك، وما نطلب منك ان تنتمي النا.. وتصير عندك حياة أفضل من هل بهذلة، وخلاف ذلك راح تعدم. لأن الحكم صدر فعلا بحقك و ما باقي غير توقيع سيد الريس… شتگول على اقتراحي.
أجاب حازم دون تردد :
– اني ارفض العمل بأية وظيفة حكومية.
– يعني اتفضل الموت.. مو… شنو تتصور احنا نلعب وياك.
بعد تلك المحاولات العديدة معه، لم يرضخ حازم الى تلك الاغراءات، عندها شعر المحقق ان ضغوطاته لا تجدي نفعا. نادى على مساعديه:
– تعالوا ودّوا لزنزانته.
ظل حازم قيد الاعتقال لمدة ستة أشهر. لقد انجبت سهاد طفلهم الثاني الذي سمي باسم عمر وهو لازال في السجن .
استلمت سهاد رسالة خطية من حازم عندما كان في السجن، ردا على رسالتها وهي تبشره بولادة طفلهما، كان حازم قد أشار فيها على اتفاقهم ان يسمى بإسم عمر. وقد تم شطب العديد من عبارات الرسالة بالحبر الأسود.
وفي خارج البلاد خرجت مئات من أنصار الحزب في احتجاجات واسعة، مطالبين بالإفراج عن المعتقلين. كذلك الضغوطات من قبل الدول الاشتراكية.
وحال خروج حازم من السجن عام 1979، التقيت به، حيث عبرت عن مدى سعادتي انه خرج حيا. سألته عن أساليب التحقيق والتعذيب. قال:
– الضابط جان شاب هادئ . يتكلم بحرفية . واردف قائلا :
– اسمع يا حازم اني راح اقرأ المعلومات عنك. اذا اضيف اي شي من عندك. اگولك كذاب.
واضاف:
– كانوا يعرفون كل شيء عني. حتى نوعية الملابس والوانها.
تلك الأحداث المتعاقبة التي تلت في تعرض قواعد الحزب الى مضايقات المستمرة اوشكت على ان تكون مصدر قلق دائم. فلا يشغله غير مصير الحزب الذي يمكن ان يتعرض لكارثة.
وفجأة تحولت عمليات الترهيب النفسي والمضايقات اليومية شيئا فشيئا الى رعب وذعر. وهذه الممارسات كانت إيذانا بانتهاء تلك الحقبة من العرس الوهمي الموشاة بوشاح ذهبي باقامة هدف مشترك ينقل الوطن نحو مستقبل رغيد.
لقد باتت عمليات الاختفاء امراً محتوما، وصار الفرار واقعا خياليا لا تراه سوى في الأحلام. تلك الهجمة الشرسة وضعت الانسان على طريق الهروب الى المجهول. وفي غمرة الفوضى المفاجئة، أدّت الى بعثرة التنظيمات وتفكك أواصرها، الأمر الذي دعا الأعضاء الى تحمل مسؤولياتها تجاه نفسها والبحث عن مخرج للخلاص من قبضة النظام الدموي. بحيث انحصروا في زاوية الشكوك والتردد وحياتهم صارت مقسّمةً بين القلق والثقة.
الكثيرون لم يفكروا بخطورة الموقف وان البلايا قد تهبط عليهم بهذه السرعة دون ان يتخذوا حيطَتِهم. كان ذلك بمثابة حلم ثقيل وجِلف زارهم في وضح النهار. الأمر كان في غاية الاهمية والخطورة يتطلب اتخاذ القرار الصائب بكل عناية ومهارة. و كل يوم ينقضي في الوضع يدني من نهاية غير متوقعة .
كانت الأشياء تبدو وكأنها فعلا تم تخميرها في غرف سرية من قبل النظام. وجرى ذلك من خلال إحكام السيطرة على المؤسسات الأمنية والعسكرية. وكان ذلك اقراراً على فردية السلطة. شرع النظام بإعدام 32 انسان بتهمة العمل الحزبي داخل الجيش. وكان هذا حدث قاصم لم ينتبه أصحاب الأمر له.
تفاقم الوضع الى حد التعقيد بسبب نهوض متدفق وتنامي في الحركة الجماهيرية، أغاظ حفيظة النظام الذي اتخذ طريق الانفراد بالحكم بشكل علني. باشر في الاعتقالات والضغط باتجاه عزل الحزب عن محيطه الحقيقي باثارة مشاكل في المناسبات والقيام بالاعتقالات بغية ترهيبهم. طفقت فترة اخرى اكثر صعوبة في الحياة السياسية والتي تحولت مع الزمن الى كابوس جاثم.
بعد ان تم الافراج عنه، ناقش حازم قضية العودة الى أحضان الحزب وتشكيلاته التنظيمية التي كانت البيئة الحالية تشكل عقبة في طريق تنفيذ هذه المهمة. لم يكن امامه من سبيل سوى مغادرة العراق، متوجها الى سوريا ليستجمع بقايا شتاته، بعد ان تحولت الحياة على هذه الأرض الى سجن كبير، خُمدت فجأة تلك الحيوية الصارخة التي كانت تصنع نشاطاً فياضاً وزاخراً.
رغم صفاء الجو وهدوء الحياة العامة من خلال فتح الحانات المكتظة بالرواد وخدمتهم في تقديم المشروبات الكحولية، ودور السينما التي استمرت في عرض أفلامها كالعادة، والمقاهي التي قامت بدورها في احسن حال وحركة الناس في ممارسة حياتهم الطبيعية وضجيج السيارات في الشوارع الجميلة، إلا انها كانت تعطي شعورا خادعاً لحازم. فقد كان يشق على أعضاء الحزب و مؤازَريهم ان يفهموا ما الذي كان يحدث لهم. وهناك مَنْ كان يفهم حجم الصدمة منذ زمن بعيد. بينما لحازم لازالت الصدمة طرية في ذاكرته ويتطلب التخلص من تأثيراتها العميقة.
لم تعلم سهاد بان لقاءها مع حازم في سوريا سوف يكون الأخير. عادت مع اولادها ماجد وعمر الى الوطن. والعجيب في الأمر كان موقف الاطفال والتزامهم بكتمان السر عن زيارتهم بعد ان أوصاهم أبوهم بعدم ذكر أي شيء عن لقائهم.
سألتُ عمر :
عمر.. هل التقيت بابيك؟.
ينظر إلي دون ان ينبس بكلمة . ثم يهز رأسه مشيراً، انه لم يلتق بابيه وكررت المحاولة مع ماجد كذلك الذي انكر انه التقى بابيه. ولكن علمت بعد ذلك من اختي سهاد.
انطفأت انوار النهار بعد ان امتصها سواد الليل، ولازالت سهاد لم تعد الى البيت، حيث كانت تعيش معنا مع أطفاله بعد اختفاء حازم. وفجأة ظهرت امامنا وقسمات وجهها تكسوها غلالة صفراء، وكأن صعقة كهربائية قد تسربت الى جسدها وهي ترتعد خوفاً. كانت ترتجف في مفاصلها، حيث قامت مجموعة من رجال الأمن على إرغامها بالركوب في سيارتهم واقتيادها بعد انتهاء دوامها الى مديرية الامن العامة، طالباً منها الإدلاء بمعلومات عن زوجها المختفي. وبعد إخلاء سبيلها، أوهمها الامن بان قرص التنصت قد وضع في حديقة الدار لسماع ما تنقله لنا. وهذه العملية تكررت عشرات المرات، وفي كل مرة يطالبونها بالتعاون معهم ويوجهون لها التهديدات بالاعتداء الجنسي. وفي احدى المرات قال لها الضابط:
اسمعي زين. إذا ما تتعاونين ويانا. هسه ماجد موجود عدنا في الغرفة الأخرى وره هذا الباب.. نجيبه ونذبحه گدامج.
وفي يوم صيفي لاهب خرجت سهاد من العمل وإذا بها تلتقي وجهاً لوجه أمام رجل الأمن منتصبا، طالبا منها الركوب في السيارة :
سهاد تسأل بصوت واثق:
ليش.
اريد اسالج بعض الاسئلة
مو قبل أيام سألتوني واني گتلكم باني ما اعرف شي.
وأردفت قائلة:
بعدين انا دكتورة بالمستشفى وزوجي غائب وانتو يوميا واگفين بباب المستشفى. اشراح يگولون عليّ واني گاعدة ويا رجال غريب بالسيارة.. اشمدريهم انت رجل أمن.
يرد رجل الامن باستهتار:
شنو يعني كلج مرت مجرم هارب.
وفي صيف عام 1982 عاد حازم الى الوطن والتحق بقوات الأنصار المتواجدين في جبال كردستان. وفي نفس السنة نزل الى بغداد لأداء مهامه الحزبية بسرية تامة. ولكن لم يدم مكوثه طويلا هناك بسبب وصول معلومات عن قدومه الى الاجهزة الامنية من خلال عملائها. فشرعت بالتحري والبحث. شعر حازم بخطورة الموقف. عاد أدراجه ثانية الى جبال كردستان وكانت محطته في وادي بشت آشان .
وادي بشت آشان يقع عند سفح جبل قنديل. اتخذه الحزب مقرا له، بالرغم من عدم صلاحيته العسكرية، حيث لم يكن موقعا عسكريا محكما بسبب انعدام التحصينات الكافية لمواجهة أي اعتداء عسكري محتمل .
كانت مدفعية النظام تقصف المناطق المحيطة ببشت اشان لمدة ثلاثة أيام قبل واحد ايار 1983. ومع ذلك لم تساور القيادة هناك الشكوك بوجود استعدادات من قبل الجيش في شن هجوم مُرجّح على المنطقة.
اتخذت الأنصار الاستعدادات لإقامة حفل بمناسبة الاول من ايار عيد العمال العالمي، والربيع يتنفس غلواءً عذباً. كانت الأجواء داخل المقر تغمره انوار الابتهاج احتفاءً بالمناسبة. كان هذا في يوم 30 نيسان 1983. وفي هذا الوقت كانت قوافل من المرتزقة تسير عبر الجبال نحو موقع بشت آشان. خرجوا من جحورهم المظلمة لرش سموم الغدر والخديعة كي تغطي تلك الأرض الخضراء بالدماء، مدعومين بالمدفعية التابعة لجيش النظام التي كانت تقصف المنطقة تمهيدا لهجوم المرتزقة.
هناك ثمة عالم مشترك يتقاسمه المجرمون بغض النظر عن اختلاف أفكارهم وتطلعاتهم، وأن عالم يكون فيه اللذة السادية متوحداً، يكون هذا العالم في الغالب عالم الرذيلة والدناءة. ويصبح الغدر الصفة المشتركة بينهما.
يباغت المرتزقة الأنصار في موقع بشت آشان، تتسلل مجموعة مسلحة إلى موقع قريب من المقر الرئيسي تحت جنح الظلام. اشتبكت القوة المرابطة هناك مع المهاجمين واجبروهم على التراجع. بينما سقط احد الانصار برصاصة قناص قتيلا في الحال، عندها تحققت لدى القيادة بوجود هجوم على المقر. في نفس الليلة تبدأ مجموعة من القيادة بالانسحاب مع أنصار الكبار بالسن. وبقية الفصيل والمفارز لجأت الى موقف الدفاع، ولكن دون وجود خطط جاهزة في صد أي عدوان قادم – بقيت متحصنة وتترقب-. في الصباح تبدأ المعارك من جديد بعد ان تمكنت القوات المهاجمة من اتخاذ مواقع استراتيجية تتمكن من خلالها السيطرة على حركة الأنصار.
انسحبت الأنصار على اثرها باتجاه الجبال ليلا. وهناك انقسمت القوة إلى مجموعتين دون اتفاق مسبق. ربما بسبب الفوضى.
توجهت مجموعة باتجاه الجبال المتراكمة بالثلوج الواقعة على الحدود الايرانية والاخرى لعدم معرفتهم لمسالك الطرق اتخذوا الطريق باتجاه الأراضي العراقية التي حازم كان من ضمن تلك المجموعة. وكانت المنطقة تحت سيطرة تلك المجاميع المهاجمة.
كانت المفاجأة مروعة، فهناك من يحتضن الحقد في اعماقه، وتم ترسيخ فكر الانتقام في ذهنه. مهما اختلفت التسميات في جوهر ذلك الفعل المشين، يبقى الانسان ذاته هو الضحية اخيرا. الأنصار ينالهم الإرهاق والتعب والرهبة في خوض المجهول وهم يقطعون طرقا مفروشة بالثلوج نحو قمم مجهولة الأفق. كان يوما حزينا. وتحت وطأة الأقدام تسمع ثمة الانين ينبثق من الجليد، تهب ريح باردة يرافقها صفير مفاجئ، وكأنه نذير الشؤم. أو مرثاة لفقدان ما لم يكن في الحسبان. يضطرون الى قضم الثلج ليروي ظمأهم، ولكن ذلك لا يخمد نار العطش. ظلت المجموعة في انسحابها القهقري على هذا المنوال.
كانت السماء المغبرة، تحدق وتترقب بصمت كئيب تلك الكائنات الشوهاء، المتعطشة للدماء، كالحيوانات البرية، رجال متمرسون على خنق الحياة، تصب جام حقدها على كوكبة لامعة تجمعت في هذه البقعة النائية، طامحا من أجل بناء غد مشرق للناس بما فيها القتلة المهاجمين.
المعركة لازالت مستمرة، تنسحب الأنصار من مقراتهم عبر الطرق الوعرة، انهكتهم التعب والجوع، لم يمتلكوا العتاد الكافي للمقاومة. عدد المجاميع المهاجمة كان يفوق عليهم بعشرات المرات، مضافاً الى الاسناد المدفعي من قبل جيش النظام، الذي كان يمدَّهم بالمعدات والعتاد بوسائط النقل الحديثة وكذلك نقل جرحاهم بواسطة السيارات الى المستشفيات الحكومية للعلاج.
كانت الأفراد المهاجمة تتقاطر من جحورهم المكشوفة وتمر بحرية تحت أنظار القوات العسكرية الحكومية، تقوم بحشد أفراد عصاباتها و تتخذ مواقع لها بشكل ملفت للنظر. مجاميع تتوزع على القمم دون ان تثير ذلك ادنى ريبة لقوات الأنصار عن أسباب هذا التجمع. كانوا يمرون عبر مقر الحزب، الذي قدم لهم الطعام والماء، لم يدركوا غايات الجوعى بأنهم كانوا يحملون في أعماقهم مشاعر الانتقام. هذه العمليات قد تمت التخطيط لها بعناية فائقة في غرف الاجهزة القمعية.
وفي يوم 2 أيار طفَّفت الشمسُ، عندما وصلت القوة المنسحبة والمتكونة من 73 نصيرا الى احدى القرى التي اهاليها ترفض بقاء الأنصار فيها، مطالبين منهم الرحيل فوراً. يحصلون على بعض المواد الغذائية مقابل مبلغ من المال ومن ثم يطلبون من رجلين غريبين ان يقودهم الطريق كأدِلاَّء.
الغسق يلملم وشاحه ويدخل في ليلة دهماء. يبدأ الأنصار بمغادرة القرية بصحبة الادلاء باتجاه المجهول، ويبقى عامل التوجس والحذر يسيطر على هواجس الأنصار في هذا الفضاء المفتوح، والسواد يغطي الكون. بدؤوا مسيرتهم غير المعروفة، تاركين القرية وراءهم صعودا الى القمم الجبلية ذات طرق مبهمة تحت قيادة رجلين لم يعرفوا الانصار عنهما شيئاً. بعد مسيرة خمسة عشر دقيقة وصلوا الى منحدر باتجاه الوادي على امتداد النظر. وفجأة تواريا الرجلان عن الأنظار كالاشباح.. القى بالفصيل في وادي الحيرة بسبب جهل عناصره لمسالك الطريق. تلك العتمة الحالكة في ظلمات الطريق كانت تنمي الخوف من اللامرئي. المنطقة تحت سيطرة المهاجمين. كان الموت محوّما في الوديان وشعاب الجبال او ربما تربص خلف الصخور المنتشرة في الأرجاء.
بعد المسيرة المضنية هبطوا في الوادي المحاط بجبلين شامخين، وكأنه قدر كبير بدون غطاء. كانت فيه قرية مهجورة اسمها كيولة بيوتها مهدمة بسبب القصف. الصمت يخيم على المكان. بعد استراحة قليلة والتي كانت الأنصار بحاجة ماسة لها أن ينفضوا عن أجسادهم غبار مشقة الطريق، راحوا يشعلون النار كي تجف ملابسهم المبتلة وتمنحهم قليلا من الدفء، حتى يتمكنوا بعدها أن يخلدوا إلى الراحة في هذا الجو الليلي البارد. وهنا هتف احد الانصار بالقول:
رفاق هذا ليس صحيحا القيام بإشعال النار، الأضواء تكشف مواقعنا.
يشعر الانصار ان الظلام تمنعهم من العثور على الطريق الصحيح، علاوة على الانهاك الجسدي، ولذلك اتفقوا على المكوث في القرية حتى الفجر وطلوع النهار. يتوزعون الأنصار على البيوت وعددها حوالي تسع بيوت خربة.
يبدو الخبرات والتجارب العسكرية لدى الأنصار كانت غير كافية في مواجهة الأخطار. لم يخامرهم شعور بقيمة الحياة في ذلك الظرف الصعب، وكأنهم كانوا مستعدين للموت فقط.
عمليات التنسيق والشعور بدرء الخطر كانت معدومة. لم يكن سوى حارس واحد ليحمي 72 شخص يغطون في النوم في قرية مهجورة مداخلها معروفة لدى المهاجمين. لم تدم ساعات طويلة إلا وتقع المجموعة في كمين المرتزقة وتندلع معركة غير متكافئة. العصابات المهاجمة كانت تمتلك اسلحة متطورة، من ناظور ليلي تمكنهم من رؤية الهدف عن بُعد كيلومترين، كما ان القناص كان بإمكانه إصابة هدفه بدقة دون ان يتعرض نفسه الى إطلاقات نارية.
قاوم حازم مع رفاقه الانصار فسقط جريحاً. بعد ان نفد منه العتاد، ووقعت قتلى بين صفوف الأنصار ، بينما حازم وقع في الأسر مع بعض من رفاقه، بعد ان خانته الجروح. قامت المرتزقة باعدام الاسرى امام النساء، وظلّ حازم يتلوى على الأرض سابحا في دمه.
هؤلاء القتلة أسسوا حياتهم على العبث، لذلك وَلدت لديهم حالة الاحباط والانهيار الداخلي تجاه القناعات. فكانت ردة فعل أفراد العصابات المسلحة هو قتل الأسرى بدم بارد. القضية تكمن في عدم إدراكهم، أن هؤلاء الناس لم يأتوا من مسافات بعيدة ليقتلوا بيد مَنْ يقدمون لهم الدعم. وهذا هو جوهر البَون بين وعي الانسان وعقلانيته في الدفاع عن الحقوق المسلوبة وعبثية المسلحين في تسخير طاقاتهم من أجل العدم.
راحت الجماعات المعتدية تنقض على الأنصار ومن أنفاسهم تفوح رائحة الدم ومن وجوههم المتجهمة تنبثق سهام الانتقام الاعمى.
وقع حازم على الأرض بجسد مُضْنٍ، امضى افراد العصابة في جريمتهم بسحل جسده المدمى والالم يئن في كل خلية من خلاياه دون الأخذ بنظر الاعتبار اصابته البليغة من جراء رصاصات الغدر اثناء وقوعه بالكمين، بل تمادوا في غيهم، حيث قامت المرتزقة بسرقة أموال الحزب التي كانت بحوزته اولا ومن ثم ربطه باحدى الأشجار التي اخذت بعضاً من أوراقها تتساقط احتجاجا على تلك الجريمة. راحت العصابة المسلحة تتسلى في مراهنات ماكرة مع تصاعد قهقهاتهم المهينة، بعد ان جعلوا من جسده دريئة كما كانت القراصنة تفعل، يتبارون فيما بينهم بإطلاق الرصاص على جسده الضخم في أماكن محددة دون قتله مباشرة. بينما حازم كان ثابت الجنان، ومحافظاً على رباطة الجأش، قويا، وشامخا مرفوع الرأس أمام حفنة من قطاع الطرق.
كان حازم على وشك ان يفقد وعيه بينما تناهى إلى سمعه أصوات ترتفع ووقع خطى لاقدام كثيرة، وكأنها صوت حوافر البغال. شعر بأنفاس النهار ممزوجة بالدم، تمتص بهدوء آلام الليل الجريح لرفاق لازالت حياتهم على المحك وهم يشقون الدروب المتعذرة في رحلة الموت. ما أقسى ان يبقى الانسان في دوامة الرجاء والتأمل.
يضحك أحدهم بصوت عالٍ ويقول:
– فالنرسله إلى الجحيم الآن و نمزقه ببنادقنا اربا اربا..
تلك اللحظات قصار من حياته، كأنها يحمل الدهر على عاتقيه. كانت رائحة عفنة تنتشر في الجو تفوح من جسد القتلة المأجورين أشد كآبة من تنفيذ الإعدام. يرفع حازم رأسه، وفجأة انسكب شعاع من عينيه، سقط على شاشة الحياة، فارتسمت لوحة كبيرة تظهر عليها سهاد واولادهما ماجد وعمر امام ناظريه مبتسمين وعلى وجوههم علامات الانتظار تشدهم الشوق الى اللقاء معا ولَمْ الشمل، واذا باشراقة مفعمة بابتسامة عريضة تملأ وجهه.
فتحوا النار من بنادقهم، اطلقوا بدقة نحو جسده الثابت، كانت تلك الرغبة المجنونة في الانتقام، امحت من ذاكرة الضمير الإحساس بالقيم الأخلاقية والإنسانية. تلك الرصاصات أحدثت عشرات الثقوب في جسده الهامد التي راح يتدفق منها الدم كالنافورات المزينة بمصابيح الحمر. لم يكن يتوقع حازم يوما ذلك الأسلوب ألسادي في سلب حياة انسان جاء مدافعاً عن قضيتهم، اقل ما يقال انه احقر لون من ألوان القتل.
ادلهمت فوق مدينة عانة ضباب من الرماد، فاكتست هيئتها سيماء الحزن. وإذا بريح دافئة تهب من مسقط رأسه، تمر على المدن واحدة تلو الاخرى وتتخلل شعاب الجبال ووديانها لتصل إلى تلك الشجرة الباسقة والشاهدة على تلك البشاعة _ موقع إعدام حازم _ في قرية كيوله وهو يلتقط انفاسه الاخيرة، عابقا بكلمات الوداع الاخيرة متضوعاً بعطر الوفاء لقضية شعبه وأن التاريخ سوف يخلده الى الابد وان جريمة بشت اشان تبقى وصمة عار على جبين الإنسانية. وفي هذه اللحظة سكنت الريح وغابت الشمس و تمازجت أنفاسه في نسيم الليل.

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular