بعد سنوات من الوضع الأمني متردي، وما اسفر عنه من قتل وخراب، غادر اغلب المكون الكوردي محافظة نينوى وحملوا معهم الذكريات، ولكن الحنين العودة كان متبادلاً بينهم وبين من تبقى من القوميات الاخرى.
عبد الله كوران كان ممسكا بكتابه يقرأ استعداد للامتحانات الوزاية للسادس الاعدادي، ويتحدث مع اخيه الاكبر عن حلمه بالحصول على معدل عال وتحقيق حلم والده المتوفي بدخول كلية الطب قبل ان يقطع حديثهم صراخ والدتهم وهي تقول “تهديد.. تهديد”.
عبد الله كوران، (33 عاما) مواطن من القومية الكوردية ولد وترعرع بحي الجزائر في مدينة الموصل، هاجر وعائلته تلك المنطقة نهائيا الى اربيل عاصمة اقليم كوردستان عام 2009.
هربت هذه العائلة الكوردية من الموصل وبعد تلقيها تهديدات بالقتل على الهوية في سنوات الاحتقان الطائفي التي تلت احداث عام 2003 والتي بلغت ذروتها بين عامي 2006-2007.
كوران وهو يقلب في البوم الصور القديمة، الشئ الوحيد الذي استطاع اخذه من منزله الذي تركه، يقول “كنت استعد لدخول الامتحانات الوزارية والتقرب خطوة من تحقيق حلمي وحلم والدي في دخول كلية الطب لكن كل شيء تغير فجأة”.
اذ ان هذا الحلم كان صعب المنال على كوران واخوته وذلك بعدما القت مجموعة مسلحة رسالة تهديد تحتوي على رصاصتين تطالبهم فيها بالرحيل فورا من الموصل والا قُتلوا جميعاً.
قالوا لنا اخرجوا بالملابس التي عليكم فقط وان اخذتم اي شيء اخر ستقتلون
“قالوا لنا اخرجوا بالملابس التي عليكم فقط وان اخذتم اي شيء اخر ستقتلون”، يقول كوران، فخرجت العائلة بأكملها بعد تلقيها التهديد تاركين ورائهم منزلهم واشيائهم.
ولم يترك المهددون اي سبيل اخر لكوران وعائلته غير النزوح عن الموصل مدينتهم الام التي لطالما عاشوا فيها ما جعل العائلة تبحث عن الاستقرار في اربيل فوجدته منذ 2009 وحتى اليوم.
التهديد بالتصفية
تستذكر كوجر ذات 27 ربيعا، تعمل بإحدى منظمات المجتمع المدني لحظات حياتها في مدينة الموصل وكيف انها عاشت “اجمل ايامها” في تلك المدينة.
تقول كوجر وهي تنظر في سوار الخرز الذي صنعته لها صديقتها العربية عندما كانتا طالبتين في المرحلة الابتدائية ولا زالت محتفظة به لليوم تقول ” لم نكن نعرف التفرقة كنا جميعا نعيش بوئام ومحبة في منطقتنا”.
وتضيف قائلة ” في منطقتنا التي كان معظم ساكنيها من العرب كنا نحن العائلة الكوردية الوحيدة في الزقاق، لم يتعرض لنا احد كان الجيران بمثابة الاهل”.
الا ان عمل احد اخوتها في قوات البيشمركة عرضهم للتهديد بالقتل من قبل التنظيمات المسلحة فاختاروا الهجرة كبقية اقرانهم الكورد حفاظا على حياتهم.
وتأمل كوجر بالعثور على صديقتها مرة اخرى بعد ان فرقهما القدر منذ ما يقارب 17 سنة بعد ان تركوا مدينتهم وسكنوا مدينة زاخو اقصى شمال العراق.
تعتبر محافظة نينوى متعددة الطوائف والقوميات، يعتبر الكورد ثاني اكبر قومية في المحافظة بعد العرب وبحسب احصائيات سابقة كانت تبلغ نسبة الكورد فيها 33% قبل عام 2003.
الا انه ونتيجة الاحداث التي اعقبت احداث 2003 بدأت هذه النسبة بالانخفاض لاسباب عديدة منها امنية واخرى اقتصادية في ظل غياب اي دور للحكومتين المركزية والمحلية في وقف النزيف الموصلي للكورد.
من الثلث عدد السكان الى نسبة قليلة جدا
ولم تقدم الدوائر المختصة مثل دائرة الإحصاء في محافظة نينوى لـ(كركوك ناو) أي احصائيات حول القوميات التي تسكن في محافظة نينوى عامة ومدينة الموصل بشكل عام.
ويقول السياسي المستقل عمر الحرباوي بأن عدد الكورد في عموم محافظة نينوى كان يقدر بنحو 900 الف نسمة قبل عام 2003 (بحسب احصائيات شبه رسمية) لكن سرعان ما شهدت هذه الاعداد تناقصا كبيرا وصولا للعام 2014 وسقوط الموصل بيد تنظيم داعش ليبلغ عدد الكورد 200 الف نسمة تقريبا.
يقول الحرباوي ان “انسحاب الكورد من محافظة نينوى ترك فراغا كبيرا في هذه المحافظة وسيؤثر سلبا على مدينة الموصل”.
ترك اصحاب لي من الاخوة الكورد محالهم بعد احتلال الموصل من قبل داعش ولم يعودوا منذ ذلك الحين
ابو يونس (40 عاماً) يعمل في محل لبيع الالبسة في سوق النبي يونس يقول لـ(كركوك ناو) بأن سوق النبي يونس كان يسميه اهل الموصل بسوق “الاكراد” وذلك لان معظم من يعمل فيه من الكورد.
الا ان هذا السوق قد فقد تلك الهوية بفعل الاحداث التي توالت على مدينة الموصل. ويضيف ابو يونس “ترك اصحاب لي من الاخوة الكورد محالهم بعد احتلال الموصل من قبل داعش ولم يعودوا منذ ذلك الحين”.
حنين متبادل
داخل مدينة الموصل ينتشر الكورد في مناطق عديدة مثل الجزائر والاربجية وسوق النبي يونس وتعد هذه المناطق كوردية بامتياز الا انها اليوم باتت شبه خالية من سكانها الأصليين، اما خارج الموصل فالكورد ما زال لهم وجود في مناطق سهل نينوى وجنوب الموصل ومناطق اخرى.
“لم تقدم المنظمات والفرق التطوعية اي شيء يذكر للاخوة الكورد” يقول احمد المعاضيدي الناشط في مجال حقوق الانسان.
هذه المبادرات كانت تستهدف ابناء الاقليات المسيحية والايزيدية وبقية الاقليات الاخرى ولم يكن هناك اي مبادرة او فعالية بشأن الكورد من شأنها ترغيب العوائل الكوردية بالعودة لمناطقهم التي كانوا فيها.
ويعترف المعاضيدي بأنه وزملائه الناشطين والعاملين في منظمات المجتمع المدني مقصرون تجاه اخوانهم وشركائهم في الوطن.
كما يؤكد على ان التعايش السلمي ليش مجرد شعارات تطلق هنا وهناك و”اننا اذا ما اردنا عودة اخواننا يجب ان نوفر لهم البيئة السليمة وتهيئة الظروف في سبيل عودتهم وهي تحتاج لتظافر الجهود المدنية والحكومية على حد سواء”.
تؤيد هذا القول فاتن آل علي، ناشطة مدنية وتقول “فقدنا ذلك التنوع الذي كنا نتميز به ” كما تعرب آل علي عن اسفها لما حل بجارتها الكوردية والتي تركت منزلها مجبرة بعد ان سيطر تنظيم داعش على المدينة.
ساهم الاعلام وبشكل كبير في السابق في بث خطاب الكراهية ما عزز في بث الفرقة بين ابناء المدينة
تقول آل علي لقد “ساهم الاعلام وبشكل كبير في السابق في بث خطاب الكراهية ما عزز في بث الفرقة بين ابناء المدينة” وتكمل قائلة ” كنت اتمنى من المؤسسات الاعلامية ان توحد خطابها اكثر يعد التحرير وتعمل سوية على نبذ خطاب الكراهية كما تفعل منظمات المجتمع المدني”.
اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات على استعادة الموصل من قبضة تنظيم داعش لا زالت الموصل “حلما صعب المنال ” لـ كوران وعائلته على الرغم من استتباب الامن واستقراره نسبيا.
كوران الذي كان في يوم ما يحلم بدراسة الطب يعمل اليوم عاملا في مطعم للوجبات السريعة بعد ان اضطر لترك الدراسة نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي مروا بها.
يقول كوران “في كل مرة تقول لي امي لو اننا نستطيع الذهاب للموصل ولو لدقائق ونشم هواها … يا ليتنا نستطيع الذهاب لرؤية منطقتنا وجيراننا”.
ولاء الحمداني – نينوى