قبل أكثر من 10 آلاف عام، تحاربت مجموعة من البشر المتنافسين عند شواطئ بحيرة (توركانا) في وادي كينيا. هذا الحدث كان الشكل الأول للحروب في تاريخ البشرية. ومنذ ذلك الحين أوجدت البشرية، باستمرار، طرقاً جديدة لحل النزاعات القائمة حول الأراضي والثروات يهدف إثبات القوة أو بقصد الطمع الخالص.
بين الألفية الرابعة قبل الميلاد والقرن الرابع بعد الميلاد اعتمدت العديد من الشعوب على قوتها العسكرية كأسلوب حياة ووسيلة لضمان استمراريتها، فكانت تكتيكاتها وأساليبها المبتكرة في الحروب سبباً لبناء إمبراطورياتها وتكوين السمعة المخيفة حولها باعتبارها ثقافات وشعوباً مقاتلة ذات سطوة. في هذا المقال نستعرض ثمانية شعوب اعتمدت على الحروب والقتال لكتابة اسمها عبر التاريخ.
1. الأكاديون
كانت بلاد ما بين النهرين مهد الحضارة، لذلك لا عجب في كونها موطن ولادة الحروب المنظمة، فقد أتقن السومريون القدامى الحرب والغزوات، كإتقانهم لبناء المدن، وإنشاء الديانات، والتجارة، غير أنها استغرقتهم عدة حضارات متعاقبة للاستفادة منها بالشكل الأفضل. ففي الألفية الثالثة قبل الميلاد، طوّر الأكاديون أول جيش نظامي، وأنشأوا أول نظام عسكري، كما أسسوا أول إمبراطورية حقيقة في العالم، دامت هذه الإمبراطورية لقرنين من الزمن وامتدت عبر كامل ما يعرف اليوم بالشرق الأوسط.
بدأت الإمبراطورية الأكادية في منطقة أكاد، شمال المدن السومرية. كان الأكاديون من الشعوب السامية والتي تبعت الشعوب السومرية المسيطرة آنذاك. غير أن ذلك تغير حين جاء رجل يدعى (سرجون)، والذي كان الساقي الخاص بـ(أور زبابا) ملك المدينة السومرية (كيش). وقد نال (سرجون) ذلك المنصب بكل جدارة، غير أنه علم، باعتباره من الشعب السامي، أن ذلك أقصى منصب يمكن أن يناله، فقرر عدم الرضوخ لذلك.
بدأ (سرجون) خطته عبر الإطاحة بسيده ونصب نفسه ملكاً مكانه. لكنه أدرك أن بقائه قوياً في السلطة يتطلب منه إزاحة أعدائه المحتملين. فقرر أولاً التوجه لمحاربة السومريين. خلال حملته، هاجم (سرجون) المدن السومرية المتتالية، وقتل كل قادتها حتى وحّد كل منطقة ما بين النهرين تحت حكم العاصمة (أكاد). عبر تاريخ حكمه الممتد لخمسين عام، أقام (سرجون) 34 حرباً، واتخذ لقب “العظيم”، كما أورث إمبراطوريته لخمسة أجيال متعاقبة من عائلته. فكيف حقق (سرجون) هذا كله؟
أول خطواته بدأت بتأسيس جيش منظّم وقوي، لا عمل لأعضائه سوى احتراف اساليب القتال في الجيش، وهو ما لم يكن لدى السومريون آنذاك، فقد كان السومريون يدعون شعبهم إلى الجيش عند الحاجة إلى ذلك. وكان تعداد جيش (سرجون) الرئيسي 5400 رجلاً شكلوا قوته الموثوقة. غير أن (سرجون) لم يكتف بذلك فقد اتبع سياسة ذكية في التجنيد، إذ حكم على المدن التي يغزوها أن تشارك بعدد من الجنود في الجيش الأكادي.
وعلى العكس من السومريين، فقد شكل (سرجون) قواته من مختلف المناطق ولم يقم بفصلهم تبعاً للمنطقة التي ينتمون إليها. كان (سرجون) يوزع جنوده بتشكيل الصف الواحد وبعمق ستة رجال في الخط. أما بالنسبة للعربات الحربية، التي كانت بطيئة وعرضة للخطر، فقد استخدمت لأغراض النقل فقط. غير أن الثورة الحقيقة في جيش أكاد حدثت في عهد (نارام سين)، حفيد (سرجون)، والذي أوجد سلاحاً أعطى الأكاديين الأفضلية في الحروب. كان هذا السلاح هو “القوس المركب”، كان هذا القوس مصنوعاً من الخشب، إضافة إلى قرون وجلود الحيوانات، مصهورة سوية لإعطائه صلابة إضافية، مما مكنه من إطلاق السهام لمسافة الضعفين بمقابل الأقواس العادية.
2. الحيثيون
يعود أصل الحيثيين إلى جبال منطقة أوكرانيا حالياً، قرب البحر الأسود. بحلول العام 1900 قبل الميلاد أقام الحيثيون المملكة الحيثية في (الأناضول). ومن هناك بنو إمبراطورية استمرت لألف عام، وامتدت من بحر إيجة إلى بلاد بين النهرين.
كان الملوك الحيثيون قادة عسكريين، لكنهم حتى يصبحوا ملوكاً عليهم أولا أن يكتسبوا الخبرة في المعارك. وقد دُرّب أبناء الأرستقراطيين والعائلة الملكية على القتال منذ صغرهم، أما الجنود العاديون فقد تطوعوا في الجيش متوهمين بقدرتهم على تقلد المناصب فيه. كان المجتمع الحيثي مجتمعاً إقطاعياً، يعمل التابعون فيه ضمن أراضي أسيادهم. غير أنه إذا انضم هؤلاء العمال إلى الجيش فسوف يكافئون بدخل جيد وبحصولهم على أراضي لقاء خدماتهم، وهكذا ساعد الجنود على توسيع رقعة الإمبراطورية، وحصلوا على جزء منها، كما ساعدوا أنفسهم وعائلاتهم.
في العام 1274 قبل الميلاد، وثّق الحيثيون سمعتهم بكونهم مقاتلين عظماء عبر هزيمتهم للمصريين. فقد تحرك الفرعون المصري (رمسيس الثاني) لمواجهة تهديدات الحيثيين والذين تقدموا وقتها نحو لبنان وفلسطين. التقى الجيشان، الحيثي والمصري، وجهاً لوجه في مدينة (قادش) على نهر العاصي. وعلى الرغم من التفوق العددي للجيش المصري بـ 35 ألف جندي مسلح مقابل 20 ألف رجل من الحيثيين، فقد خرج الحيثيون منتصرين من تلك المعركة، وقد حدث ذلك لثلاثة أسباب رئيسية وهي: تنظيم القوات الحيثية، امتلاكهم عربات حربية مجهزة، واستخدامهم للحديد في اسلحتهم.
عدا عن التجهيزات التي امتلكها الحيثيون، فقد عدلوا أسلوب قتالهم وفقاً لطبيعة أرض المعركة. فالتكتيكات والأسلحة كانت تختار تبعاً للظروف، وكذلك تنظيم وحدات الجيش والتي كانت محوريةً جداً في نجاحهم. وقد تشكل الجيش الحيثي من المشاة، رماة الأسهم، والعربات الحربية، كلهم منظمين عبر خطوط مكونة من عشرة رجال في كل صف وبعمق عشرة رجال أيضاً. هذه الوحدات الصغيرة كانت سهلة الانتشار، مما حقق أقصى صدمة للعدو خلال الهجوم.
تمثّل دور العربات الحربية كمدرعات، فقد كانت العربات عريضة بحيث تقدر على حمل السائق والمقاتل بالإضافة إلى درع قوي في مقدمتها لحمايتها خلال المعركة، والذي مكّن العربات من مواجهة المشاة في المسافة القريبة. كان هذا التكتيك جوهرياً في تحقيق النصر على المصريين في (قادش). بالإضافة إلى عرباتهم المدرعة فقد كان لاستخدام الحيثيين الحديد في أسلحتهم دوراً بارز في تفوقهم. استخدم الحديد في نهايات العصر البرونزي وقد كان الحيثيون عليمين به. لذلك عوضاً عن استخدام الأسلحة البرونزية الهشة فقد استبدلوها بالحديدية مما رجح كفتهم على باقي الجيوش.
لم يكتف الحيثيون بكل ما سبق فقد استخدموا تكتيكاً آخر لإضعاف أعدائهم وهو “الحرب البيولوجيا”، فقد أشارت سجلات تناولت معاركهم إلى دسهم ماشية مريضة في أراضي العدو قبل غزواتهم مما كان يسبب الأوبئة للسكان. التقارير وصفت الأعراض بتقرحات جلدية وفشل رئوي، وقد اقترح الدكتور (سيرو تريفيستانو) أن يكون هذا الوباء هو “حمى الأرانب” أو ما يعرف طبياً باسم “تولارميا”. لكن في نهاية الأمر قد يكون هذا الداء هو ما سبب النهاية للحيثيين أنفسهم حين وقعوا ضحية له.
3. الآشوريون
بدأت الإمبراطورية الآشورية، مكان العراق حالياً، كمجتمع صغير من التجار في مدينة (آشور). ولحماية أرضهم الخصبة من طمع جيرانهم، فقد أجبر الآشوريون على أن يصبحوا مقاتلين لمواجهة الغزوات والهجمات. نتيجةً لذلك، وبين العامين 1115-612 قبل الميلاد، فقد بنى الآشوريون أعظم إمبراطورية في العهد القديم، قبل ظهور (الإسكندر المقدوني) والرومان، الذين امتدت أراضيهم على مساحة مصر والمشرق الأدنى وبلاد مابين النهرين.
بدأ عهد توسع الآشوريين عبر الملك (تغلث فلاسر الثالث) والذي استخدم العديد من التكتيكات التي ابتكرتها أوائل الشعوب المقاتلة. شكل (تغلث) جيشاً محترفاً مكوناً من مشاة وفرسان بالإضافة إلى وحدات خاصة من رماة السهام والمقاليع. وفي ذلك الوقت أصبح استخدام الحديد في الأسلحة، والذي ابتكره الحيثيون، أمراً شائعاً جداً، لكن الآشوريين وعبر شبكتهم التجارية أمّنوا كميات وفيرة من مصادره الأولية لتصنيع هذه الأسلحة. استخدم الآشوريون الحديد بحرية لتصنيع السيوف، والرماح ورؤوس السهام، بالإضافة إلى خوذهم ودروعهم.
وعوضاً عن استخدام الأحذية التقليدية في المعارك، ابتكر الآشوريون أول حذاء حربي. كان الحذاء بطول يصل إلى الركبة، مع نعل سميك، بغطاء معدني مثبت إلى النعل يغطي الساق وذلك ليناسب جميع الأراضي التي يمكن أن تجري عليها المعركة. لم يتوقف الآشوريون عند هذا الحد، فقد أبدعوا كذلك في استخدام الهندسة في الجيش. طوّر الآشوريون معدات الحصار، وهي آلات متحركة بارتفاع عدة طوابق مع عمود خشبي ضخم في أسفلها لتحطيم الأسوار والحصون. ومن الأشياء الأخرى التي ابتكرها مهندسوا الحرب الآشوريون هي السلالم المستخدمة في الحصار، وحفر الأنفاق تحت أسوار المدينة المحاصرة، حتى أنهم وضعوا المخطط الأول للدبابة. هذه الآلات الحربية استخدمت لإضعاف دفاعات المدينة وسمحت لجنود المشاة بالسيطرة عليها.
كذلك كان الآشوريون أساتذة الحرب النفسية، فقد استخدموا سمعتهم لنشر الذعر في قلوب أعدائهم. في ذلك الوقت كان هنالك حقيقة معروفة للجميع، إن من يتحدى الآشوريين سوف يموت بقسوة. جاء هذا الصيت المخيف بعد أن حصل الآشوريون على مدينة (سورو) قرب نهر دجلة، فأمر الملك الآشوري ببناء دعامة على باب المدينة وكتب قربها: “لقد قمت بسلخ كل قادة المدينة ممن تمرد عليّ، وغطيت الدعامة بجلودهم، بعضهم وضعته داخل الدعامة وآخرون خراجها على الأوتاد.” هذا ما جعل كثيراً من المدن تستلم وتذعن حتى قبل أن يبدأ القتال، تجنباً لمصير كهذا.
وللحفاظ على السلام في المناطق التي سيطروا عليها اتبع الآشوريون سياسة ذكية، هؤلاء ممن تركوا أحياء إما يصبحون عبيداً أو يعاد توطينهم في مكان آخر. نقل الآشوريون أصحاب المهن الموهوبين في المناطق المحتلة إلى أماكن أخرى من الإمبراطورية تحتاجهم وذلك للاستفادة من مهاراتهم. وهكذا ضمن الآشوريون خدمة الإمبراطورية بالشكل الأمثل، وصهروا الناس من المناطق التي غزوها في تلك الإمبراطورية وحرموهم من إنتمائهم مما قطع أي بادرة مقاومة من أن تتطور.
4. إسبارطة
على الرغم أنهم لم يعتبروا كبناة إمبراطوريات، إلا أن الإسبارطيين اشتهروا كونهم من نخبة المقاتلين في اليونان القديمة بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد. ضم الإسبارطيون أراضي جيرانهم (الميسيين) ومنطقة (لاكونيا) إلى أراضيهم. أٌجبرَ (الميسييون) وسكان منطقة (لاكونيا) على العمل كعبيد في أراضي إسبارطة، وهكذا استطاع الرجال الإسبارطيون التفرغ لاهتماهم الرئيسي، القتال، والذي كان العمل الوحيد المتوفر لهم.
كان المجتمع الإسبارطي متمركزاً حول فكرة التفوق العسكري وحملوا معهم هذه الفكرة طيلة حياتهم من المهد إلى اللحد. كان الآباء الإسبارطيون يأخذون أطفالهم المشوهين والضعفاء إلى جبل (تايجيتوس) ويلقونهم من هناك، فمن نجا منهم ترك عائلته في سن السابعة لينضم إلى مدرسة التأهيل البدني في إسبارطة (Agoge)، وهي مدرسة تعتمد على التربية العسكرية. عاش الأولاد في ثكنات عسكرية، وتعلموا القراءة والكتابة والرقص ليتمكنوا من السير برشاقة في أرض المعركة.
في سن الثانية عشر، تزداد حدة التدريب قسوة على الأولاد اليافعين، فكانوا يجردون من أحذيتهم ويعطون الحد الأدنى من الملابس والطعام، كانوا يقادون ليصبحوا مكتفين بأنفسهم وقادرين على الحصول على متطلباتهم بأيديهم. شجعت التربية العسكرية الشبان على السرقة، خصوصاُ من العبيد، ولم يعاقب السارق إلا في حال تم القبض عليه بالجرم المشهود، كما شجعتهم أيضاً على ممارسة مهارات القتل على العبيد. في تقليد يدعى (كرايبتيا Krypteia)، قام الأولاد بغارات ليلية بهدف وحيد فقط، قتل أي عبد يصادفونه وحيداً.
عند بلوغهم سن العشرين، ينتقل الرجال الذكور إلى ثكنات الجيش المخصصة للبالغين، حيث يقيمون فيها حتى لو كانوا متزوجين. وتستمر حياتهم على هذا النحو حتى وصولهم لسن الأربعين، حيث ينتقلون إلى وحدات الاحتفاظ حتى سن الستين. كانت حياة الرجال الإسبارطيين صعبة، فحين يوصف أحدهم بصفة الجبان يتم إقصائه إجتماعياً، كما لا يتمكن من الزواج، ويتم تمييزه بين الحشود بلحية نصف محلوقة ومعطف متعدد الألوان، وقد فضل الرجال الموت على العيش في هكذا حالة. بعد معركة (ترموبيل)، تلك المعركة التي أوقف فيها 300 مقاتل إسبارطي أكثر من 70 ألف من الجيش الفارسي وذلك لأكثر من ثلاثة أيام، لم يشارك رجلان من إسبارطة في تلك المعركة فقام أحدهما بشنق نفسه، فيما استطاع الآخر من الحصول على الخلاص بعد أن مات بنجاح بعد ذلك خلال معركة أخرى.
على امتداد اليونان القديمة، شكلت وحدات المقاتلين المدنيين (الهوبلتيز) القوام الرئيسي للجيش الإسبارطي، وقد تبنى الإسبارطيون هذا الشكل من الجيش بعد هزيمتهم في معركتهم ضد مدينة (أرجوس). كان السيف الإسبارطي، أو (زيفوس)، مصمماً للمعارك قريبة المدى، بالإضافة إلى ذلك استخدم الإسبارطيون الرماح والدروع كأسلحة خلال المعارك، صنعت هذه الدروع من البرونز، وبتصميم منحني يساعد على دفع جنود الأعداء. اعتبرت خسارة الدرع عاراً للمقاتل فهو بجوهره “سلاح لخدمة الجمع” وليست وسيلة ليحمي الفرد نفسه فقط.
5. السكيثيون
ظهرت شعوب السكيثيين كقبائل رحالة خيّالة، سكنت السهوب السيبيرية، وخاطرت بالإغارة على منطقة بلاد ما بين النهرين خلال العصر الحديدي. وصفهم الإنجيل بأنهم ”شعوب ذات بأس، جعبتهم كالقبور. يأكلون حصادك وخبزك، يقتلون أبنائك وبناتك، خرفانك وثيرانك، ويلتهمون عنبك وتينك.“ أغار السكيثيون على آشور، واحتلوا عاصمتهم نينوى في العام 612 قبل الميلاد. وصلت غزواتهم إلى فلسطين وقاربوا حدود مصر لو لم يعطيهم الفرعون المصري مالاً كي يبقوا بعيدين عن أرضه.
كانت أعظم إنجازات “السكيثيين” قدرتهم على إفشال الغزو الفارسي بقيادة (داريوس الأول). فقد اعتبر جيش (داريوس) من أكبر الجيوش في العهد القديم، غير أن الملك الفارسي قلل من قدر خصمه. كانت أولى مفاجآت السكيثيين لجيش (داريوس)، المتجه نحو السهوب السيبيرية، هو كمين محكم غير متوقع نصبه خيالة السكيثيين. غير أن أسوء كوابيس جيشه لم يأت بعد، فقد استقبلهم السكيثييون بالجدران المسمومة والأراضي المحروقة. أخيراً، مثقلين بنقص الإمدادات والمعنويات، خيّم جيش داريوس عند شواطئ بحر (آزوف)، حينها أرسل (داريوس) رسالة إلى الملك السكيثي (إيدانثيرسوس) يطلب منه عدم الدخول معه في معركة.
رد (إيدانثيرسوس) كان حاسماً:
”هذه هي طريقتنا أيها الفارسي. أنا لا أخشى أعدائي أو اهرب منهم. لم أفعل ذلك سابقاً، ولن أقوم به الآن. لا جديد في ذلك، ودائماً ما اتبعت حدسي في أيام السلم. وسوف أخبرك أننا لم لن أواجهك في المعركة. نحن السكيثييون لا نملك مدناً ولا أراضي نزرعها، لا شيء يدفعنا للخوف حتى نحميها خشية أن تسلب، لذلك لسنا في عجلة للدخول في قتالٍ ضدك.“
أرسل (إيدانثيرسوس) الرسالة مصحوبة مع بعض الهدايا الغريبة، فأر، ضفدع، طائر، وخمسة سهام. سريعاً ما فهم (داريوس) الرسالة جيداً: إن لم تهربوا كما الطيور، أو تختبؤا كما الفئران، أو تقفزوا إلى البحيرة كالضفادع، ستلقون حتفكم. وبعد عدة غزوات فاشلة أخرى، استسلم الفرس ورجعوا خائبين. كان لتكتيك حرب العصابات ومهارات الخيالة العائدة لنمط حياة الرحل عند شعوب السكيثيين الدور الأكبر في هزيمة الفرس.
إضافة إلى ذلك كان استخدام السكيثيين للأقواس محورياً في معاركهم، كما أتقنوا صناعة الأسلحة، خصيصاً صناعتهم لسلاح سمي تيمناً بهم (السكود Skeud)، وهي الكلمة الهندو-أوروبية لكلمة (مدفع). لم يتم إيجاد الأقواس التي استخدمها السكيثيون في مقابرهم، غير أن بعض التنقيبات الحديثة أشارت إلى أن تلك الأقواس كانت صغيرة، مصنوعة على شكل حرف سيغما الإغريقي وقادر على إطلاق من 10 إلى 12 سهماً في الدقيقة.
6. السلت
إن كلمة “السلت” بحد ذاتها هي كلمة عامة، تدل على مجموعات القبائل الإندو-أوروبية الشمالية، والتي اشتركت بلغة وثقافة واحدة. ولعل أبرز خصائصهم هي اعتبارهم الحرب كجزء كبير من حياتهم، كما اشتهروا بضراوتهم وشجاعتهم. اعتبرهم الرومان بمثابة وباء، حتى قضوا عليهم أخيراً.
كان الظهور الأول للسلت في التاريخ المكتوب في العام 390 قبل الميلاد عندما هاجمت مجموعة من (بلاد الغال) منطقة (إتروسكان) في وادي (بو) غرب إيطاليا. دعا الرومان إلى عقد اجتماع للتفاوض بين طرفي النزاع. خلال المحادثات، قام رسول الرومان بقتل أحد قادة الغال. طالب السلت بموت القاتل مدفوعين بغضهم الشديد، غير أن الشيوخ الرومان رفضوا مطالبهم، ما دفع السلت إلى حصار (روما). هاجم السلت روما وحاصروا الرومان عند (هضبة كابيتولين)، ولم يتراجعوا حتى قام الرومان بدفع فدية كبيرة.
استخدم السلت الرعب والإرهاب كمفتاح رئيسي في تكتيكاتهم، وقد كتب (بوليبيوس)، في القرن الثاني بعد الميلاد، في وصف أعدائهم:
”خائفين من الأوامر الحازمة لقادة السلت، والضجة المرعبة التي يثيرونها، بوجود عدد كبير من الأبواق، والمنافيخ، وكل جندي من السلت يصرخ عالياً بشعارات الحرب… كما كانت مظاهرهم مخيفة على حد سواء، وحركات الجنود العراة في مقدمة الجيش. كلهم شباب في مقتبل العمر ورجال قوام البنية، وجميعهم مزينون بحلي وأساور أذرع من ذهب..“
وهكذا لعبت مظاهر السلت وتصرفاتهم المرعبة دوراً كبيراً في تكتيكاتم الحربية. وقد كان الرومان حاضرين في رؤية المقاتلين السلت متجهين بطيش وتهور نحو المعركة. غير أنه من الخطأ الظن بأن تلك التكتيكات كانت اعتباطية، فقد وظف السلت العربات الحربية بمهارة في المعارك. تميزت هذه العربات بالوزن الخفيف ونظام القيادة المرن، مما ساعدهم على قيادتها في الأراضي الصعبة.
7. الرومان
في الوقت الذي مات فيه الإمبراطور (تراجان) في العام 117 بعد الميلاد، كانت الإمبراطورية الرومانية الأكبر على الإطلاق في العالم القديم، ممتدة من إسبانيا إلى سوريا، ومن البحر الأدرياتيكي إلى بريطانيا. نشأت الإمبراطورية بداية على شكل مستعمرات صغيرة من الرعاة وقطاع الطرق عند حدود نهر (التيبر)، غير أن قوتها العسكرية هي ما صنع منها إمبراطورية عظيمة.
كان للانضباط، والتنظيم، والهندسة دوراً جوهرياً في الجيش الروماني، بالإضافة إلى قدرتهم على تبني وتطوير أفكار الجيوش الأخرى. شكّل الرومان فيلق المشاة بنفس تشكيل (الهوبلتيز) الإغريقيين، لكنهم عدلوا ذلك التشكيل بطريقتهم. في النسخة الرومانية المسماة (ليجيو)، كان الرومان يدفعون مبالغ صغيرة وجبايات لجنود المشاة النشطين في الخدمة العسكرية. شكل فيلق (ليجيو) القوام الرئيسي للحملة السنوية التي أقامها الرومان ضد الممالك الإيطالية المجاورة، والتي شكلت فيما بعد نواة الإمبراطورية.
لعل الابتكار الأبرز للجيش حدث بعد المعارك البونيقية. تلك المعارك استمرت لأوقات أطول وحدثت بعيداً عن الأراضي الإيطالية. بحلول العام 201 قبل الميلاد، وبعد هزيمتهم الأخيرة في قرطاج، ثبت لهم أن تشكيل جيشهم أصبح قديماً وضعيفاً ولم يعد يخدم روما بالشكل الأمثل. عندها غير الرومان من معايير الخدمة العسكرية. أصبح كل المواطنين بين سني 17-46 صالحين للخدمة العسكرية بغض النظر عن ممتلكاتهم. وعندما يتم تسجيلهم في الجيش، يوافقون على الخدمة لست حملات عسكرية متتالية ويتطوعون لست عشر عاماً أو عشرة أعوام إذا خدموا في سلاح الفرسان.
تضاعف الزاد البشري للجيش الروماني بعد الحرب الأهلية، فقد ضموا الجنود من الولايات الإيطالية التي غزوها. واستمر الرومان في سياسة ضم المواطنين الجدد كلما توسعت منطقة نفوذهم. تم إضافة الأجانب كوحدات مساعدة إلى الجيش، وكل وحدة من هذه الوحدات جلبت معها مهارات قتال تميزت بها لخدمة روما العظيمة. ومن هنا كان المفتاح الرئيسي لنجاح جيش روما: العمل الجماعي. لم يكن للإنجازات الفردية أي أهمية، بل اعتبر كل جندي حجر أساس في المنظومة العسكرية الرومانية. وقد قاتل الرومان بتشكيل قريب عوضاً عن تشكيل الأفراد، مما ساعدهم على الصمود في وجه هجمات الأعداء الوحشية.
لم يتوقف الرومان عند هذا الحد، بل كان هجومهم أيضاً مدروس بعناية. حيث تشهد بداية المعركة وابلاً من الرماح تتدفق باتجاه خطوط العدو، وكانت الغاية من هذا شل دروعهم، فحين يخترق الرمح الدرع يصبح هذا الدرع غير ذي فائدة في الدفاع. بعدها تتحرك الجحافل إلى المواجهة قريبة المدى، حيث يستخدم الجنود الرومان سيوفهم القصيرة، أو كما تدعى (غلاديوس)، لقتل العدو. بعد أن يتعب الرومان أعدائهم عبر فيلق المشاة، يدعم سلاح الفرسان الجيش من الخلف عبر ملاحقة الناجين من العدو. لم يكتف الرومان بتطوير أسلحة المواجهات المباشرة بل طوروا أسلحة لفرض الحصار، من منجنيقات ومدافع لفتح أبواب الحصون وما إلى ذلك من أسلحة ساعدتهم على خرق تحصينات أراضي أعدائهم بسهولة.
البارثيون
مشكلاً من الفرس الأخمينيين ومستلهماً من تشكيل الجيش السكيثي، اعتبر الجيش البارثي كجيش تقليدي مشابه ﻷغلب المجتمعات العسكرية العظمى من العصور الوسطى. كان القوام الرئيسي للجيش من وحدات الفرسان الثقيلة، يصطحبهم رماة سهام بأدرع خفيفة، ولم يستخدموا وحدات المشاة إلا في الحروب طويلة الأمد، وقد اتخذ البارثيون هذا التكتيك بعد هزيمتهم على يد الإسكندر العظيم. أدرك البارثيون أنه لا يمكن لهم هزيمة المشاة إلا عن طريق الفرسان المحميين بدروعهم الثقيلة. لذلك طوروا نظاماً يسمح لسلاح الفرسان بشق صفوف العدو، مما يتيح لرماة السهام المدرعين بدروع خفيفة أن يهاجموهم.
اشتهر رماة البارثيون بشيء محدد: الضربة البارثية. حين تصل المعركة إلى مرحلة الانسحاب، يقوم رماة السهام البارثيون، الذين يمتطون ظهور الخيل، بإطلاق أحصنتهم بأقصى سرعة ممكنة. لكن الرماة يجلسون بشكل معاكس على ظهر السرج، حتى يواجهوا العدو، ومن ثم يطلقون سهامهم، وقد فعلوا ذلك دون أربطة للدعم، مستخدمين أرجلهم للضغط على أسرجة الخيل.
نقطة الضعف في ذلك الأسلوب كانت الخيول أنفسها، فقد كانت معرضة للمخاطر خلال الحرب. تفادياً لهذا اتخذ البارثيون إجراءات لحماية أحصنتهم عبر تغطية الحصان بدرع. وصف (كاسيو ديو) درع الحصان البارثي أنه غطاء مصنوع من المعدن الخفيف يغطي الرأس والعنق والصدر والجوانب. هذا الدرع الخفيف والمرن، كان مصنوعا من أوراق معدنية متداخلة مما سمح للفرس أن يتحرك بحرية خلال المعركة.
عبر استخدامهم هذه الأساليب، تمكن البارثيون من استرجاع (إيران) من يد الإمبراطورية (السلجوقية). ثم واجهوا الرومان في معركة (كارهاي) في العام 53 قبل الميلاد. في تلك المعركة كان عداد الجيش البارثي ألفاً من سلاح الفرسان الثقيل وتسعة آلاف من رماة السهام، تمكنوا من هزيمة الرومان وقائدهم (كراسيوس). شكلت هذه المعركة بداية الصراع، الذي امتد لثلاثة قرون، بين الرومان والبارثيين، حتى استسلام البارثيون أنفسهم إلى إمبراطورية أخرى.