يُثار الجدل بين حين وآخر بشأن أسباب استمرار العمل في العراق بقوانين وتشريعات تعود إلى النظام السابق في وقت يوصف بأنه “دكتاتوري” من قبل الأحزاب السياسية التي تولّت زمام الأمور بعد الغزو الأميركي عام 2003، وتحديدا ما يتعلّق بحرية الرأي والتعبير فضلا عن مواد جرائم النشر في قانون العقوبات لعام 1969 الذي يتضمن كثيرا من المواد الخاصة بحرية النشر والتعبير عن الرأي.
ومن أكثر هذه المواد جدلا التي تتعلق بـ”إهانة” السلطة والرئيس ومؤسسات الدولة، ومنها على وجه الخصوص المادتان 225 و 226، اللتان علّق العمل بهما الحاكم المدني الأميركي بول بريمر في 10 يونيو/حزيران 2003، إلا أنهما عادتا إلى التفعيل مرّة أخرى عام 2007، فضلا عن وجود نحو 3 آلاف قرار لمجلس قيادة الثورة إبان حكم الرئيس الراحل صدام حسين ما زالت نافذة بجميع موادها القانونية.
ولعلّ صدور أوامر القبض بحقّ الباحث السياسي والقانوني إبراهيم الصميدعي الشهر الماضي، ومَن سبقوه من صحفيين وناشطين ومحللين سياسيين لانتقادهم جهات مسؤولة أو شخصيات سياسية بالاستعانة بالمنظومة القانونية لنصوص يعود تشريعها إلى النظام السابق، يشكل نقطة الإثارة الأبرز في هذا الموضوع.
4 مواد مثيرة
وهناك 4 مواد مختصة بمعاقبة من يُهين السلطات أو الرئيس في العراق، وهي المادة 225 التي تنص أن “يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على 7 سنوات أو بالحبس من أهان بإحدى طرق العلانية رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه”.
والمادة 226 تنص على أن “يُعاقب بالسجن مدة لا تزيد على 7 سنوات أو بالحبس أو الغرامة من أهان بإحدى طرق العلانية مجلس الأمة أو الحكومة أو المحاكم أو القوات المسلحة أو غير ذلك من الهيئات النظامية أو السلطات العامة أو المصالح أو الدوائر الرسمية أو شبه الرسمية”.
والمادة 227 تنصّ على أن “يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين أو بغرامة لا تزيد على 200 دينار كل من أهان بإحدى طرق العلانية دولة أجنبية أو منظمة دولية لها مقرّ بالعراق، أو أهان رئيسها أو ممثلها لدى العراق، أو أهان علمها أو شعارها الوطني متى كانا مستعملين على وجه لا يخالف قوانين العراق. ولا تقام الدعوى عن هذه الجريمة إلا بناء على إذن تحريري من وزير العدل”.
وتنصّ المادة 228 على أن “يُعاقب بالحبس أو بغرامة لا تزيد على 200 دينار من نشر بإحدى طرق العلانية أمرا مما جرى في الجلسات السرّية لمجلس الأمة، أو نشر بغير أمانة وبسوء قصد أمرا مما جرى في الجلسات العلنية لهذا المجلس”.
وهناك مواد أخرى تختص بالنشر والتشهير بالغير بالصحف أو المطبوعات أو بإحدى طرق الإعلام الأخرى، وهي المواد 433 و 434 و 435.
عجز البرلمان
ومنذ سقوط النظام السابق لم تفلح السلطة التشريعية في العراق في إصدار قاعدة تشريعات جديدة تلغي أو تستبدل القوانين والتشريعات التابعة لمجلس قيادة الثورة المنحلّ، والتي تبلغ نحو 3 آلاف قرار ما زال نافذا.
هذا العجز يعزوه عضو اللجنة القانونية النيابية سليم شوشكي إلى مماطلة أطراف فاعلة داخل المجلس في تشريع أو تبديل بعض التشريعات المعمول بها في الوقت الحالي، وذلك لضمان بقائها في السلطة باستعمالها أو الرجوع إلى النصوص القديمة لتعزيز سيطرتها.
ويضيف شوشكي -في حديث للجزيرة نت- أن نظام الحكم الحالي اتحادي يختلف عن النظام المركزي السابق، فالأمر يحتم تشريع قوانين جديدة لا سيما في ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير، مستدركا بالقول إن قوانين البعث ليست كلها مرفوضة.
وأكد شوشكي أن العمل بقوانين وتشريعات البعث جعل حرية الرأي والتعبير شبه معدومة أو ليست بالمستوى المطلوب، لافتا إلى أن اللجنة القانونية النيابية تسلمت أكثر من مرّة مشروع حرية الرأي والتعبير إلا أن الكتل السياسية الكبيرة تعطل ذلك.
التباس وفروقات
وعن أبرز الفروقات بين حرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور العراقي الدائم المصوّت عليه عام 2005، وما يدخل في خانة “إهانة” السلطات، وكيف يمكن التمييز بينهما من الناحية القانونية، يقول الخبير القانوني طارق حرب إن أساس المشكلة في هذه المادة يعود إلى كيفية تحديد جنس الفعل هل هو “إهانة” أم تعبير عن “الرأي”، وهي حالة سائدة في كثير من دول العالم، فضلا عن التداخل بين ممارسة العمل الإعلامي والشخصي.
ولخبراء الإعلام الحق في تحديد جنس الفعل سواء كان “إهانة” أو تعبيرا عن “الرأي”، بالإضافة إلى ظروف القول، بمعنى أدق يشرحه حرب للجزيرة نت؛ فمثلا أن يُنتقد شخص مسؤول في الدولة أثناء وظيفته حالة مقبولة لكن الأمر يختلف عند التحدّث أو التدخل في شؤونه الخاصة غير الوظيفية، لأنها قضية شخصية، مستندا في ذلك إلى أن الموضوع ليس محكوما بشخص وإنما بظروف.
وينهي حرب الخلاف في هذا الالتباس عند الوصول إلى المرحلة التي يكون فيها الفعل فضيلة وهو حرية التعبير أو رذيلة أي القذف والسب، وهي حالة لم يتوصل أصحاب الشأن إلى حلّها حتى الآن.
منظومة شائكة
ويأتي ذلك كله في وقت تعدّ فيه منظومة القوانين العراقية منظومة شائكة ومعقدة وفيها كثير من التداخلات، وهي بطبيعتها أو وفق أطر سنّها آخذة بالاعتبار الطيف المجتمعي في البلاد، ولا ينسجم هذا التوصيف فقط مع القوانين والقرارات التي صدرت أو تصدر بعد 2003، بل حتى في القوانين السابقة وقرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، حسب الكاتب والصحفي جبار بجاي الحجامي.
ويُفضل الحجامي المضي بالعمل بتلك القرارات بدلا من تعديلها أو إلغائها، عازيا السبب في ذلك إلى أن الأمر يحتاج إلى وقت طويل وتوافقات وربما صراعات كما يحدث الآن في سنّ قوانين وتشريعات جديدة، أما الإلغاء فهو أمر شمل بعض القرارات القسرية والمجحفة ضد فئات مجتمعية بعينها وهو إجراء سليم وصحيح.
ويرى الصحفي العراقي أن انتقال البلاد من مرحلة الدكتاتورية إلى الديمقراطية ليس معناه نسف كل شيء، لذلك استمر العمل بكثير من القرارات والقوانين السابقة، معتبرا أنه أمر مقبول فليس بالضرورة أن تتعارض مع الدستور.
وفي ردّه على سؤال للجزيرة نت عن مصلحة الأحزاب الحاكمة من استمرار العمل بهذه القوانين، وما إذا كانت تستغلها لكمّ أفواه المعارضين أم لا، يقول الحجامي إن هذا الأمر غير وارد في محل، و ربما هو موجود في محل آخر أو ضمن مجموعة قوانين وقرارات لا تزال نافذة.
ويضيف أن الأحزاب الحاكمة الممثلة في البرلمان لا تخشى شيئا لو أرادت سنّ قوانين وتشريعات تحميها، وكم من قرارات وقوانين صدرت بشكل مفصل لها ولجمهورها رغم اللغط والجدل اللذين أُثيرا حولها، ومنها على سبيل المثال قانون جرائم المعلوماتية الذي تمت قراءته مرتين وجوبه بانتقادات واعتراضات شديدة مجتمعية وشعبية وقانونية أيضا.
ديمقراطية مشروطة
بدوره يؤيد المحلل السياسي العراقي علي البيدر ما ذهب إليه الحجامي من صعوبة إلغاء كثير من القوانين التي سنّها النظام السابق ما لم يتم إقرار قوانين جديدة تحل محلها لتسيير أمور البلاد رغم تعارض بعضها مع الدستور.
والمنظومة السياسية في البلاد- حسب البيدر- وبعد قرابة عقدين من الحكم ترى أن الديمقراطية المطلقة تضرّ بمصالحها وهي تسعى إلى ديمقراطية مشروطة تعمل من خلالها على فرض إرادات معينة وقمع الأصوات المتمرّدة، لذلك فهي تماطل في إلغاء قوانين قديمة أو إقرار أخرى جديدة تكون أكثر ديمقراطية.
وينتقد البيدر -في ردّه على سؤال للجزيرة نت- ما إذا كان البرلمان العراقي جادًّا في هذا الأمر، لأن المجلس لم يهتم سوى بالقوانين التي تمسّ مصلحته ومنها قانون إسقاط الجنسية كون الكثير من السياسيين والنواب كانوا مشمولين بهذه الفقرة لذلك حرصوا على تعديله.
وتساءل البيدر قائلا “ألم يكن من الأجدر بالبرلمان ومنذ دورته الأولى إنشاء مؤسسة قانونية مؤقتة تُعنى بتشذيب قرارات مجلس قيادة الثورة السابقة إلى حين إصدار قوانين جديدة تلغي القرارات التي لا تتناسب مع مبادئ الديمقراطية؟”.
ورجح استمرار الحال في العراق عقودا عدّة كون البرلمان غير قادر على التشريع ومراقبة الأداء الحكومي وإلغاء القوانين والقرارت السابقة في الوقت نفسه، ولا سيما في ظل حالة التجاذبات السياسية التي تظهر بعد طرح أي موضوع.